كتب- عمرو محمود

في هذه اللحظة التاريخية الفارقة، وفي ظل التحديات الخطيرة التي تواجهها الأمة لا يكون بوسع أي مخلص إلا الانحياز الكامل لهوية الأمة وتراثها وتاريخها.

 

هذا ما فعله المؤرخ القاضي المستشار طارق البشري في كتابه (الحوار الإسلامي العلماني) الذي أثار عليه ثائرةَ المتطرفين من العلمانيين والماركسيين وشراذم أعداء الهويَّةِ العربية الإسلامية.

 

في مقدمة الكتاب يصدم المؤلف قارئه بأن الحوار الإسلامي العلماني لا يُنتظَر منه نتائجُ إيجابيةٌ مثلما حقَّق الحوار الإسلامي القومي الذي أسفر عن نتائجَ مهمةٍ أبرزها اتفاق التباين في وجهات النظر حول التحديات الكبرى التي تواجهها الأمة، وأبرزها الهيمنة الأمريكية والصراع مع العدو الصهيوني، وهما أخطر التحدِّيات التي تهدد الوجود العربي والإسلامي على السواء، فضلاً عن شعوب وأُممٍ أخرى كثيرة.

 

وبالعودة إلى التاريخ نجد أن العلمانية بدأت في غزو البلاد الإسلامية ومن بينها الوطن العربي في مطلع القرن التاسع عشر، عندما بدأ الضعف يدبُّ في جسد الدولة العثمانية القائمة بالخلافة الإسلامية في ذلك الوقت، ولا ينفكُّ هذا التاريخ عن المواجهة السياسية والعسكرية بين الغرب والعالم الإسلامي التي توالت أحداثها طوال القرنين الأخيرين المنصرمين، وهو الأمر الذي جعل المفكرين والقادة السياسيين العرب والمسلمين يبحثون عن مكامنِ القوَّة في الغرب ويعملون على نقلها، ليتعرفوا على مكامن الضعف في أنفسهم ليتبيَّنوا سبيل العمل على تلافيها، وجرى ذلك في كل المجالات، لكن القوة العسكرية والسياسية المدعومة بالتفوق العلمي والتنظيمي أطاحت بميزان التقدير في أيدي مفكري العالمَيْن العربي والإسلامي، وشهدت أواخر القرن التاسع عشر الاقتحامَ العسكري والسيطرة السياسية التامة للغرب، ورغم ذلك كانت مفاهيم الإسلام هي السائدةَ في كلا بقاع العالم الإسلامي.

 

مشروع محمد علي

يحتل محمد علي- والي مصر سنة 1805م وحتى منتصف القرن التاسع عشر- مكانًا مهمًّا في تاريخ مصر الحديث والمعاصر، ومن ثم ثار الجدل حول مشروعه في بناء الدولة الحديثة، وتراوحت فيه الآراء بين السلب والإيجاب، لكن المستشار طارق البشري يتبنى رؤية المؤرخ محمد شفيق غربال، والتي تتلخص في أن محمد علي بدأ وانتهى عثمانيًّا مسلمًا، ويستدل في هذه القضية المعقدة بما جرى في حروب محمد علي في الشام التي حقَّق فيها ابنه إبراهيم انتصاراتٍ خارقةً، ثم استشار أباه في التقدم إلى استانبول بعد اتفاقه مع رشيد باشا قائد الجيش العثماني المهزوم، لكن محمد علي رفض خشية الغرب، ويستنتج المستشار طارق البشري من ذلك أن هدف محمد علي لم يكن الاستقلال عن الدولة العثمانية وإنما الصعود إلى قمتها.

 

ويضيف إلى ذلك قرائن أخرى منها تأييد عدد من القادة العثمانيين له باعتباره قائدًا عثمانيًّا يقوم بثورة أو انقلاب، وتجلى ذلك في حديث ابنه إبراهيم إلى المندوب الفرنسي قائلاً: "إن الأمة الإسلامية لا تريد حكم السلطان محمود، فبأي حق تُرغمون هذه الأمة على ما لا تريد؟" بل ذكَّره بأن أوروبا نفسها تنادي بحق كل أمة في اختيار ولي أمرها.

 

ومنها أيضًا أن حروب محمد علي في الجزيرة العربية- التي يدينه فيها المؤرخون، وكذلك حروب اليونان- كانت تنفيذًا لسياسات الدولة العثمانية وبناءً على تكليفٍ مباشرٍ منها إلى أحد ولاتها وهو محمد علي الذي نفَّذ المطلوب منه، وهو في حالة ولاء كامل لدولة الخلافة الإسلامية.

 

البعثات

وبالطبع جرت أحداث التاريخ على غير ما يريد محمد علي، وتم ضرب مشروعه وهو ما زال وليدًا يتحسَّس خطواته الأولى، لكن اللافت للنظر أن مشروع محمد علي اعتمد سبيل البعثات العلمية إلى أوروبا لنقل علوم الصنائع وفنونها أي العلوم الطبيعية، أما العلوم الإنسانية فلم تكن على نفس القدر من الاهتمام، بل كانت جد قليلة، كما يُلاحَظ أن محمد علي اهتم في تدريب جنده بالجانب الديني، والتأكيد على فكرة الجهاد، وتعيين وعَّاظ الأزهر أئمةً للبعثات العلمية وفي الجيش.

