إن وظيفة الإنسان ورسالته، بل الغاية من خلقه في الحياة، هي العبادة لله وحده، سبحانه وتعالى... ﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنْسَ إلاَّ لِيَعْبُدُونِ﴾ (الذريات:56).

إنها العبادة بمفهومها الإسلامي الواسع الشامل الذي لا يتحقق وجوده، ولا إنسانيته ولا سعادته ولا حريته ولا كرامته بل ولا حضارته إلا بإخلاص هذه العبودية لله رب العالمين؛ لأن نفسَه عِزُّها الحقيقي في ذلها الكامل لربِّها، فالعبودية هي كمال الذلّ وكمال الحب.

لهذا فالمسلم هو العبد الحر، وعبادته لخالقه تستغرق عليه كلَّ لحظات ودقائق وساعات نهاره وليله، إنه عابد لله آناء الليل وأطراف النهار في كل حركة وسكنة، فهو عابد لله في المسجد والبيت والمؤسسة والعمل والوظيفة والشارع، فأينما توجَّه أو سار أو أقام فثمَّ وجهُ الله.

إنَّه عابدٌ في حياته التعبدية- الشعائر- وفي شرائعه وفي قوانينه الحياتية، عابد لله في حياته التعليمية، والعملية والعلمية والسياسية والاجتماعية والسلوكية والعائلية في حياته العامة والخاصة، عابد في إدارياته وتخطيطه، عابد في توجهاته واستراتيجياته، عابد حين يحقق حضارته، فأبرز ما يميز حياته هو العبادة لله سبحانه وتعالى، فحظُّه الثابت في حياته هو العبادة للواحد الأحد، الفرد الصمد، الذي لم يلد ولم يولد، ولم يكن له كفُوًا أحد، بشرط أن تكون النية في كل هذه الأنواع- من الأنشطة والسلوك- خالصةً لوجه الله الكريم... "إنما الأعمال بالنيَّات، وإنما لكل امرئٍ ما نوى"، وكذلك فإن أجمل حياته ما يضبطها بالعبادة، وأسعد أيامه ما يطعمها بطعم العبادة ﴿وَمَا أُمِرُوا إلاَّ لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ﴾ (البينة:5).

المؤمن لا يتخلَّى عن العبادة:
لهذا فإن المؤمن يعرف أن الحياة الحقّة في هذه العبادة، وبدونها يكون الموت، ولو دب على الأرض بقدميه، وأكل وشرب وسقى في الأرض ومشى في مناكبها ﴿أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾ (الأنعام:122).

من أجل ذلك فهو لا يمكن أن يتخلَّى عن العبادة ولو وضعوا الشمس في يمينه والقمر في يساره، فكيف يتخلَّى عن حريته التي كمالها في عبادته؛ لأن من عبَد الله حقَّ عبادته خافَه كلُّ شيء، واعتز بعزة الله فلا يفرط في كرامته، ولا يعطي الدنيّة من دينه، ولا يستذله مخلوق، كيف وهو يردد ﴿إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ﴾ (الفاتحة:5)... فكيف يجبُن أمام طاغية ومعه الله العزيز القهار؟ وكيف يضعُف أمام جبار وهو يردِّد ﴿اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِنْ دُونِهِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ﴾ (الزمر:36).

إنه يستعلي بإيمانه، ويستمسك بثوابته، ومهما تقدم وصعد إلى القمر أو غاص في أعماق البحار، وحصّل من العلوم والمعارف، وأقام من المصانع والمعاهد والجامعات ما أقام، وخطط ودبر... فيجب أن يكون سعيُه الدؤوب، وجهدُه المتواصل، وتفوقُه العلمي وتقدمه التكنولوجي والمادي لِيُرضي الربَّ سبحانه وتعالى... ﴿وَأَنْ لَيْسَ للإنْسَانِ إلاَّ مَا سَعَى، وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى، ثُمَّ يُجْزَاهُ الْجَزَاءَ الأَوفَي، وَأَنَّ إِلَى رَبِّكَ الْمُنْتَهى﴾ (النجم: من 39-42)، فلابد أن يسبّح بحمد ربه ويقدّسَه، فتحقيق العبودية والفوز برضا الله هو هدفه بل غايته، حقق حضارته الإسلامية في عمره المحدود أو لم يحققها على أرض الواقع، طالما أنه التزم بمنهاج النبوة في جميع خطواته وتخطيطاته.

