- العلمانية ستكسر الكنيسة المصرية

- التدخل الخارجي يهدِّد الأقباط قبل المسلمين

 

يكشف الدكتور رفيق حبيب في هذا الحوار حقيقة المشترك القيمي والحضاري بين المسلمين والأقباط، ويرى أنَّ انضمامَ الأقباط داخل المشروع الحضاري الإسلامي معناه انتهاء فكرة الذمة وتكريس ثقافة المواطنة، مشيرًا إلى أنَّ تماهي الأقباط داخل التيارات العلمانية سيؤدي إلى انكسارِ عقيدتهم؛ لأنها لا تعرف قيمة التعددية القانونية التي تنص عليها الشريعة الإسلامية.

 

* لماذا يرى بعض الأقباط أن المشروع الحضاري الإسلامي تكريس للطائفية؟

** دعني أشير إلى أنه في مناخ الاندماج بين مكونات الجماعة الوطنية- مثل ما حدث في الفترة المزدهرة لحزب (الوفد)- لن تجد مثل هذا الانطباع، فمثلاً سنجد أن خطاب مكرم عبيد- السياسي القبطي- يؤكد الانتماء إلى العروبة والحضارة الإسلامية في خطابه السياسي، وعندما نلجأ إلى الحل الطائفي يكون مِن شأن ذلك شيوع التمييز بين الهويات.. الأمر الذي يدفع الأقباطَ للدِّين والكنيسة كحلٍّ اجتماعيٍّ وسياسيٍّ لهم تكون فيه الثقافةُ الفرعيةُ الطائفيةُ هي الإطارَ الأخيرَ، مع إهدار الإطار الحضاري الجامع الذي ينظرون إليه بحسبان الانضواء تحت رايته انتقاصًا من هويتهم؛ لأنه يرى قيمة ما تعارض أن يذوب سياسيًّا مع المجتمع.

 

ولذلك هناك نوعٌ من الامتناع عن هذا الامتزاج والانضواء لدى عامة الأقباط، وربما هذا يدفعه لأن يرى المسلمون حضارتَهم تختلف عن حضارة القبط، وأن الدولة المصرية تحوي أكثر من حضارة؛ لذلك أنا أرى أن امتناع الأقباط عن الحوار حول المشروع الحضاري الإسلامي أمرٌ في منتهى الخطورة؛ لأننا قبل أن نشرع في تمييز هويتنا بهذا الشكل علينا أن نراجع تاريخَنا الحضاري الذي يؤكد أن قيمنا واحدةٌ، وبالتالي التمييز الحادث الآن يخضع لأسباب ليس لها علاقةٌ بأن هناك تمييزًا اجتماعيًّا فعليًّا في المجتمع، بل هو أمرٌ مختلقٌ؛ وذلك لأسباب اجتماعية وسياسية، ولا يوجد تمييز حقيقيٌّ في القيم الاجتماعية الحاكمة للمسلم والقبطي؛ ولهذا أرى أن ابتعاد الأقباط عن الحوار مع المشروع الحضاري الإسلامي وفي نفس الوقت محاولاتهم تأييد المشاريع العلمانية يعني أنهم يريدون الحفاظ على هوية مستقلة لهم، وهذا تكريسٌ لمسألة الطائفية.

 

مشروع الإخوان

* لكنْ هل المشروع الحضاري الذي يقدمه الإخوان قادرٌ على استيعاب الأقباط؟

** بظهور المشروع الحضاري الإسلامي في تاريخ الحركات الإسلامية تستطيع أن تقول إنه تم تأسيس الإطار الجامع للمسلمين والأقباط، بالطبع إذا ما استثنينا الفترات التي كانت فيها الحركات الإسلامية تخص نفسَها بالدفاع عن الشريعة الإسلامية، وهذا حقُّها؛ لأن المشروع كان يخص شأنًا إسلاميًّا دينيًّا، وليس موجَّهًا ضد الأقباط ولا يخصهم، ولكن عندما توسع المشروع بكتابات كثيرة على المستوى الفكري والحركي لدى العديد من المفكِّرين الإسلاميين ولدى الإخوان المسلمين بدا المشروعُ الحضاريُّ الإسلاميُّ باعتبارِه مشروعًا نهضويًّا؛ حيث صرنا نتكلم عن قيم الأمة وتقاليدها والاتجاه نحو تعميق هويتها الوطنية والحضارية، أي أننا نتكلم في واقع الأمر عن المسلمين والأقباط، والخصوصيات الثقافية والحضارية لكل منهما.

