انضمَّت راشيل كوري- الفتاة الأمريكية الشابة- إلى حركة التضامن الدولية لمناصرة الشعب الفلسطيني، ووصلت إلى غزةَ لتساعدَ في أعمالِ الإغاثةِ والإسعاف، ثم ركَّزت بعد ذلك نشاطَها عند خطِّ المواجهةِ من أجل التصدي لعمليات هدمِ المنازلِ وتجريفِ الأرض والوقوف لحماية من كانوا يستخرجون الماء من بئر رفح خوفًا من تعرضهم لإطلاق النار عليهم، وذلك لاعتقادها- مثلها مثل الكثير من النشطين- أن لون بشرتها الأبيض سوف يجعلها نسبيًّا في مأمن من الخطر.

 

ولقد تركت لأمها رسالةً لطمأنتها، تقول فيها: "أعرف أني أسبب لكِ الخوف، غير أني أريد أن أرى وأكتب.. أنا أحبك يا أمي، ولكن دعيني أقاتل هؤلاء الوحوش"!!

 

فها هي فتاةٌ صغيرة، في ريعان شبابها لم تتجاوز الثالثةَ والعشرين من عمرها، مُحِبَّة لقيم الحق والعدل والحرية والسلام، اكتشفت بفطرتِها السليمةِ أن الشعبَ الفلسطينيَّ البطلَ الذي أثبتَ بدمائِه وتضحياتِه وبسالتِه أنه صاحبُ حقٍّ وأن قضيته عادلةٌ يستحق أن ينصره ويناصره الجميعُ، فجاءت ليست من إحدى الدول العربية أو الإسلامية، وإنما جاءت من قلب أمريكا فكانت أكثر إنسانيةً من كلِّ العاملين في الإدارات الأمريكية التي تعاملت مع القضيةِ الفلسطينيةِ، وبالذات إدارةُ بوش اليمينية المتصهينة، وكانت أعمق فهمًا لقيم الحق والعدل والحرية والسلام من كل هؤلاء، جاءت إلى أرض الجهاد، لا كسائحة أو متفرجة أو مبعوثة دولية أو مواسية، وإنما جاءت كمشاركةٍ أصيلةٍ في هذا النضالِ الشريفِ ضد قُوى البغي والعدوان.

 

ثم وقفت في شجاعة لا نظير لها بجسدها النحيل يوم 16 من مارس 2003م أمام الجرافة الصهيونية الضخمة الغاشمة لتَحُول دون هدم منزل فلسطيني، فداستها الجرافة بلا رحمة ولا شفقة، مع ترصد غير إنساني وسبق إصرار إجرامي، وداست معها كل القيم النبيلة التي عرفتها الإنسانية، ولكنها في الوقت ذاته خلَّدت راشيل كشهيدةٍ للحقِّ والعدل والحرية والسلام، ومن خلال أممية لا ترتبط بأية أيديولوجية، وإنما تتأسس على ما هو أسمى وأرفع، إنها أخوَّة البشر وآلياتها الحب والتعاون الإنساني لخير البشرية.

 

تركت راشيل كلَّ مباهج الحياة في دولة متقدمة، وكل مظاهر ومتع حضارة مادية، وكل الخيارات الواسعة المتاحة في دولة الرفاهية، بل الحقوق الفطرية الطبيعية لفتاة في أوائل العشرينيات من عمرها، واختارت بملءِ إرادتِها السوية أن تكون في قلبِ معركة الحق والعدل والحرية والسلام، اختارت أن تكون بجانب الحلم الإنساني لإرساء نظام عالمي جديد، قائمٍ على الحب والتعاون والسلام، فبينما تعد هذه الجريمة حالةً صارخةً للبطش الصهيوني الوحشي، فإنها تعد بالقطع بالنسبة لراشيل حالةً ليست مضيئةً فحسب، بل شديدة الضوء، لنضال الإنسان مع أخيه الإنسان قمعًا للبطش وردًّا للاعتداء، ووقفًا للظلم، ومقاومة للاحتلال، فهل يوجد في هذه الحياةِ الدنيا أرفع وأسمى وأنبل من هذا الموقف؟!

