يُعدُّ ملف الأقباط في مصر من الملفاتِ الشائكة الحرجة التي يحرص الكثيرُ على الابتعادِ عنها، وعدم الخوضِ في غمارها، لما يحتويه هذا الملف من حرج، ولما يُحيط به من أشواك.

 

وحتى كتابة هذه السطور كنتُ واحدًا من هؤلاء، غير أني لم أعد أحتملُ السكوت عمَّا يجري في الساحةِ فيما له علاقةٌ بهذا الملفِ فقد طفح الكيل وتكسرت الحواجز، وتخبطت كل الخطوط الحمراء، مما يجعل السكوت ليس من ذهبٍ ولا حتى من حديد، بل أزعم أنَّ السكوتَ عمَّا يجري هو في حقيقته جريمة في حقِّ أبناءِ هذا الوطن: أقباط قبل مسلميه، فقد اختلطت الأوراق، والتبس الحق بالباطل، وتاهت كل الحقائق إلا حقيقة واحدة، على العقلاء من أبناءِ الأمة أقباطًا ومسلمين- أن يعوها قبل فواتِ الأوان: لقد بات الأمن القومي المصري مهددًا بشكلٍ مباشر وصريح مع وصول المسألة لحد مناقشة شكاوى أقباط مصريين في الأمم المتحدة (الأمريكية)، وهنا تستدعي الذاكرة ذلك السيناريو القبيح الذي ما زال مستمرًّا حتى الآن في العراقِ الشقيق، بدءًا بجاي جارنر وبول بريمر، وصولاً إلى زلماي خليل وبيان صولاج، فالتقارير جاهزة، والقرارات كذلك، والخطط تمَّ إعدادها ولم يبقَ إلا الوقت والأداة الملائمين للتنفيذ.

 

ولقد وجدت أمريكا ضالتها في حفنة من بني جلدتنا، يتحدثون بلغتنا ويحملون أسماءنا، وجدتُ فيهم أداة طيعة لتنفيذ مشروعها الصهيوني بالمنطقة، وبما أنَّ كلَّ شيء بحسابه فقد أخذ هؤلاء على عاقتهم المهمة، مهمة إثارة الفتن وزعزعة الاستقرار وضرب الوطن في أعزِّ ما يملك، وحدته الوطنية، وصار هؤلاء يتلقفون كل شاردة وواردة ويضخمون الأحداث بل ويختلقونها في معظم الأحيان والهدف معلن وصريح.. يا أهل الغرب الحقونا.. الأقباط مضطهدون يجب إنصافهم.. أسرى يجب تحريرهم!!

 

وأزعم أنَّ هذه الفئة قد سممت الأجواءَ بشكلٍ حادٍّ وخطير وبات أمننا الاجتماعي في مهبِّ الريح، وصرنا على مقربةٍ من نارٍ لو اشتعلت- لا قدر الله- فسوف تقضي على الأخضرِ واليابس فقد وصلت الصفاقة ببعضهم إلى حدِّ الإعلان صراحةً عن الاستعدادِ للاستعانةِ بإسرائيل في سبيلِ استعادة الحقوق المسلوبة!!

 

ومن الغريب أنَّ هؤلاء نصبوا أنفسهم أوصياء على الأقباطِ في مصر، وصنعوا من أنفسهم زعامات لهم، وكأنَّ الأقباط في حاجةٍ لمَن يُمثلهم أو يتحدث باسمهم، ولقد أخطأ مَن ظنَّ من أهل الإعلام والسياسة أن الحوار مع هؤلاء وإفساح المجال لهم في الفضائيات ووسائل الإعلام المختلفة هو المدخل الصحيح لعلاج هذا الملف الشائك؛ لأنَّ هؤلاء وببساطة شديدة ليس من مصلحتهم أن يُغلق هذا الملف فهو الدجاجة التي تبيض الذهب، ولعل المتتبع لأحاديث هؤلاء عبر الفضائيات يُدرك صحة ما أقول، فالخواء الفكري ولغة الحوار الهابطة الركيكة وترديد الأكاذيب والإشاعات هي السمات الأساسية لأحاديثهم، فلم تسمع مناقشة جادة لقضيةٍ من القضايا؛ حتى إنَّ الأمر قد وصل بأحدهم وهو السيد موريس صادق إلى أن يعير محاوره الأستاذ جمال أسعد عبد الملاك- الذي أكن له كل احترامٍ وتقديرٍ لمواقفه الوطنية الصادقة في فضحِ هؤلاء ومخططاتهم- على قناة دريم الفضائية بأنه يحمل شهادةً متوسطةً وليست جامعيةً!! فهل هذه عقلية يعهد إليها أن تُناقش قضية بهذا الحجم؟ ثم- وهذا هو الأهم- هل يرضى إخواننا الأقباط في مصر أو في المهجر بمثل هؤلاء متحدثين باسمهم، أو ممثلين عنهم في أي محفل محليًّا كان أو دوليًّا؟ لقد آن الأوان لفضح هؤلاء وكشف زيف ادعاءاتهم، ولقد آن الأوان لكي يُدرك إخواننا الأقباط خطورة ما يجري عليهم هم أنفسهم قبل غيرهم، وعلى الجميع أن يُدركوا أن مايكل منير وعدلي أبادير وموريس صادق ومجدي خليل وأمثالهم لا يستهدفون صالح الأقباط، إنما يعملون وفْق أجندة الذين يدفعون لهم، وليس أدل على ذلك من فيض الاتهامات التي يكيلونها لبعضهم البعض عبر وسائل الإعلام المختلفة، والمتتبع لهذه الاتهامات لا يرى إلا خلافًا حول تقسيم الغنائم، وهنا يصبح من نفل القول إن هؤلاء لا يمثلون أقباط مصر.