 

بوابة العلمنة

* الحاصل عكس ذلك؛ حيث يرى بعض الأقباط أن تغريب مصر وعلمنتها هو الوسيلة المثلى لحفظ كيانهم، وبالتالي لا يرون غضاضةً في أن يكونوا ورقةً في يد بعض العلمانيين لتحجيم المشروع الإسلامي؟!

** من المهم تذكُّر أن التيار العلماني في مصر استخدم ورقةَ الأقباط عارضًا عليهم مناصرةً بلا شروط، واستجاب الأقباط والقيادة الكنسية، التي وجدت أنه من الممكن التعاون فيما بينهم.

 

التيار العلماني في مصر لم يدرك رؤية الأقباط لمفهوم ذلك التعاون، فالتيار العلماني ينادي بعلمنة مصر كلها، والأقباط يؤيدون فقط علمنة الدولة والنظام العام؛ بحيث لا تمتد العلمنة للكنيسة؛ حيث لا يمكن علمنة المؤسسة الدينية، والعلمانية على هذا النحو بالنسبة لهم حمايةٌ لهويتهم الطائفية مع ضمان نقاء المؤسسة الدينية الحاضنة لهم؛ لأنها غير قابلة في أصولها التراثية للعلمنة، إلا أن هذا التعاون في هذا السياق لا يمكنه الاستمرار، لا سيما مع ظهور إشكالياتٍ قبطيةٍ طائفيةٍ ودينيةٍ كما حدث في أزمة فيلم (بحب السيما).

 

وهي المواقف التي لا تعجب العلمانيين بطبيعة الحال؛ حيث شرعوا في الحديث عن التطرف داخل الأقباط، وبدا أن طرفي التعاون (العلمانيين والأقباط) لكل منهما مشروعٌ مغايرٌ، وبالتالي حتى في مسألة أن بعض الأقباط قد يؤيدون التدخل الخارجي سنجد أنهم غير مستعدين أن تتسرَّب لهم القيمُ الغربيةُ؛ لأنهم متدينون محافظون، ولديهم تقاليدهم الكنسية الخاصة، وبالتالي يتعاملون مع التدخل الخارجي بوصفه فقط عاملَ ضغط على الدولة لتحقيق مطالبهم، وهي رؤيةٌ قاصرةٌ غير مدركةٍ لخطورة هذا الأمر.

 

* لماذا؟

** لأن التدخل الخارجي يهدف إلى تغريب مصر كلها، وإلى كسر المسيحية المصرية وفتحها للاختراق والتغلغل من قِبَل المسيحيةِ الغربية، وبالتالي لكل طرف أجندته الخاصة؛ فالغرب ليس قوات تحرير فقط إنما لديه مشروعٌ وفكرةٌ يتحدث عنهما دون مواربة، وعندها ستصبح علمنة الدولة المصرية بالضغط الخارجي مرحلةً أولى تعقبها علمنةُ باقي المؤسسات المصرية وعلى رأسها الكنيسة؛ حيث ستكسر بتقاليدها التاريخية والتراثية، فالتدخل سيَضرب مصر، أقباطَها قبل مسلميها، وإن التعاون الذي تبحث عنه بعضُ فئات الأقباط- أيًّا كان عددها- هو لصالح الغرب الأقوى والمتربِّص؛ حيث سيمكِّنه ذلك من التحكم في الجميع.

 

الحفاظ على الكنيسة

* تبدو من وجهة نظرك أهمية الحفاظ على وجود الكنيسة المصرية بعيدًا عن التدخلات المذهبية الغربية.

** من مبادئ العمل السياسي في المشروع الحضاري الإسلامي عدم قبول أي هجوم على العقيدة المسيحية أو انتقاص لدور الكنيسة؛ لأن هذا المشروع أساسًا قائمٌ على حماية الدين.

