متابعة: أحمد التلاوي

تفاعلت في الآونة الأخيرة قضية للأسف الشديد جاء التنبيه لها من جانب طرف حقوقي غربي على حين لم يتحدث عنها أي من المنظمات الحقوقية العربية بشكلٍ كافٍ، ونقصد بها هنا قضية معتقلي الإخوان المسلمين في ليبيا، والذين تراجع النظام السياسي الليبي الحاكم عن توقعاتٍ سابقةٍ كانت تؤشر إلى اعتزامه إطلاق سراحهم إلا أنَّ الإخوانَ في ليبيا لا يزالون رهن الأسر لدى نظامٍ سياسي ضلت بوصلة توجهاته منذ فترةٍ طويلة بحيث بات من الصعوبة بمكان التكهن بردة فعله تجاه أية قضية من القضايا صغرت أم كبرت.

 

وفي هذا الصدد كان هناك تطورٌ لافتٌ من جانب منظمة أمريكية لحقوق الإنسان تُعرف باسم منظمة "هيومان رايتس ووتش" أو "منظمة مراقبة حقوق الإنسان" وهي منظمة غير حكومية تعمل في مجال متابعة الانتهاكات المتعددة التي تتم في بقاعٍ عديدة من العالم لحقوق الإنسان وقبل أيام أصدرت هذه المنظمة تقريرًا حول الحالة السياسية والحقوقية في ليبيا وجاء بعنوان "من أقوال إلى أفعال: ضرورة الإصلاح في مجال حقوق الإنسان"، وخصص فقراتٍ وفصولاً كاملةً لملف السجناء السياسيين الذين ينكر النظام الحاكم في ليبيا أنه يحتفظ بهم، وكان المعتقلون الليبيون على رأسِ القائمة التي اهتمَّ بها التقرير.

 

وقبل التطرق إلى هذه القضية وما تطرحه في السياقِ من قضايا فرعية وجب علينا الإشارة إلى نقطةٍ مهمةٍ في هذا الصدد وهي أنه كان هناك اهتمامٌ مماثلٌ من جانبِ منظمات حقوقية غربية أخرى مثل منظمةِ العفو الدولية (أمنستي) في الفترة الأخيرة بقضية معتقلي الإخوان في ليبيا فيما لم نسمع حرفًا واحدًا حول هذه القضية الإنسانية قبل أن تكون قضية سياسية دون أن يكون لمنظماتِ حقوق الإنسان في العالم العربي أدنى اهتمامٍ تقريبًا بهذا الملف والسبب واضح بالطبع؛ وهو أنَّ المعتقلين هنا من التيار الإسلامي.

 

فرغم ادعاءات هذه المنظمات- منظمات حقوق الإنسان العربية- الحيادية والاهتمام بقضايا حقوق الإنسان في بلدان الأمة إلا أنها- باستثناء حالات نادرة- كثيرًا ما تهمل ملف الانتهاكات الحقوقية التي تتم بحقِّ الإخوان المسلمين أو أية قوى إسلامية أخرى لاعتبارات تتعلق بالوضعية السياسية والفكرية القائمة في بلدان العالم؛ حيث تُسيطر القوى الليبرالية والعلمانية المعادية للمشروع الإسلامي على مقاليدِ العمل الإعلامي والسياسي كما تستجيب بعضها لتوجيهات الأنظمة السياسية الحاكمة.

 

ومن هنا فإنَّ إشكاليةَ مصداقية هذه المنظمات الحقوقية على المحك ما لم تُسارع لتغيير الأدوات التي تعمل بها وهي فقط ملاحظة واجبة لعلها تحدث بعد ذلك أمرًا.

 

نموذج للسياسة الليبية!!

ضمن انتقادات عدة لانتهاكات حقوق الإنسان في ليبيا احتوى عليها التقرير الأخير لمنظمة الهيومان رايتس ووتش عن الحالة الحقوقية هناك أفرد فصل خاص للسجناء السياسيين في ليبيا وكان معتقلو الإخوان مضمنين في سياقٍ خاص وحدهم في التقرير.

 

"لم يبق إلا أن يعطينا سجادة صلاة ويطلب منا أن نركع أمام صورته ونتعبد له" هذه العبارة قالها السجين السياسي الليبي فتحي الجهمي في مقابلةٍ له مع قناة "الحرة" التلفزيونية الأمريكية الناطقة باللغة العربية في 16 مارس من العام 2004م قبل عشرة أيام من إلقاء القبض عليه"، بهذه الفقرة يبدأ الجزء الخاص بالسجناء السياسيين في ليبيا من تقرير المنظمة الأمريكية غير الحكومية.

 

 الرئيس االليبي معمر القذافي

 

ورغم نفي العقيد الليبي معمر القذافي لوجود سجناء سياسيين إلا أن تقارير الأمم المتحدة ومنظمات حقوق الإنسان ومن بينها العفو الدولية والهيومان رايتس ووتش تؤكد أن السجون الليبية يوجد بها العديد من الأفراد الذين جرى اعتقالهم لتعبيرهم السلمي عن آراء تتعرض للنظام الليبي بالانتقاد أو وجهات نظر سياسية مغايرة لوجهات النظر التي يتبناها القذافي ومجموعته.