 

أول خطوة في طريق العلاج

انطلاقًا مما سبق وبناءً عليه فإنَّ أولَ خطوةٍ في طرق العلاج هي تنقية الأجواء مما علق بها من شوائب، وإزالة ما في الصدورِ من دخن، وأول هذا إن كنَّا صادقين مع أنفسنا- أن نعترف جميعًا- بوجودِ هذه الشوائب وهذا الدخن، ومن ثَمَّ الاعتراف بمسئولياتنا جميعًا عمَّا جرى كذلك لقد آن الأوان لكي يضطلع أولو الأحلام والنهى من الطرفين- وما أكثرهم ولله الحمد بمسئوليتهم على هؤلاءِ أن يجلسوا معًا بعيدًا عن كاميرات التليفزيون، وقبلات المناسبات التي سئمها الجميع، وبعيدًا عن بيانات شيخ الأزهر وبطريرك الكنيسة التي لا تُسمن ولا تُغني من جوع، عليهم أن يجلسوا ويطرحوا على أنفسهم تلك الحزمة من الأسئلة: ماذا جرى؟ ولماذا جرى؟، وما المخرج؟ وأين السبيل؟.

 

تفعيل القانون

وهنا لا بد من التذكيرِ بأنَّ كلَّ محاولات المخلصين من أبناءِ هذه الأمة سوف تضيع سُدًى ما لم يتوقف ذلك الغياب القسري للقانون، فلقد أعطته حكومتنا إجازةً مدفوعة الثمن!! وقد دفع الثمن أبناء هذا الشعب الأبرياء، من المسلمين والأقباط على حدٍّ سواء ويوم يعود للقانون دوره في حياتنا، ويُصبح هو سيد الموقف، فلن نسمع عن حرق كنيسة، أو عن إخراج مسرحية بذيئة تُسيء للمسلمين، فساعتئذٍ سينال المجرم عقابه، ويطمئن الجميع إلى أنه لا حاجةَ (لأن يأخذ حقَّه بيده) كما يقول البسطاء أبناء شعبنا الكرام.

 

حين تعود للقانون قدسيته وحرمته فلن يكون مقبولاً قيام مظاهرة للاعتراض على بناءِ كنيسة، أو اعتكاف البابا في دير وادي النطرون حتى يُفرَج عن شبابٍ أجرموا بقذفِ رجال الأمن بالحجارة؛ وذلك لأنَّ هناك قانونًا يُنظِّم الحياة، لا أحدَ- مهما كان شأنه- فوق هذا القانون، هذا القانون هو الذي يُعاقب المخطئ ويضرب على يد المسيء، وهكذا أن سيادة القانون وحدها هي الكفيلة بردِّ كل شطط، وتقويم أي اعوجاج، إذا تحقق ما سبق، نكون قد قطعنا شوطًا كبيرًا في معالجةِ هذا الملف الشائك، ويكون الطريق ممهدًا للبحث في التفاصيل، وهنا مرة أخرى أجدد الدعوة لأُولي الأحلامِ والنهى كي يضطلعوا بمسئولياتهم، ويتولوا قيادة السفينة للوصول بها إلى برِّ الأمان قبل أن يندم الجميع.