 

* ومع ذلك ثمة حساسية تبدو عند الأقباط من الإخوان.

** في مرحلة اللجوء إلى الدين وبداية الوعي عند الجماعة القبطية بشكلها الجامع والمانع للغير لاحَ لها أن كلَّ الحركات الإسلامية ستؤدِّي إلى "أسلمة" الدولة والوصول إلى الحكم، وهذا أمرٌ لا يمكن قبوله داخل مشروع طائفي يعتمد أصلاً على تعريف طائفي لمجموعةٍ من الناس والتأكيد على تميزه؛ حيث يصبح اتجاه هذه الفئة أميل لإظهاره، ومن ثَمَّ عندما يوجد في المقابل لها حركاتٌ إسلاميةٌ أو جماعاتٌ دينيةٌ حركيةٌ أو مؤسساتٌ ليس لديها مشروعٌ لتغيير نظام الحكم وليس لديها برنامج عمل سياسي سيكون تخوفها شبه منعدم وغير ذي بال؛ حيث سيكون هناك جماعتان: إحداهما تُعرِّف نفسها بأنها إسلاميةٌ وأخرى بأنها قبطيةٌ، وكل منهما تحاول تأكيد مكانتها، وأغلبية الأقباط- ولأكُنْ صريحًا- يرون أن المشاريع الإسلامية التي تتبنَّاها الحركاتُ الإسلامية تعني تغييرَ نظام الحكم وبصيغةٍ إسلاميةٍ، وهو ما يرونه مؤثرًا سلبيًّا على وجود الطائفة المسيحية، ومن ثَمَّ يرفضون أيَّ حوار أو تعامل معها بحجة أن هذه الحركات خطرٌ على هوية الجماعة القبطية.

 

* وهل هذا الخوف يمتد إلى الشريعة كمطلب أساسي للحركات الإسلامية؟

** الحقيقة أن الظروفَ الحاليةَ ومع اتجاهات الأقباط التي عرضناها وفي ظل دولة مستنيرة وحركات إسلامية وتدخل من الخارج ونزعة للتعصب من المسلمين والمسيحيين عامةً في مصر منذ زمن.. أدَّى كل ذلك إلى عدم وجود أي مساحة لإعادة تفهمات سابقة في الخبرات القبطية الإسلامية قامت في ظروف تاريخية معينة؛ حيث إن الشريعة الإسلامية ظلت مطبَّقةً في الفترة الأكبر تاريخيًّا ولم تهدر وجود الأقباط، ولكن الآن- ودعنا نعترف- يظن بعض الأقباط أن تطبيق الشريعة الإسلامية يهدر إيمانَهم بعقيدتهم، وعندما يستشري هذا الإحساسُ فمعنى ذلك أننا تركنا الخبرة التاريخية وانقسمنا في مناخ الاحتقان الطائفي.

 

قبطي في ظل الشريعة

* وكيف ترى الشريعة وأنت المسيحي المخلص لعقيدته؟

** القاعدة الأساسية في تطبيق الشريعة الإسلامية- وعلى مدى قرون طويلة استمرَّت- هو أنه لا يجوز تطبيقُها على المسيحيين فيما يتعارض مع عقيدتهم، وتُطبَّق عليهم فيما لا يتعارض مع عقيدتهم؛ لهذا يصبح موقف القبطي من الجوانب التي لا تتعارض مع العقيدة الإسلامية يماثل موقفه من أي قانون آخر؛ حيث يكون إقرار القانون بالأغلبية البرلمانية، أي من خلال الإجماع والاتفاق، ومن المهم أن تلاحظ مع ذلك أن هذه القاعدة تخص الشريعة الإسلامية والحضارة الإسلامية دون غيرها من القوانين والحضارات، وهذه هي المرجعية الوحيدة التي عرفها التاريخ البشري التي تسمح بالتعددية القانونية لأبناء دولة واحدة.

