رصدت المنظمة المصرية لحقوق الإنسان تاريخ مصر في ظل قانون الطوارئ من خلال دراسة قيمة لها أكدت فيها أن مصر عرفت الأحكام العرفية لأول مرة عام 1914م، إبان الحرب العالمية الأولى ففي نوفمبر من ذلك العام فرضت قوات الاحتلال البريطاني الأحكام العرفية في جميع أنحاء البلاد لحماية مصالح بريطانيا والقوات البريطانية الموجودة في مصر، ولم ترفع هذه الأحكام إلا بعد سنوات من نهاية الحرب العالمية المذكورة، وبعد إصدار السلطات المصرية عام 1922م، لما عرف بقانون التضمينات والذي يحمي الحكومة البريطانية وسلطاتها في مصر من أية مسئولية مدنية أو جنائية يمكن أن تترتب علي الأحكام العرفية المذكورة.

 

واعتبارًا من عام 1922م، عاشت البلاد أكثر من 17 سنة دون أحكام عرفية إلى أن فرضت من جديد وللمرة الثانية بسبب الحرب العالمية الثانية في أول سبتمبر 1939م، ولكنها كانت هذه المرة أحكامًا عرفيةً مصريةً، إذ أعلنت بمرسوم ملكي مصري تنفيذًا لمعاهدة الصداقة والتحالف الموقعة بين مصر وبريطانيا في 26 من أغسطس 1936م، وتم تعيين رئيس مجلس الوزراء وقتذاك المرحوم علي ماهر حاكمًا عسكريًّا عامًا يمثله في المحافظات والمديريات المحافظون والمديرون.

 

ولقد اعترض عدد من أعضاء مجلس النواب في أكتوبر 1939م، على التعجيل بإعلان الأحكام العرفية في البلاد في وقت لم تكن تعرضت فيه لغزو قوات المحور وهو ما حدث بعد ذلك بشهور واستمرت هذه الأحكام نافذةً طوال مدة الحرب العالمية الثانية، وإذ انتهت الحرب العالمية في القارة الأوروبية في 9 من مايو 1945م، فقد رفعت الأحكام العرفية في مصر بعد ذلك ببضعة شهور.

 

ثم أعلنت الأحكام العرفية للمرة الثالثة في مايو 1948م، بمناسبة دخول الجيوش العربية ومن بينها الجيش المصري إلى فلسطين لمحاولة صد هجوم الإسرائيليين على المدنيين هناك، وقد استدعى ذلك إضافة حالة ثالثة إلى الحالتين الواردتين في قانون الأحكام العرفية رقم 15 لسنة 1922 وذلك بالقانون رقم 73 لسنة 1948 المعدل له، وقد نص هذا التعديل على جواز إعلان حالة الطوارئ "من أجل تأمين سلامة الجيش المصري علي أرض فلسطين وحماية طرق مواصلاته".

 

وفي أبريل1950م، بادرت آخر وزارة وفدية برئاسة مصطفى النحاس إلى إعلان إنهاء الأحكام العرفية مع الإبقاء عليها جزئيًّا ولمدة سنة قابلة للتجديد في المناطق الحدودية مع فلسطين وفي محافظتي سيناء والبحر الأحمر على أن الوزارة نفسها عادت بعد أقل من عامين في 26 من يناير 1952م، إلى إعلان الأحكام العرفية للمرة الرابعة في جميع أنحاء البلاد ابتداءً من مساء ذلك اليوم وعين رئيس مجلس الوزراء مصطفى النحاس حاكمًا عسكريًّا عامًا لممارسة السلطات الاستثنائية المنصوص عليها في القانون، ثم لم يلبث أن حل محله في ذلك رئيس الوزراء التالي نجيب الهلالي بعد إقالة الوزارة الوفدية.

 

واندلعت ثورة يوليو 1952م، ومصر تحت الأحكام العرفية، ولم تكن الثورة بحاجة إلى هذه الأحكام لتأمين نفسها وتحقيق أهدافها بعد أن ركزت الثورة السلطات جميعها في يد مجلس قيادة الثورة، وحلت الشرعية الثورية محل الشرعية الدستورية بعد إلغاء الدستور الملكي القائم في العاشر من ديسمبر 1952م، واستمر حكم البلاد بقرارات وإعلانات صادرة من مجلس قيادة الثورة إلى تاريخ العمل بدستور 16 من يناير 1956م، الدائم في شهر يوليو من ذلك العام.