 

عقد اجتماعي ملزم

وبر الأمان المنشود هو عقد اجتماعي ملزم للجميع، تعرف به الحقوق، ويؤدي على أساسه الواجبات، ويشعر الجميعُ بمقتضاه أنهم أبناء وطنٍ واحدٍ، لهم ما للآخرين، وعليهم ما على الآخرين كذلك، وهنا تُثار تساؤلات مشروعة لإخواننا الأقباط عن بناءِ الكنائس، وتولي المناصب العامة، وكذلك عن حجمِ التمثيل والمشاركة في الحياةِ السياسية، وهذا في تصوري على الأقل- أهم ما يطرح، ولست أدعي هنا أنني سوف أقدم في هذه المعالجة علاجًا شافيًا أو جوابًا كافيًا لهذه القضايا، غير أنه إبراء الذمة، وجهد المقل، وحرص الغيور، ودعوة مفتوحة لكل المخلصين من أبناء هذه الأمة للمشاركة في صياغة هذا العقد، وحتى توضع مشاركتي المتواضعة هذه في إطارها الصحيح، وتؤدي الغرض المنشود منها، وحتى لا تضيع الجهود سدى، فإن هناك قواعدَ ثابتةً، وحقائق لا تقبل الجدل، لا بد أن ينطلق الحوار على أساسها:

أول هذه الحقائق أنَّ مصر دولةٌ مسلمة، الغالبية العظمى من سكانها مسلمون، ودينها الرسمي هو الإسلام، إذن وطبقًا لأبسط قواعد الديمقراطية فلا مجالَ للمزايدة على حقِّ المسلمين الطبيعي في أن يحكموا بما ارتضاه الله لهم، خاصةً وأنَّ لدينهم قواعدَ وأحكامًا لا يكمل دين المسلم بدون اتباعها- وفي نفسِ الوقت لا يوجد مثل هذا في المسيحية باستثناء بعض أحكام الأحوال الشخصية، التي يحق لهم الاحتكام إليها لو أرادوا.

 

ثاني هذه الحقائق: أنه ليس مقبولاً الحديث عن الأقباط كأقليةٍ أو جالية، فهذا مدخل مقيت للتفريقِ بين عنصري الأمة، فالأقباط مواطنون مصريون يدينون بالمسيحية، لهم ما للمسلمين، وعليهم ما على المسلمين كما أسلفنا، وفي هذا الصدد ينبغي أن يتوقف ذلك الانتهاك الخطير لسيادة الدولة والمتمثل في وصف الأقباط بأنهم رعايا الكنيسة!! فالأقباط والمسلمون معًا هم رعايا الدولة المصرية، وإلا فنحن بصدد الحديث عن دولة داخل الدولة.

 

ثالث هذه الحقائق أن الوحدة الوطنية ليست صنمًا يُعبَد من دون الله في الأرض، وليس مطروحًا أن يدفع المسلمون دينهم ثمنًا لهذه الوحدة، ورحم الله الشيخ الفاضل الأستاذ عمر التلمساني حينما أعلن ذلك بوضوح قائلاً: "إنَّ الوحدة الوطنية غالية علينا، ونفديها بأرواحنا، أما بديننا فلا".

 

 

رابع هذه الحقائق أنَّ لغيرِ المسلمين في الدولةِ المسلمة أحكامًا، ليس مطروحًا البحث في تطبيقها من عدمه، أبى من أبى وشاء من شاء، إنما المطروح هو البحث في كيفية تطبيقها في ضوءِ الفقه الدقيق لأحكام الشريعة الإسلامية، وكذلك في ضوءِ معطيات أنظمة الحكم الحديثة، وأنا على يقينٍ أنَّ بالشريعة من الثراءِ والمرونة ما يكفي لتغطية هذه القضية.

 

ندلف من هذا إلى الحديثِ عن بناء الكنائس وترميمها، وهنا أسجل عدم قبولي ليس كمسلم فحسب بل كواحد من أبناء الحركة الإسلامية أسجل عدم قبولي بحاجةِ الأقباط لقرارٍ سياسي يسمح لهم بترميم كنيسة متهالكة، فهذا الترميم لازمٌ وضروري وهو من طبائع الأشياء كما يقولون، فما دام الأمر يخضع لقواعد التنظيم الهندسي المعمول بها في باقي المنشآت، فالقرار يجب أن يكون إداريًّا هندسيًّا يصدر عن مجلس المدينة أو الحي، أما عن بناء الكنيسة فلا حاجةَ لأن نذكر بأن غالبية الموجود من الكنائس- إن لم يكن له- قد تمَّ بناؤه في العهدِ الإسلامي، وهذا وحده يكفي كدليلٍ شرعي على قبولِ فقهاء الإسلام- على مرِّ العصور- بهذا، والمقام لا يتسع لكثيرٍ من التفصيل، فهذا مكانه كتب الفقه وكتب السياسة الشرعية منها على وجهِ الخصوص، وأرى أنَّ هذا الأمر قد عُولج بشكلٍ غير صحيح من كثير ممن خاضوا فيه، فمن القائلين بالمنع التام، إلى الرافعين لشعار كنيسة لكل مواطن، نرى الأمر في حاجةٍ إلى مراجعةٍ دقيقةٍ، فمع الفريق الأول سيأتي اليوم الذي لا يجد فيه الأقباط مع زيادةِ عددهم مكانًا يعبدون الله فيه، ومع الفريق الثاني يصبح الهدف من بناء الكنائس طمس هوية الدولة المسلمة، وليس بناء أماكن للعبادة، والمطلوب والحال هكذا تشريع ينظم المسألة، يراعي ازدياد أعداد الأقباط، وهذا أمر طبيعي ويراعي كذلك أننا في دولةٍ مسلمة دينها الرسمي هو الإسلام.