 

موقف مجرد من كل مصلحة ذاتية، موقف بعيد تمامًا عن أي هدف شخصي، موقف لا يرتبط بأي غرض خاص، سوى إظهار الإنسانية في أسمى معانيها، والبشرية في أرقى صورها، والنضال في سبيل الحق والعدل الحرية والسلام كيف يمتلكها الإنسان ويوظفها لكي يسود هذا العالم الحب والخير.

 

أدركت راشيل يقينًا أن كل دول العالم وتنظيماته ومؤسساته الدولية والإقليمية والقطرية تصغر تمامًا أمام تكالبها على المادة، وتضحيتها بالمبادئ أمام المصلحة المادية، أما تنظيم يجمع محبي الحق والعدل والحرية والسلام- متمثلاً في حركة التضامن الدولية- فهو أحق أن يتبع فسارعت إلى الانضمام إليه لمناصرة الحق الفلسطيني، وضحَّت بروحها في سبيل الحق، وشاركها في تضحياتها نبيل وسمو وجسارة، ليس الاستشهاديون الفلسطينيون وهم كثير فحسب، وإنما ناشطو الحركة أيضًا، أمثال "بريان افري" الناشط الأمريكي و"توماس هورندال" الناشط البريطاني.

 

تركت راشيل صراع المرأة ضد الرأسمالية المتوحشة، والذي انقلب إلى صراع المرأة ضدَّ الرجل باسم حركة التحرر النسوية، على أنه صراعٌ فاسدٌ من إفرازات الحضارة الغربية المادية، كما رفضت أن تكون عضوًا في ثقافة الاستهلاك الأمريكية ومنتجاتها النسوية، كما عافت نفسها الأبية أن تختزل كسلعة استهلاكية.

 

واختارت بفطرتِها السليمةِ أن تشتركَ في حركةِ النضالِ ضد القهرِ والظلمِ وكلِّ ما هو باطلٌ، ولم تجد تجسيدًا لهذا النضال بحق أفضل من المشهد الفلسطيني، فكانت بحق داعيةً عظيمةً للحقِّ والعدلِ والحريةِ والسلام، ودفعت في سبيل هذه الغاية النبيلة روحَها تحت عجلات الجرافة الصهيونية قبل أيام قليلة من الغزو الأمريكي الإنجليزي التتاري الغاشم للعراق، وقفت إذًا راشيل ليس أمام الجرافة الصهيونية، وإنما أمام الحلم الصهيوني غير المشروع الذي يتحدث عن أرض (إسرائيل) أو أرض الميعاد أو الجغرافيا المقدسةِ والذي يريد عتاةُ الصهاينة أن يحققوه على حساب أصحاب الأرض الأصليين الفلسطينيين، فكان القرار الإجرامي غير الإنساني بسحقها تحت عجلات هذه الجرافة!!

 

وأخيرًا.. ماذا نفعل تخليدًا لذكرى هذه المناضلة الشابة، لا أقلَّ من أن نُثبت المبادئ السامية التي ناضلت من أجلها، خاصةً بين شبابنا، والمتمثلة في مقاومة الاستبداد ومناهضة الظلم ومحاربة الفساد على الصعيد المحلي، ودعم الانتفاضة والمقاومة الفلسطينية والعراقية على مستوى الأمة بكل ما نستطيع، وهو كثير إذا ما اعتمدنا جماعيًّا على الذات، وبنينا القوة الذاتية للأمة وكان لدينا الاستعداد للتضحية الحقيقية بكل شيء، نعم كل شيء النفس قبل المال، في سبيل تحقيق المبادئ والقيم النبيلة والجميلة التي ناضلت من أجلها راشيل كوري لخيرنا ولخير البشرية جمعاء، وحقيقةً كما قال برنجيت: حين يستشهد من لم يكافح وحده، فالعدو لم ينتصر بعد وأضيف: ولن ينتصر في النهاية سوى صاحب الحق بمشيئة الله تعالى.