 

ويستدل الأستاذ البشري بهذه الملاحظة على فساد الزعم بأن محمد علي أقام نظامًا علمانيًّا أو أن تاريخ النظم العلمانية يبدأ به، ذلك أن محمد علي أخذ عن أوروبا العلوم العسكرية والطبيعية لتخدم كيانًا إسلاميًّا بكل تاريخه وموروثه العقدي والفكري.

 

وبعد إجهاض مشروع محمد علي، تحوَّلت البعثات التعليمية إلى العلوم الإنسانية وبخاصة ما يتعلق بالآداب وتربية الوجدان وصياغة العقول والرؤى الحضارية.

 

وبالمقارنة بين بداية البعثات التعليمية في أوائل القرن التاسع عشر ومثيلتها في أواخره، يشير الأستاذ البشري إلى أمرين:

 

 الأول: إننا كنا نحاكي نماذجَ ولم نكن نحاكي فكرًا وعقائدَ، ورغم ذلك كانت هذه المحاكاة مدانةً ولا تثبت أمام النقد والتقويم.

 

والثاني: إن من الوظائف الأساسية للوفود الأجنبية أو الآخذين من الغرب في تلك الفترة ما كان يتمثل في تهيئة البيئة المحلية للهيمنة الأوروبية عليها، سواء من النواحي الاجتماعية أو السياسية أو الاقتصادية، ومن الأمثلة على ذلك أن إنشاء أول مجلس وزراء في مصر عام 1878م كان بإملاء إنجليزي فرنسي للتوصل إلى مشاركة الأجانب للخديوي في حكم البلاد، وتم تشكيل الوزارة برئاسة نوبار باشا- رجل المصالح الأوروبية في مصر- وفيها وزير إنجليزي للمالية وآخر فرنسي للأشغال العامة.

 

وجرى شبيه لذلك عام 1876م في الدستور العثماني الذي تم إعلانه بواسطة الحركة السياسية التي قادها مدحت باشا عميل بريطانيا الفعلي في دولة الخلافة الإسلامية.

 

أما المثال الثالث الذي يسوقه فيتعلق بما سُمِّي بالإصلاح القضائي في بلادنا، وهو الذي تغير به النظام القضائي كله، وأخذ فيه عن التقنينات الفرنسية في الأساس، وقد بدأ ذلك بحركة التنظيمات في الدولة العثمانية، ثم بإنشاء المحاكم المختلطة، ثم استيراد التقنينات الرئيسية، النظام القانوني في الأساس والنظام القضائي من أوروبا وبخاصة فرنسا.

 

من هذه الأمثلة الثلاثة يتضح ما الذي كانت تؤديه الوظيفة الأساسية للوفود الأوروبية في ذلك الوقت، أما الحركات الوطنية المناهضة للوجود الأوروبي في بلادنا فقد كانت في تلك الفترة لا تزال تصدر عن المرجعية الإسلامية، وحتى النماذج المنقولة عن الغرب كان يتم إخضاعها للأسس العامة للشريعة الإسلامية، أي أن النهضة الوطنية كانت تصدر في الأساس عن قاعدةٍ إسلاميةٍ.

 

وكان الاستعمار وحلفاؤه المحليون متغربين في الأساس، وبقي الإسلام متصلَ الأواصر بنظام الحياة على مدى القرن التاسع عشر، وكان روَّاد حركات مقاومة الاستعمار والمنادون بالنهضة من ذوي المرجعية الإسلامية، أمثال الشيخ جمال الدين الأفغاني والإمام محمد عبده وعبد الرحمن الكواكبي ورشيد رضا ومن كانوا على شاكلتهم.

 

وهو الأمر الذي ينفي تمامًا أي دورٍ للعلمانية أو العلمانيين في هذه الفترة، لكن في هذه الأثناء كانت جراثيم الغزو الفكري والثقافي قد بدأت في التكاثر، لتبدأ دورها المشبوه بعد ذلك بفترةٍ وجيزةٍ، ورغم ذلك ظلَّت الفكرة الإسلامية راسخةً لدى الجماهير فنشأ الحزب الوطني بقيادة مصطفى كامل المسلم لحمًا ودمًا وعظمًا، وامتدَّ هذا التيار إلى الآن.