 

وعندما يؤيد الأقباط المشروعَ العلماني فمعنى ذلك عدم تطبيق تلك القاعدة الخاصة بالتعددية القانونية، فالنظرة العلمانية تؤكد المساواة التماثلية، وعليه فإن تطبيق النظام العلماني سيؤدِّي إلى تطبيق قانون واحد للزواج والطلاق، وهو ما يعني أن هذا القانون سيكون معبرًا عن عقيدة الأغلبية أو سيكون قانونًا علمانيًّا مدنيًّا لا يراعي القواعد الدينية، فقد تحقق للمسيحيين العرب تطبيق عقيدتهم في أمور الزواج والطلاق بفضل تطبيق الشريعة الإسلامية التي تقبل التعدد، وبالتالي تصبح مطالبة الأقباط للعلمنة بهذا الشكل كسرًا للعقيدة المسيحية.

 

العلمانية ضد الخصوصية

* بالطبع فالعلمانية الغربية لا تعرف المبدأ الأصولي "دعهم لما يدينون".

** وهذا ما يجب أن يفهمه الجميع؛ لأن المشروعَ العلماني لا يقبل أي تعددٍ قانوني، مهما كانت أي خصوصية ثقافية أو دينية لأي جماعة تعيش على أرض أي دولة غربية، ومسألة الحجاب في فرنسا من أبرز هذه المسائل، فأي فتاة مسلمة تحمل الجنسية- أي مواطنة- غير مسموح لها أن تلبس زيًّا تراه يناسبها؛ لأنه فقط يُظهر خصوصيتَها الثقافية أو الدينية، فما بالنا بتطبيق قانون خاص بأقلية موجودة على أرض فرنسا.

 

إن تراثنا القانوني الذي تنفرد به ثقافتنا حدَّد أنه في حالة اختلاف الطرفين فمردُّ كل طرف لعقيدته، وإذا تركنا نقاط الاختلاف الضيقة وتحركنا صوب الجانب الرحب من الشريعة ووقفنا أمام فقه المعاملات والبيوع والنظام الاقتصادي سنجد أنه لا فرقَ داخل هذه الجوانب بين مسلم ومسيحي، بالعكس فما أفرزته الذهنية الفقهية قدَّم قيمًا ومبادئَ تتجانس مع القيم الحضارية المصرية والعربية؛ لأنك عندما تتفرَّس قواعد المعاملات وضوابط البيع والشراء التي هي ضوابطُ إسلاميةٌ ستجدها في أصولها وجوهرها هي نفس القيم والضوابط التي كانت تحكم المسيحي المصري وهي أيضًا نفس القيم الممتدة المنتجة عبر حضارتنا على تاريخها الطويل، وهذا الاستمرار والتواصل في القيم هو سر هذه الأمة وهو منبع قوتها.

 

* هناك اتهام لجماعة الإخوان المسلمين بأنها قامت بتديين السياسة أو تسييس الدين، وأدخلت الدين في الصراع السياسي مما أدى إلى تهميش الأقباط.

** في البداية نؤكد على أن العلاقة بين الدين والسياسة لم تغِب في حضارتنا، بل تبدأ جذورُها من الحقبة الفرعونية، فالأصل في الحضارة العربية الإسلامية وفي الثقافة المصرية أن الحياة من خلال الإطار الحاكم للتعاليم الدينية؛ حيث يصبح الدين منظِّمًا للحياة وبالتالي منظمًا للسياسة، والعلاقة بين الدين والسياسة تقوم على انتظام السياسة في إطار القيم والعقائد والمبادئ والمقاصد الدينية، ونفس الأمر ينطبق على الحياة والنظام العام، حيث تنتظم حياة الجماعة المصرية في إطار القواعد والمبادئ الدينية.

 

لهذا نؤكد أن دور جماعة الإخوان تركَّز في مقاومة أي محاولة له لتهميش الدين في الحياة والنظام العام؛ ولهذا ظهرت الجماعة بعد إلغاء الخلافة الإسلامية، فهي محاولةٌ لاستعادة النظام التاريخي الحضاري للأمة، وعلينا أن نؤكد أن الوضعية المركزية للدين في الحياة والنظام العام تحافظ على دور الدين في حياة المسلم والمسيحي، فالعلمنة ستكون ضد مكانة الدين في حياتنا جميعًا القبطي والمسلم على حدٍّ سواء.