 

ولقد استصدر الرئيس جمال عبد الناصر بعد ذلك بسنتين قانون الطوارئ الحالي رقم 162 لسنة 1958 وطبق لأول مرة في الخامس من يونيو 1967م، بمناسبة ما عرف بحرب الأيام الستة أو حرب السويس، واستمرت حالة الطوارئ قائمةً في البلاد من ذلك التاريخ إلى أن تقرر إلغاؤها اعتبارًا من منتصف ليل 15 من مايو 1980م، بعد حوالي 13 سنة من تاريخ إعلانها، وهي أطول مدة عاشتها البلاد تحت الأحكام العرفية، حتى تململ الناس من استمرارها وطالبت فئات عديدة من المواطنين برفعها وعلى رأسهم رجال القضاء والمحامون وغيرهم من المشتغلين بالقانون، لا سيما بعد التوقيع علي اتفاقية كامب ديفيد في 17 من سبتمبر 1978م، ثم على معاهدة السلام بين مصر و(إسرائيل) في مارس 1979م، فافتقدت الأحكام العرفية أو حالة الطوارئ أساس وجودها واستمرارها، ولم يكن ثمة بد من أن يستجيب رئيس الجمهورية أنذاك الرئيس محمد أنور السادات لهذه الرغبة الملحة رغم إعلانه السابق بأن حالة الطوارئ سوف تستمر حتى تجلو قوات إسرائيل عن كامل شبه جزيرة سيناء في أبريل 1982م، وعقب اغتيال الرئيس الراحل أنور السادات تم فرض حالة الطوارئ بقرار من الرئيس المؤقت في ذلك الوقت الدكتور صوفي أبو طالب- رئيس مجلس الشعب السابق-، حيث استمرت من يومها وحتى الآن. وهي تعد أطول فترة في تاريخ مصر الحديث. انتفاء مبررات فرض حالة الطوارئ لاشك أنه وفقًا للدستور فإن يجوز لرئيس الجمهورية فرض حالة الطوارئ وذلك لمواجهة مخاطر تتطلب اتخاذ تدابير استثنائية بهدف حماية الأمن القومي ومواجهة خطر داهم، وقد اتفق فقهاء القانون الدولي على أن الحالات التي يجوز فيها فرض حالة الطوارئ من الحالات التي تكون فيها حياة الأمة في خطر ويمكن تحديد هذه الحالات في عناصر ثلاثة:

1- حالة الحرب.

2- حالة التهديد بالحرب.

3- حالات الكوارث الطبيعية.

 

وهي العناصر التي لا تتوافر في الوقت الحالي ونأمل ألا تتوافر، وطيلة السنوات الماضية، استخدمت الحكومة تعبير الإرهاب كذريعة لاستمرار حالة الطوارئ، في حين أن المجتمع المصري لم يشهد عملاً إرهابيًّا منذ عام 1997م، كما أن استخدام أحداث 11 سبتمبر للإيحاء بأن العمليات الإرهابية قد تمتد إلى مصر ليس له ما يبرره لا من الناحية السياسية أو القانونية، وقد استندت الحكومة المصرية إلى استعدادات الحرب الأمريكية البريطانية على العراق هذا العام لتمديد حالة الطوارئ والذي جاء قبل موعده، حيث كان مقررًا أن ينتهي العمل بتلك الحالة في مايو 2003م، إلا أن الحكومة تقدمت بقرار التمديد في غضون شهر فبراير 2003م.

 

آثار حالة الطوارئ

 
أما الآثار الخطيرة لهذا القانون فيمكن إجمالها في الآتي:

أولاً: تجاوز حالة الطوارئ بالمعنى التشريعي حدود قانون الطوارئ، بل أثَّرت سلبًا على روح البنية التشريعية المصرية التي مالت بشدة نحو التشدد والإطاحة بالعديد من الحقوق والحريات التي كفَلَها الدستور المصري والمواثيق الدولية المعنية بحقوق الإنسان، فوفقًا لقانون الطوارئ تمتلك السلطةُ التنفيذيةُ سلطاتٍ واسعةً لوضع القيود على حرية الأفراد وحقوقهم الدستورية، ومنها سلطة وضع القيود على حرية الأشخاص في الاجتماع والانتقال والإقامة والقبض على المشتبه فيهم أو الخطرين على الأمن واعتقالهم وتفتيش الأشخاص والأماكن دون التقييد بأحكام قانون الإجراءات الجنائية( ).

 

وهو ما يمثل انتهاكًا صارخًا للحقوق والضمانات التي حرص الدستور المصري على تأكيدها في المادة "41" الخاصة بالحرية الشخصية، والمادة "42" الخاصة بحرمة المساكن والمادة "50" الخاصة بحرية الإقامة والتنقل، والمادة "54" الخاصة بحرية الاجتماع، كما تهدر الحقوق والضمانات المنصوص عليها في العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية، ومنها المادة "9" الخاصة بالحرية الشخصية، والمادة "12" الخاصة بحرية التنقل، والمادة "21" الخاصة بحق التجمع السلمي.