 

ترويج الفكر الغربي

مع نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين بدأ الفكر الغربي يُروَّج بنظرياته السياسية والاجتماعية والفلسفية، وبدأ زرع الفكر الوافد في تربيتنا العربية الإسلامية حتى أثمر بعد عدة عقود أفكارًا تناقض هويةَ الأمةِ وتراثَهَا وحضارتَهَا، وشهدت مصر عقب الاحتلال البريطاني إنشاءَ قاعدةٍ مستقرةٍ لضخِّ الفكر الغربي عن طريق التعليم الرسمي الذي وضع أسسه "دانلوب" المستشار الإنجليزي لوزارة المعارف العمومية، هذا بجانب مدارس الإرساليات التبشيرية أو المدارس العلمانية الفرنسية والإنجليزية، وكذلك صحيفة المقطم العميلة للاحتلال البريطاني ومجلة الهلال التي أسسها جورجي زيدان ومجلة المقتطف.

 

وفي لبنان أُنْشِئَت الجامعة الأمريكية، وفي الوقت نفسه كانت جمعية تركيا الفتاة تقوم بدورها في ضرب دولة الخلافة، وكذلك جمعية الاتحاد والترقي.

 

في الوقت نفسه كان التيار الوطني ذو المرجعية الإسلامية بارزًا، وقادَهُ في مصر صحيفة اللواء والحزب الوطني اللذان أنشأهما مصطفى كامل، وكانا في مقاومتهما للوجود الأجنبي ينزعان (منزعًا) إسلاميًّا صحيحًا، وبدا ذلك جليًّا في موقف جماعة الحزب الوطني وتياره العام في ذلك الوقت من فكرة الجامعة الإسلامية وحركتها وأسلوب تصديهم لقضايا المجتمع عامة ووجهتهم من موضوع الإصلاح المرتكز على أصول الشرعية الإسلامية.

 

الحرب العالمية

يرى المؤلف أنه بعد نهاية الحرب العالمية الثانية تبلوَّرت فكرة تبني خطى الفكر الغربي والأنساق المستوردة في المجالات كافة، ومع ذلك ظل التيار الإسلامي مستمرًّا منذ الأفغان وحتى مصطفى كامل، ثم ظهرت جمعية الشبان المسلمين، وجماعة الإخوان المسلمين التي طرحت الإسلام بديلاً عن الاقتداء بالغرب والخنوع المهين له، وانتشرت أفكار الإمام حسن البنا في شتى بقاع العالم الإسلامي؛ لتصبح ضميرَ الجماهيرِ المسلمة اليوم، وبالتالي أصبح في عالمنا تياران أحدهما إسلامي يصرُّ على إسلاميته، وآخر علماني يتعلَّق بأثواب الغرب البالية، بل يعيد إنتاج ما سبق أن أنتجه الغرب، ويزرع بذورًا في أرضٍ ليست مؤهلةً لأبنائها الآن؛ لأن فيها أشجارًا عاليةً وتاريخًا طويلاً يفرض نفسه كل حين.

 

انحياز ونقد

الانحياز للمشروع الإسلامي واضحٌ في كتاب المستشار البشري، لكن هذا لم يمنعه من توجيه النقد للحركة الإسلامية التي أشاد بها، وتركَّز نقده في مجالاتٍ مثل الاقتصاد؛ حيث يرى الأستاذ البشري أنه كان يجب على الحركة الإسلامية أن تبذل المزيد من الاهتمام بالاقتصاد الذي استحوذ العلمانِيُّون عليه، سواءً كانوا اشتراكيين أو رأسماليين، لكنه رغم ذلك يشيد بتجربة البنوك الإسلامية وشركات توظيف الأموال، باعتبارها مؤسساتٍ ماليةً يمكن أن تحل محل البنوك الربوية.

 

وفي مجال المؤسسات الاجتماعية يرى المستشار البشري أن الحركة الإسلامية لم تبذل الجهد الكافي للحفاظ على الوقت الذي يلعب دورًا محورًًّا في خدمة المجتمع.

 

وفي مجال السياسة يرى كذلك تقصيرًا في جانب السياسة الدولية والعلاقة مع الأقليات المسلمة في بلاد العالم المختلفة، لكنَّ النقدَ في هذا الجانب غيرُ دقيقٍ؛ ذلك أن الحركة الإسلامية موجودة بين الأقليات المسلمة في معظم بقاع العالم، وهو ما نرجو سيادة المستشار أن يراجعه خاصةً في أوروبا والولايات المتحدة الأمريكية.

 

نقد خفيف

وجه المستشار البشري نقدًا خفيفًا للعلمانيين في بلادنا، فلم يكن قاسيًا عليهم مثل الدكتور محمد عمارة الذي وجَّه اتهاماتٍ مباشرةً لبعضهم، وعجز العلمانيُّون عن الرد عليها.

 

فالأستاذ البشري لم يعمد إلى شيءٍ من هذا، ورغم ذلك تناولته الأقلام العلمانية بالنقد، وكأنَّ الرجلَ قد مس قدس الأقداس عندهم، فياليتهم يتخلَّوْن عن هذا التطرف.

 

أهم نتيجة في هذا الكتاب أنه لا مستقبل للحوار مع العلمانيين؛ لأن الخلاف معهم في الثوابت والأصول، ولأنه صراع بين موروثٍ ثقافي عريقٍ وثقافةٍ وافدةٍ.