 

تولي المناصب العامة

ننتقل بعد ذلك للحديثِ عن تولي الأقباط للمناصب العامة، وهذه قضية بالغة الحساسية، فمن المعلوم أنه لا يجوز تولية غير المسلمين مناصب الولاية العامة في الدولة المسلمة، وأذكر هنا مرةً أخرى وكما أسلفنا أنه ليس مطروحًا البحث في تطبيقِ هذا الحكم من عدمه، إنما البحث في كيفية تطبيقه، وهنا يأتي دور الفقهاء ورجال القانون والفقهاء الدستوريين، والدور المنوط بهم القيام به هو وضع تعريفٍ دقيقٍ لمصطلح (الولاية العامة) وحدود صلاحيات مَن يتولى هذا المنصب؟ وأي مسمى وظيفي في عصرنا يُمكن أن ينطلق عليه هذا الوصف، ثم- وهذا هو الأهم- وفي ضوءِ معطيات أنظمة الحكم الحديثة، والبرلماني منها على وجه الخصوص، وفي ظل اعتمادنا مبدأ الشورى الملزمة، في ضوء هذا كله، هل يمكن أن ينطبق وصف الولاية العامة على شخصية فردية، أم أنه يلزم في ضوء ما سبق أن تكون شخصية اعتبارية كمجلسِ الشعب أو مجلس الشورى على سبيل المثال؟ هذا كله يتطلب إجابات شافية من علمائنا الأجلاء، وهذه الإجابات بدورها تتطلب عملاً شاقًّا، وجهدًا مضنيًا، أسأل الله أن يعينهم عليه.

 

أعرض شقتي لتكوين مقرًّا لحزبٍ مسيحي

نختم في هذه العجالةِ بالحديث عن مشاركةِ الأقباط في الحياة السياسية، ويلمس المنصفون هنا كثيرًا من الظلمِ والتجني على الحركةِ الإسلامية بتحميلها مسئولية ضعف أو عدم مشاركة الغالبية العظمى من الأقباط في الحياة السياسية في مصر، سواء كان ذلك عن طريقِ إنشاء أحزاب جديدة، أو عن طرق المشاركة في الأحزابِ القائمة بالفعل، وبشفافية عالية تقتضيها المرحلة نقول: إن المسئولية العظمى في هذه القضية تقع على الكنيسة ثم الدولة، وهذا ليس رأيي فحسب، بل هو رأي كثير من المثقفين الأقباط كذلك، فالكنيسة ما زالت تفرض على الأقباط عزلة غير مفهومة ولا مبررة، والدولة ما زالت مصرةً على استمرارِ تلك الحال من الانسدادِ السياسي وكذلك نتمسك بذلك القانون الأعوج الذي يمنع قيام أحزابٍ على أسسٍٍ دينية، وأنا هنا أُسجل وكما أسلفت، ليس كمسلمٍ فحسب، بل كواحدٍ من أبناءِ الحركة الإسلامية، أسجلُ استعدادي لأن تكون شقتي المتواضعة بإحدى مدن محافظة المنوفية هي أول مقرٍّ لأول حزبٍ مسيحي في مصر، ويبقى هنا السؤال الحرج: هل ستوافق الكنيسة على هذه الخطوة أقصد خطوة إنشاء حزبٍ مسيحي في مصر؟، للأسف الشديد أنا على يقينٍ بأنَّ الإجابةَ ستكون سلبيةً؛ لأنه لا تلوح في الأفق بوادر تُشير إلى أنَّ الكنيسة راغبةٌ في إنهاءِ حالة العزلة التي تفرضها على الأقباط، بل العكس هو الصحيح، ولا أدري لمصلحةِ مَن هذا؟ لقد آن الأوان لوضع حدٍّ لهذه العزلة، وعلى الكنيسةِ أن تقدم صالح الجماعة على الحساباتِ السياسية الضيقة الأفق، وكما يقولون، كل لبيب بالإشارةِ يفهم، وحسبي في هذا الأمر الإشارة، والله من وراء القصد وهو الهادي إلى سواء السبيل.