بسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله ومَن والاه، وبعد..

ففي هذه الأيام تحل علينا ذكرى استشهاد الإمام المجدد حسن البنا- رحمه الله ورضي عنه-، تلك الذكرى الثرية بالدلالات، الغنيَّة بالعبرِ والعظاتِ، الجديرة بالتأمل والوقفات، ونحن هنا لن نطيلَ الوقوفَ أمام جوانب شخصية إمامنا الشهيد، ولا دناءة قتله، ووحشية اغتياله، ولكننا نُركِّزُ على علاقةِ ذلك الاغتيال الآثم بمحاولةِ أصحابه التخلص من المشروع الإسلامي الوسطي الذي مثَّله الإمام البنا، وكان أبرز قادته والمجاهدين في سبيله، بل كان واضعَ ملامحِهِ وقسماتِهِ، ومجددَ وسائله وآلياته في عصرنا الحديث، مصداقًا لقول رسولنا الكريم- صلى الله عليه وسلم-: "يأتي على رأس أمتي كل مائة عام مَن يُجدد لها أمر دينها"..

 

تربية وجماعة

إنَّ الرجلَ الذي اغتيل في الثانيةِ والأربعين من عمره بعد أن شغل الدنيا، وترك في عالمنا العربي والإسلامي أبرزَ الأثر وأخلده كان شديدَ التمثُّل للمشروعِ الإسلامي الأول للتغيير الذي جاء به محمد- صلى الله عليه وسلم-، وقد فاق الإمام البنا معاصريه وكثيرًا من سابقيه من الدعاةِ والمجاهدينَ في أمرينِ: أولهما: هو انتهاج طريق التربية وتغيير النفوس وتربية الضمائر وبناء الإنسان في شتى جوانبه، لم يكتف الرجل بأن يكون واعظًا بليغ اللسان، أو خطيبًا بالغ الأثر، أو مجاهدًا فائق الحماسة، بل أراد أن يكون- مع كل ذلك- مربيًا يُدرك صحيح المنهج النبوي، ومراد الخطاب الإلهي في قوله تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ﴾ (الرعد: من الآية 11)، وثانيهما: هو إيثار العمل الجماعي على العمل الفردي، والصبر العجيب لتحقيق ذلك، والدأب المتواصل لجمع القلوب وتأليف النفوس، وإيضاح الغايات، وإبراز الوسائل، وإعطاء المثل والأسوة، وكان في إدراكه حتمية العمل الجماعي، وفرضيته الدينية، وضرورته العملية، آية في وضوح الرؤية منذ أيام دعوته الأولى- بل قبلها- فقد سُئل وهو بعد طالب في الجامعة عن غايته بعد تخرجه فيها، فقال: "أن أكون مرشدًا لجماعة دينية"، وحين كان بعض الناس يُعاتبه على انشغاله عن تأليف الكتب وتوثيق علمه الغزير كان يقول: "أنا أؤلف الرجال، والرجال يؤلفون الكتب".

 

ومن الحقِّ أن نقولَ إنَّ مر الأيام  والسنين قد أثبت صواب رؤيته، ورشيد منهجه، فلمَّا تآمر المجرمون لقتله، ونجحوا في ذلك، لم يكن غيابه غيابًا لمنهجه وفكره، بل حملت دعوته أجيالٌ تتلوها أجيالٌ، وامتدت فكرته لتغزو أقطارَ الدنيا بعد شهادته، وتجذَّرت جماعته في واقعِ الحياة، واستعصت على محاولات الإفناء، وتزايد أنصارها رغم المحنِ المتوالية، وحققت من النجاح الذي أراده صاحبها ما يشهد به العدو والصديق، وكان ذلك النهج هو العاصم الأول- بعد الله عز وجل- من غياب المشروع النهضوي الذي أراده الإمام الشهيد، وذهبت روحه فداءً له.

 

أهداف كبرى

وكما كان إمامنا الشهيد- رحمه الله- ملهمًا في اختيارِ وسائله لتحقيق غاياته، كان ملهمًا في تلخيص أهدافه وتعميقها في نفوس أصحابه، وبيانها للناس، ودعوتهم إليها.. وقد قال موضحًا ذلك: "اذكروا دائمًا أنَّ لكم هدفين أساسيين:

1- أن يتحررَ الوطن الإسلامي من كل سلطانٍ أجنبيٍّ، وذلك حق طبيعي لكل إنسان، لا ينكره إلا ظالم جائر أو مستبد.