 

ثانيًا: قيام الحاكم العسكري أو من ينيبه- بموجب المادة "3" من قانون الطوارئ- بمراقبة الرسائل والصحف والنشرات والمطبوعات والمحررات، وينتهك كافة وسائل التعبير والدعاية والإعلام قبل نشرها وضبطها ومصادرتها وتعطيلها، وهو ينتهك حرمة الحياة الخاصة للمواطنين ومراسلاتهم وبرقياتهم ومحادثاتهم التليفونية المقررة في المادة "45" من الدستور، ويعد أيضًا انتهاكًا لحرية الرأي والتعبير والنشر المقررة في المادة "48" من الدستور، وحرية البحث العلمي والأدبي المقررة في المادة "49"، كما تهدر تلك السلطة أيضًا نص المادتين 17، 19 من العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية.

 

ثالثًا: إتاحة قانون الطوارئ حريةً واسعةً للسلطة التنفيذية، في عدم التقييد بالأحوال المنصوص عليها في قانون الإجراءات الجنائية للقبض على المتهمين؛ إذ يجوز القبض في الحال على المخالفين للأوامر التي تصدر طبقًا لأحكام قانون الطوارئ والجرائم المحددة في هذه الأوامر( )، وذلك بالمخالفة لأحكام الدستور والعهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية، وبموجب قانون الطوارئ تنشأ محاكم استثنائية للنظر في الجرائم التي تقع بالمخالفة لأحكام الأوامر التي يصدرها رئيس الجمهورية أو من يقوم، وهي محكمتا أمن الدولة الجزئية والعليا، والترخيص بأن يدخل العنصر العسكري في تشكيل ذاك النوع من المحاكم؛ إذ يجوز لرئيس الجمهورية أن يأمر بتشكيل دائرة أمن الدولة الجزئية من قاضٍ واثنين من ضباط القوات المسلَّحة، وبتشكيل دائرة أمن الدولة العليا من ثلاثة مستشارين ومن ضابطين من الضباط القادة، وهو ما يُعدُّ انتهاكًا جَسِيْمًا للمعايير الدستورية والدولية الخاصة بالفصل بين السلطات واستقلال القضاء وحصانة القضاة والتي تنص عليها المواد من 165 إلى 173 من الدستور، والمادة "14" من العهد الدولي للحقوق المدنية والسياسية.

 

كما يجوز لرئيس الجمهورية- وفقًا لنص المادة (6) من قانون الأحكام العسكرية- أن يُحيل إلى المحاكم العسكرية أيًّا من الجرائم، وذلك أثناء فرض حالة الطوارئ، وهي المادة التي تم استخدامها منذ عام 1992م لإحالة المدنيين إلى المحاكم العسكرية.

 

كما يجوز لرئيس الجمهورية- وفقًا للمادة "9" من قانون الطوارئ- أن يُحيل إلى محاكم أمن الدولة طوارئ الجرائم التي يعاقب عليه القانون العام، وهو ما يُعدُّ مخالفةً واضحةً لنص المادة "40" بند 9 من الدستور التي تُقرُّ مبدأ "المساواة بين المواطنين" وما يتفرع عنه من حق كل مواطن في الالتجاء إلى قاضيه الطبيعي الذي أكدته المادة "68" من الدستور، كما يُعدُّ انتهاكًا جسيمًا لنص المادة "14" من العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية السياسية.

 

وفي ضوء هذه السلطات الاستثنائية التي تتمتع بها السلطة التنفيذية فإنه يصعب الحديثُ عن مجتمع ديمقراطي تسوده ضماناتٌ لحماية حقوق الإنسان وحرياته الأساسية.

 

مسئولية جماعية مزدوجة

وفي الواقع فإن إزالةَ آثارِ العمل بقانون الطوارئ عمليةٌ تتطلَّب مسئوليةً جماعيةً مزدوجةً، فمن ناحية أولى يجب أن تبدأ السلطة التشريعية بأن تتحمَّل مسئوليتَها تجاهَ المجتمع بالإعلان الفوري عن وقف العمل بهذا القانون، ويجب من ناحية ثانية أن تتحمَّل القوى الاجتماعية والسياسية مسئوليتَها، ليس فقط من أجل حثِّ السلطاتِ على وقف العمل بهذا القانون، ولكن للعمل بشكل غير منفصل من أجل إصلاح ما أفسده القانون، سواءٌ على المستوى التشريعي أو السياسي أو الاجتماعي.

 

وإذ كانت المهمة الأولى- أي مهمة وقف العمل بالقانون وإنهاء حالة الطوارئ- تقع على عاتق السلطتين التشريعية والتنفيذية؛ باعتبار أن الحزب الحاكم هو حزب الأغلبية البرلمانية.. فإن المهمة الثانية- أي بناء مستقبل بلا طوارئ- لن تصلح إلا أن تكون مهمةً جماعيةً بين جميع أطراف المجتمع.