 

* هل استطاع الإخوان أن يقدموا صِيَغًا مقبولةً تحدد سلوكَهم تجاه الأقباط؟

** تجربة الإخوان أثبتت أن الممارسة تتطوَّر لديهم أسرع من الفكر؛ لأن الجهد المبذول في الممارسة أكبر بحكم أنهم جماعةٌ حركيةٌ.. لكن أظن أنهم في العديد من القضايا ومنها هذه المسألة الإطار الفكري للجماعة هام، وبالتالي أرى أن الإخوان يحتاجون إلى مزيد من الجهد والعمل اللذين يظهران إطارها الفكري عامة، ويبلوران مشروعها في صورة أكثر وضوحًا، ومبادرة الإصلاح الأخيرة هي إعلان مبادئ، وكل جملة فيها تحتاج إلى جهد حقيقي لبيان أصولها وتأصيلها؛ مما يجعل المتلقِّي يرى كيف تتكامل هذه العناصر معًا وتمثل مشروعًا واحدًا؛ بحيث يكون هذا الجهد الفكري هو الأساس الذي يفسِّر التجربةَ السياسيةَ الحركيةَ للإخوان، وفي نفس الوقت يكون الإطار المنطقي النظري الحاكم للممارسات المتوقعة، فمن المهم أن يعرف الجميع كيف ستتصرف الجماعة في مواقفَ لم تأتِ بعد.

 

مدرسة الإخوان

* الإخوان ليسوا فقط حركةً بل هم مدرسة ومصدر لتيارات وأفكار متنوعة ومفكرون غير تنظيميين.. أي أن المشروع الحضاري الإسلامي صار ملكًا للأمة لا لجماعة.

** وأنا أرى من المهم على جماعة الإخوان أن تعمل ليس فقط في إطار التنظيم بل في إطار الحركة والتيار، وأن تتفاعل مع المشروعات الحضارية الإسلامية، وأن تستوعب اجتهادات المفكرين التجديديين وتمتصها وتتبنَّاها، وأنا أعلم جيدًا مدى مساحة الاتفاق بين الإخوان وأطروحات العديد من المفكِّرين الإسلاميين؛ بناءً على خبرات شخصية واحتكاكات خاصة؛ لذا أرى أن على الإخوان ألا يكتفوا في الفترة الراهنة بإعلان البيانات والمواقف، سواءٌ من الديمقراطية أو الأقباط؛ حيث يجب أن يتحوَّل هذا الإعلان إلى برنامج تربوي داخل الجماعة حتى نلمسَ أن عضو الجماعة الفرد وليس القيادة يفهم هذه الأمور ثم يمارسها في حياته، وهذا أمرٌ مهمٌّ أيضًا.

 

* لكنَّ داخل جماعة الإخوان تنويعاتٍ فكريةً قد تقبل أو ترفض مثل هذه التحولات.. الأمر الذي يفرض عليها- كما يرى البعض- خيارًا وسطيًّا وعدم الحسم حتى لا يحدث تصدعات تنظيمية؟

** التنويعات داخل جماعة الإخوان ثريةٌ ومهمةٌ، وللأسف الصحافة تستغلها لضرب الجماعة، إلا أنها في النهاية كانت سببًا في ظهور أفكارٍ جديدة ظهرت بشكل إعلامي وأمكنَ التعبيرُ عنها في الممارسة السياسية، ولكن لم تظهر داخل البيئة التربوية للجماعة، في حين أن بعض الأطروحات التاريخية هي المنطلق الأكبر لمقررات عمليات التربية، وأظن أن جماعة الإخوان بتاريخها العريض التنوع داخلها- سواءٌ كان فكريًّا أو عمريًّا- شيءٌ مهمٌّ، وكسر هذا التنوع سيجعلها ضيِّقةَ الأفق.

 

إدارة الأجيال

* إذن المحك كيف تدير الجماعة تنوعها الداخلي لا كيف تقضي عليه؟

** على الجماعة أن تخلق الآليات التي تستطيع عن طريقها إدارة هذا التنوع وكيف تضعه على مائدة الحوار، وعليها أن تُشرِك في هذا الحوار أطرافًا أخرى متعاطفةً مع الجماعة ومتقاطعةً مع مشروعها الفكري لنخرجَ في النهاية بثمرةٍ فكريةٍ تصير منهجًا ثابتًا ومَرِنًا وملهمًا لأطروحات التربية وإطارًا فكريًّا حاكمًا للحركة.