 

2- أن تقوم في هذا الوطن الحر دعوة إسلامية حرة، تعمل بأحكام الإسلام، وتطبق نظامه الاجتماعي، وتعلن مبادئه القويمة، وتبلغ دعوته الحكيمة للناس، وما لم تقم هذه الدولة فإنَّ المسلمين جميعًا آثمون، ومسئولون بين يدي الله العلي الكبير عن إقامتها...

 

كان إمامنا الشهيد واعيًا بأنَّ معركةَ تحرير الأوطان لا ينبغي أن تستهدف فحسب إنهاء الاحتلال العسكري، بل يجب تحريرها "من كل سلطانٍ أجنبيٍّ، مهما تخفَّى أو تزيَّن بألوانٍ سياسيةٍ أو فكريةٍ أو ثقافيةٍ أو اقتصادية، وكان واعيًا حين قرر أنَّ الدولةَ الإسلاميةَ المبتغاة لا تكون كذلك إلا بتبنِّي كل شمول الإسلام في جوانبه السياسية والاجتماعية والأخلاقية والدعوية.. وكان عظيمًا حين أمضى شبابَهُ الغض في التصدي لتزييف الوعي لدى أمتنا بهذه الحقائق الكبرى، وتسويق الحلول المستوردة لديها، وترويض إرادتها لتقنع باستقلالٍ شكليٍّ منفوصٍ، أو هوية مجلوبة مفروضة تضيع معها ثمرات الجهاد الطويل والتضحيات السخية لأبنائها وقادتها.

 

وكان مجاهدًا بحق حين سار بمشروعه سيرًا عمليًّا حثيثًا، ومضى يُعطي القدوة بنفسه وجماعته، ويحيي في أمته سننَ الجهادِ، وينفخ فيها روح العزة، ويدعم القناعة بالقدرة على التصدي للمشروع الغربي العدواني المستعمر في شتى صوره، ويردد في إخوانه قوله: "لستم جمعية خيرية، ولا حزبًا سياسيًّا، ولا هيئة وضعية الأغراض محدودة المقاصد، ولكنكم روح جديد يسري في قلبِ هذه الأمة فيحييه بالقرآن، ونور جديد يشرق فيبدد ظلام المادة بمعرفة الله، وصوت داوٍ يعلو مرددًا دعوة الرسول- صلى الله عليه وسلم-، ومن الحقِّ الذي لا غلوَ فيه أن تشعروا أنكم تحملون هذا العبء بعد أن تخلى عنه الناس.."، ويهتف فيهم مؤكدًا: "لا تيأسوا فليس اليأس من أخلاقِ المسلمين، وحقائق اليوم أحلام الأمس، وأحلام اليوم حقائق الغد، ولا زال في الوقتِ متسع، ولا زالت عناصر السلامة قوية عظيمة في نفوس شعوبكم المؤمنة رغم طغيان عناصر الفساد.. والضعيف لا يظل ضعيفًا طول حياته، والقوي لا تدوم قوته أبد الآبدين..".

 

وكان صادقًا مع نفسه وجماعته وأمته حين سيَّر إخوانه للجهاد في فلسطين للتصدي للمشروع الصهيوني المدعوم بالاستعمار الغربي، وحين صرَّح في وقتٍ تالٍ بأنه على استعدادٍ للسير في عشرةِ آلاف من الإخوان المسلمين لإكمالِ الجهاد هناك.

 

وكان صادقًا مع نفسه وأمته وهو يربي الدعاة، ويثقف الكتَّاب، ويؤسس الشركات الاقتصادية والأندية الرياضية والجمعيات الخيرية، ويتواصل مع الآخرين من زعماء الوطن والعالم الإسلامي والعربي فتكون دار الإخوان ملتقى الأحرار، ومقصد القادة من أبناء أمتنا، ويستعلي على محاولاتِ الفتن الداخلية وشق الصفوف، ويُعلن مقولته الرائعة: "نجتمع على ما اتفقنا عليه، ويعذر بعضنا بعضًا فيما اختلفنا فيه"، ويجعل من بعضِ زعماء أقباط مصر مستشارين سياسيين له، وحين قتله المجرمون وأصروا على ألا يسير في جنازته أحد، ويحمل جثمانه نساء بيته، أصرَّ مكرم عبيد باشا- الزعيم القبطي المشهور- على أن يودع حسن البنا إلى مثواه الأخير.