 

وفي عصرِ حقوق الإنسان الذي نحياه الآن نجد أنَّ السلطات الليبية تتهم المخالفين بانتهاك قانون يُسمَّى باسم القانون "71" لعام 1972م الذي يحظر كل تجمع أو تنظيم أو تشكيل يقوم على فكرٍ سياسي مضاد لمبادئ ثورة الفاتح(!!) وتعاقب المادة 3 من هذا القانون بالإعدام كل مَن يُنشئ مثل هذه الجماعات، أو ينضم إليها، أو يُقدِّم لها المساعدة(!!).

 

وفتحي الجهمي هذا هو أبرز السجناء السياسيين في ليبيا حتى الآن ويبلغ من العمر 64 عامًا، وهو في الأصل مهندس ومحافظ إقليم سابق يحتجزه جهاز الأمن الداخلي منذ ما يزيد على 21 شهرًا دون محاكمة في معتقلٍ خاصٍّ في طرابلس بسبب تصريحاته هذه التي جاءت بعد فترةٍ وجيزةٍ من الإفراج عنه بعد أن اعتقلته قوات الأمن الداخلي الليبية في 19 أكتوبر 2002م بعد أن انتقد الحكمَ في ليبيا في أحدِ المؤتمرات الشعبية الأساسية في العاصمة الليبية طرابلس؛ حيث دعا إلى إلغاء الكتاب الأخضر- الذي يقول القذافي عنه إنه يحمل النظرية الثالثة بين الاشتراكية والليبرالية(!!!)- وإجراء انتخابات حرة في ليبيا، كذلك دعا الجهمي إلى إطلاق حرية الصحافة في بلاده والإفراج عن السجناء السياسيين.

 

ويقول تقرير الهيومان رايتس ووتش إنه بسبب ذلك حُكِم على الجهمي بالسجن خمس سنوات بتهمةِ "إهانة زعيم البلاد ونظام الجماهيرية"، إلا أنه وفي 1 مارس من العام 2004م التقى عضو مجلس الشيوخ الأمريكي جوزيف بايدن بالقذافي ودعا إلى الإفراجِ عن الجهمي وبعد تسعة أيام نظرت دائرة الاستئناف بمحكمة الشعب الليبية قضية الجهمي من جديد وحكمت عليه بالسجن عامًا مع وقفِ التنفيذ وأُفرج عن الجهمي في 12 مارس من ذلك العام.

 

إلا أنه وفي ذلك اليوم نفسه أدلى الجهمي بحديثٍ لقناة (الحرة) كرر فيه دعوته للإصلاح والديمقراطية في ليبيا ثم أدلى بحديثٍ آخر للقناة في 16 مارس 2004م وصف فيه القذافي بأنه "ديكتاتور" وفي 25 مارس قال لقناة (العربية) الإخبارية الفضائية إنه لا يعترف باللجان الثورية ولا يعترف بالقذافي زعيمًا لليبيا.

 

وفي اليوم التالي قُبض عليه وعلى زوجته فوزية عبد الله غوقة وأكبر أبنائهما محمد فتحي الجهمي ولا يزال الجهمي معتقلاً للآن كنموذجٍ للاعتقال السياسي في ليبيا بعد الإفراج عن زوجته وابنه في أواخر العام 2004م بعد ستةِ شهور من التعتيم الكامل على مصيرهم جميعًا.

 

قصة معتقلي الإخوان في ليبيا

على عادة النظم السياسية العربية في صدد محاربة التيار الإسلامي مع كون المشروع السياسي والاجتماعي الإصلاحي الذي يحمله الإخوان هو الأكثر تهديدًا لقواعد نظم الشمولية الفاسدة، وباتت مكروهةً من جانب شعوبها فإنَّ قصةَ معتقلي الإخوان في ليبيا لا تختلف كثيرًا عن قضية الاضطهاد الذي يُعاني منه الإخوان دعوةً وأعضاءَ ورسالةً سياسيةً في سائر عموم البلدان العربية والإسلامية.

 

وتبدأ أزمةُ الإخوان في ليبيا مع النظام الحاكم هناك والممتدة حتى الآن فيما يُعرف حاليًا في الإعلام العربي بقضية معتقلي الإخوان في ليبيا منذ العام 1998م وتحديدًا منذ يونيو في ذلك العام، حيث ألقت قوات الأمن الليبية القبض على 153 ليبيا أغلبهم من أساتذةِ الجامعات والمهنيين، بتهمةِ الانتماء لعضوية الإخوان المسلمين في ليبيا واحتجز هؤلاء الرجال لمدة تزيد على العامين في مكان السري دون السماح لهم بالاتصال بأسرهم أو محامييهم، فيما تعرَّض بعضهم للتعذيب.