ولذلك لابد له من نية صحيحة، وقلب سليم، وهي إقناع العقل، وعزم القلب، وانبعاث الهمة، والعمل الذي هو الاستجابة السلوكية، والتعبير الإيجابي عن القناعة العقيدية والنفسية والفكرية، ودليل صدقها، وبشرى المؤمن في نهاية رحلته في هذه الدنيا ﴿إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ ألاَّ تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ، نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ، نُزُلاً مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ﴾ (فصلت:30-32).

هذه البداية التعبُّدية كانت السبيل الذي جعل القبائل المتناحرة والشراذم المتنافرة، والحفاة العراة... رعاة الشاة، الذين احترفوا الإغارة وقطع الطريق، والذين كانوا يعظِّمون العصبية، ويتغزَّلون في الخمر، خير أمة أخرجت للناس، يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويؤمنون بالله، وأشداء على الكفار رحماء بينهم تراهم ركعًا سجدًا، يبتغون فضلاً من الله ورضوانًا، سيماهم في وجوههم من أثر السجود، ومن هذا المنطلق الذى بدأوا به ﴿كَانُوا قَلِيلاً مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ، وَبِالأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ، وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ﴾ (الذريات:17-19).

نشروا الدعوة، وأقاموا أركان الدولة، وشيّدوا حضارة الإسلام؛ لهذا السبب ومن هذا المنطلق أصر الإمام "البنَّا" على هذه البداية، وكان يقول: "إنَّ الإخوان أعقل وأحزم من أن يتقدموا لمهمة الحكم ونفوس الأمة على هذا الحال، فلابد من فترة تنشر فيها مبادئ الإخوان وتسود، ويتعلم فيها الشعب كيف يؤْثر المصلحة العامة على المصلحة الخاصة"، ولا يتحقق ذلك إلا إذا أحسن كل فرد علاقته بالله وحقَّق عبوديته له.

إن الانتظار الإيجابي- حتَّى تنضج الثمرة على هذا الفهم، ويصبح واقعًا مرئيًّا بالدعوة والإقناع، والتربية الهادئة المتأنية التي لا عجلة فيها- ليس توقفًا ولا تلكؤًا كما يتصور البعض ويقول: ماذا حققتم طوال هذه الأعوام؟!، بل هي الحكمة بعينها، والأخذ بسنن الله في الدعوات ﴿وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ إِنَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَفْعَلُونَ﴾ (النمل:88).

مقومات الحضارة:
ولهذا ينبغي علينا أن نتعرَّف على مقومات الحضارة الإسلامية وأصولها؛ حتى لا ننخدع بالمظاهر، ويجذبنا السعى إلى تحقيق المظهر، ونترك أو نهمل الجوهر الذي يبنى عليه، والذي تنطلق منه مظاهر حضارتنا ﴿أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى تَقْوَى مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٍ خَيْرٌ أَمْ مَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى شَفَا جُرُفٍ هَارٍ فَانْهَارَ بِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ﴾ (التوبة:109) وهذه المقومات هي:
• العبودية لله وحده وتحقيق عقد الإيمان.
• التجمع على آصرة العقيدة فيه وتحقيق عقد الأخوة.
• استعلاء إنسانية الإنسان على المادة والمحافظة على كرامته وحريته.
• سيادة القيم الربانية التي تنمِّي إنسانية الإنسان لا حيوانيته.
• حرمة الأسرة باعتبارها لبنة المجتمع الصالح.
• الخلافة في الأرض على عهد الله وشرطه.
• تحكيم منهج الله وشريعته وحدها في شئون هذه الخلافة وعمارة الكون بهذا المنهج.
وبذلك يكون من الطبيعي أن تكون الحضارة الإسلامية ثمرةً طيبةً من شجرة طيبة أصلها ثابت وفرعها في السماء تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها.

فابدأ بنفسك، وادع غيرك، وأقم دولة الإسلام في قلبك تقُم على أرضك، وتحقق حضارتك.