 

* هل تلمِّح إلى ضرورة وجود أقباط فاعلين داخل مشروع النهضة الذي يقدمه الإخوان؟

** داخل المشروع الحضاري الإسلامي لا يوجد ما يمنع أن يكون هناك مفكرون من الأقباط يسهمون في المشروع، وأعتقد أن هذا ضرورة، وهو إسهامٌ مهمٌّ، ولي شخصيًّا خبرةٌ في هذا المجال، سواءٌ بالكتابة أو الممارسة أو الحوار، ووجدت أنني كقبطي تترآى أمامي جوانب في المشروع الإسلامي قد لا يراها المسلم؛ لأنني أستطيع أن أتعمَّق داخل الجوانب الاجتماعية والحضارية الخاصة بالقيم والتقاليد والعادات التي قد تغيْب عن المفكر الإسلامي المعنِي بتفسير النصوص الدينية، وما يخص الشريعة الإسلامية، وربما تغيب عنه أن هناك تفسيراتٍ اجتماعيةً مهمةً لإعادةِ تشكيلِ هذه الأمةِ ونهضتها، وهذا الجانب بالنسبة للقبطي ولي شخصيًّا كان شديدَ الوضوح؛ لأن هناك تنظيماتٍ وتشكيلاتٍ معينةً في الجانب المتغير من الحياة أرى أنها هي التي من خلالها يمكن أن تفيد النهضة الحضارية للأمة، وبالتالي فميدان المشاركة موجودٌ ورحبٌ بالنسبة للقبطي وإضافته ستكون ثريةً وتكسب المشروعَ تنوعًا وتعددًا يحتاجهما المشروع الحضاري الإسلامي، لا سيما أن العقائد للطرفين مصونة ولا تُمَس.

 

لكن عندما نتكلم عن جماعة الإخوان فهي بحكم تعريفها ذات نشاط ديني ولها مسئولية وضعتها لنفسها أيام الإمام حسن البنا، فلا يصح أن يكون داخلها عضوٌ غيرُ مسلم، وهذا أمرٌ طبيعيٌّ؛ لأنها جماعةٌ متعددةٌ أنشطتُها في المجال الديني بالأساس، ولكن تظل دائمًا هناك مساحةٌ لأن تتحاور الجماعة مع الأقباط، وهذا أمرٌ شديدُ الأهمية؛ لأنه ثبَتَ بالدليل العلمي في النقابات المهنية والاتحادات الطلابية أن الجماعات الحركية- مثل الإخوان- تكتسب تطورًا متميزًا بالاحتكاك، إذن هناك حاجَةٌ ماسَّةٌ للإخوان للاحتكاك، والأقباط في حالة ماسَّة للحوار حتى يندمجوا داخل المشروع الحضاري الإسلامي.

 

* وما بديل الحوار والتلاقي؟

** خياران: الأول أن تكون لكل طائفة مشروعها، وهو أمرٌ نسأل الله ألا يحدث، والثاني أن تكون للأمة مشروعها، وعند ذلك لن نتكلم عن تعصب أو اضطهاد؛ لأن النضال المشترك يجعل الأقباط ليسوا أهل ذمة، بل يجعلهم مواطنين أصلاء، المسلمون في ذمتهم، كما أن الأقباط في ذمتهم؛ لأنه إذا كنت كقبطي لن أناضل في مشروع حضاري مشترك مع المسلمين إذن على المسلمين حمايتي لتتجلَّى فكرة الذمة مرةً أخرى.

 

فالمواطنة ممارسةٌ والذمة اختيار، وتجربة حزب (الوفد) أثناء النضال ضد المستعمرات رائدةٌ في هذا المجال؛ حيث لم يقل أحدٌ إن هذا قبطيٌّ وذاك مسلم، والسؤال المطروح الآن أنه عندما نناضل حقًّا هل نناضل كطائفتين أم كأمة واحدة؟!