 

قتله محاولة لوأد مشروعه الإسلامي

كان لا بد للاستعمار الغربي الذي اعتاد خسيس الوسائل ووضيعها لتحقيق مآربه أن يقتل حسن البنا بأيدي أتباعه في مصر، وقرر مندوبو فرنسا وبريطانيا وأمريكا في اجتماعهم في "فايد"- أثناء معركة فلسطين- أن يتم التخلص من البنا وجماعته، كانوا يريدون أن يُفسحوا الطريق أمام مرحلةٍ جديدةٍ يتولى فيها أزمَّة الأمور في بلادنا وأمتنا جماعةٌ من العسكر، عظيمةٌ مطامعهم، قليلٌ وعيهم، تسهل السيطرة عليهم أو توجيههم، ويمكن خديعتهم وإيهامهم بأنَّ المشروعَ الإسلامي خطرٌ على مستقبلهم وزعامتهم، وتمرر من خلالهم مأساة فلسطين، فيضيع الوطن، ويؤسر الأقصى، ويتمدد المشروع الصهيوني في فراغ عقدي وحضاري، فتُحتل أراضٍ من ثلاث دول عربية كبرى، وكانوا يرون في حسن البنا وجماعته سدًّا منيعًا أمام الغزو الفكري والتطويع الوجداني والعقلي لشعوبنا حتى تظل مبهورةً بالمشروع الحضاري الغربي، عالة عليه، خاضعة له.

 

ولم يرَ أصحابُ الحضارة الغربية وقادتُها بأسًا من إسباغ الرضا على الحكمِ الفردي والنزعة الاستبدادية في بلادنا ما دامت تحقق أهدافهم، وتدور في فلكهم، ليبرهنوا من جديدٍ أنَّ حضارةَ الغربِ في جوهرها عنصرية، ترى الحقَّ في الديمقراطية والحرية لآبائها فحسب، أما الآخرون فيعطَوا ذلك أو يُمنعوه بحسب تحقيقه للمشروع الغربي واتساقه معه.

 

ولم يروا بأسًا أن يُغتال حسن البنا على ذلك النحو المروع في أكبر شوارع القاهرة، وتُحل جماعته، ويُقتاد أبناؤها إلى سجون الطغاة، ويمضوا بين شهيد وجريح وأسير، ولا عجب، فهي ذات الحضارة التي خلف أبناؤها الغزاة في الجزائر قديمًا أكثر من مليون شهيد مسلم، وصنعوا حديثًا المجازر لأبناء أمتنا في أفغانستان والعراق، وفي البوسنة وكوسوفا، وفي فلسطين وغيرها.

 

بشائر النصر والتمكين

لكن ذلك المكر السيئ لا يحيق إلا بأهله، وها نحن أولاء بعد ما يزيد على نصف قرن من استشهاد الإمام البنا نرى بشائر النصر لمشروعه الإصلاحي تطل علينا من فلسطين التي راح فِداءً لحريتها واستقلالها، وتفوز "حماس" في انتخاباتها التشريعية لتقلب حسابات الأعداء رأسًا على عقب، كما تأتينا المبشرات بالتمكين من عديد من أقطار عالمنا الإسلامي.

 

ولسنا نأسى لآلافٍ من شهدائنا الذين قضوا في الطريق، فهم في جناتٍ مُكرمون.. أما الألوف من أبناء الإسلام الذين ما زالوا يسيرون على دربِ التضحية والشهادة فهم رواد النصر القريب إن شاء الله.. ﴿أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ (2) وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ (3)﴾ (العنكبوت).. ونحن على موعودٍ من ربنا بالنصر والتمكين.. ﴿وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمْ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا﴾ (النور: من الآية 55).

وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.