 

وبدأت محاكمة الإخوان في ليبيا في مارس 2001م وبعد 11 شهرًا من المحاكماتِ وتحديدًا في فبراير من العام 2002م حُكِمَ على 11 من إخوان ليبيا بالسجن لمدةِ عشرة أعوام، وعلى 73 منهم بالسجن المؤبد من بينهم الدكتور عبد الله محمد شامية أستاذ الاقتصاد بكلية الاقتصاد بجامعة قار يونس، والدكتور عبد المنعم الحصادي الحاصل على دكتوراه في علم الكيمياء والذي كان أستاذًا محاضرًا بكليةِ العلوم بجامعة قار يونس، فيما حُكِمَ بالإعدامِ على كل من أستاذ الهندسة النووية السابق بجامعة الفاتح الدكتور عبد الله أحمد عز الدين ورئيس قسم الكيمياء بكلية العلوم جامعة قار يونس ببنغازي الدكتور سالم أبو حنك، وهما لا يزالا رهن الحكم بالإعدام اعتبارًا من يناير 2006م الحالي وبرئ 66 من المتهمين فيما بقي 86 من الإخوان الليبيين معتقلين.

 

وتحت ضغط دولي وفي 9 أكتوبر 2005م قضت المحكمة العليا الليبية بإعادة محاكمة الإخوان المعتقلين في ليبيا، وتمَّ تأجيل القضية ثلاث مرات ولم يُبت فيها للآن رغم كافة وعود النظام الليبي الحاكم بالإفراج عن كافة السجناء السياسيين في البلاد.

 

التحولات في السياسة الليبية

رغم كافة التحولات التي شابت السياسة الليبية في الفترة الأخيرة على المستويين الداخلي والخارجي إلا أنَّ هذه التحولات كانت باتجاهٍ واحدٍ هو الاتجاه الغربي بما يتضمنه ذلك من إشارات حول القضية الفلسطينية والعلاقات مع الكيان الصهيوني وتعويضات يهود ليبيا الذين هاجروا من ليبيا إلى الكيان الصهيوني قبل عقود خمسة.

 

وكما سبق وأن قلنا في موضوع سابق فقد ارتبط الخطاب "الإصلاحي" في ليبيا بشخص آخر غير العقيد معمر القذافي وهو سيف الإسلام القذافي النجل الأكبر للعقيد القذافي الذي استطاع عمليًّا إعادة دمج ليبيا في المجتمع الدولي مجددًا عبر مجموعة من التنازلات للغرب في قضايا مثل لوكيربي وتعويضات ضحايا الطائرة الفرنسية والملهي الليلي الألماني وتعويض اليهود الليبيين عن ممتلكاتهم في ليبيا، فيما بدا وكأنه توطئة لتهيئة الأمور في ليبيا لتوريث الحكم من القذافي الأب إلى سيف الإسلام نجله الأكبر.

 

هذه التحولات والتي تقاربت بها ليبيا مع الولايات المتحدة التي عادت شركات النفط فيها إلى العمل في الحقول الليبية، مجددًا تتضاد بالطبع مع ما سبق وأن أعلنه القذافي الابن قبل عدة شهور في صدد الإفراج عن السجناء السياسيين الليبيين بما فيهم معتقلي الإخوان في الاحتفالات الماضية بعيد ثورة الفاتح من سبتمبر في العام 2005م.

 

ولذلك ومع وضوح التقارب الغربي/الصهيوني- الليبي فقد كان ولا بد على ليبيا وأن تقوم على مستوى الحكم بالمزيد من التضييق على التيار السياسي الأهم في البلاد وهو الإخوان باعتبار أنَّ التيارَ الإسلامي هو العدو الأول للشموليات الحاكمة في العالم العربي ومن يدعمها في الغرب.

 

ورغم هذه الجهود للتقارب مع الغرب إلا أنَّ الطابعَ الرئيس للحكم في ليبيا بالذات فيما يتصل بملف حقوق الإنسان وحرية التعبير عن الرأي لا يزال كما هو من جهة التضييق على الصحفيين وأصحاب الرأي والسياسيين المعارضين.

 

ففي نوفمبر من العام الماضي 2005م حُكِمَ بالسجن خمسة سنوات على صحفي ليبي يُدعى عبد الرزاق المنصوري بتهمة معلنة وهي حيازة مسدس دون ترخيص دون الإشارة في حكم المحكمة للسبب الحقيقي للقبض على المنصوري وهو كتاباته التي ينتقد فيها النظامَ الليبي الحاكم ومطالبه الدائمة للإصلاح والتي ينشرها على أحد مواقع الإنترنت في بريطانيا.

 

وهكذا يبدو وكأن ادعاءات الإصلاح التي يتقول بها النظام الليبي الحاكم وقد ذهبت أدراج الرياح وتحول ملف إنساني مثل ملف السجناء والمعتقلين السياسيين في البلاد وعلى رأسهم معتقلي الإخوان المسلمين إلى مادة للمساومات السياسية والصفقات الليبية التي غالبًا ما تكون فاشلة!!