بقلم: عماد عجوة*

جامع عمرو بن العاص هو رابع مسجد أُقيم في الإسلام بعد مساجد المدينة والبصرة والكوفة، وأول بيت من بيوت الله في مصر وأفريقيا يُتلى فيه القرآن الكريم ويُروى فيه حديث النبي- صلى الله عليه وسلم- وهو أول موضع يجتمع فيه من الصحابة- رضي الله عنهم- ما لم يجتمع في غيره من المساجد الجامعة بعد إنشائه، هذا الجامع الذي عُرف بالجامع العتيق وبتاج الجوامع، ووصفه المؤرخ ابن دقماق بأنه إمام المساجد وقطب السماء الجوامع ومطلع الأنوار اللوامع، موطن أولياء الله وحزبه، ولا غرابةَ في ذلك فجامع عمرو مهد الحياة الثقافية الإسلامية التي عاشها أهل مصر.

 

النشأة والتطور

أنشأه القائد العظيم والسياسي المحنك سيدنا عمرو بن العاص بن وائل القرشي السهمي الصحابي الجليل، وقد شرع في بنائه بعد إتمام فتح مصر على يديه عام 21هـ= 642م، وكان موضع بناء المسجد دارًا لقيسبة بن كلثوم التجيبي، الذي تصدَّق بها على المسلمين لبناء المسجد، ويصف لنا ابن عبد الحكم في كتابه (فتوح مصر) بناء هذا الجامع العظيم، فيذكره أنه كان مجاورًا لحِصن بابليون الروماني الذي فتحه المسلمون، كما كان وقتذاك مشرفًا أو مطلاًّ على نهر النيل، وكان حوله حدائق وأعنابٌ.

 

ولم يزل سيدنا عمرو قائمًا أثناء بنائه حتى حددوا القبلة حسبما ذكر ابن عبد الحكم، ويذكر المؤرخ الكندي- نقلاً عن يزيد بن حبيب- أنه اشترك في تحديد قبلة مسجد عمرو ثمانون صحابيًّا من صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، والذين شاركوا في فتح مصر، وذكر منهم سيدنا الزبير بن العوام وعبادة بن الصامت وأبو الدرداء وفضالة بن عبيد وعقبة بن عامر ورافع بن مالك وسعد بن أبي وقاص وربيعة بن شرحبيل بن حسنة وآخرون رضي الله عنهم أجمعين.

 

وبلغت مساحة الجامع وقت إنشائه 50 ذراعًا طولاً و30 ذراعًا عرضًا، أي ما يوازي نحو 375 مترًا بالقياس الحديث، كما غُطِّي سقفه بجريد النخل وفرشت أرضيته بالحصا، ولمكانة هذا الجامع فقد أصبح موضع اهتمام الولاة والحكام المتعاقبين على حكم مصر الإسلامية، فاهتموا بأمر عمارته والزيادة في مساحته، وإدخال التحسينات عليه، ومِن أولى هذه الاهتمامات ما قام به والي مصر مسلمة بن مخلد الأنصاري سنة 53هـ= 672م في عهد سيدنا معاوية بن أبي سفيان؛ حيث ضاق المسجد بأهله، وشكى الناس للوالي مسلمة، الذي كتب بدوره إلى خليفة المسلمين معاوية يستأذنه في زيادة مساحة المسجد فأذن له، فزاد مساحته من الجهة الشرقية، وبنى له أربع مآذن في أركانه وفرشَه بالحصير.

 

أما الزيادة الثانية فقد أُجريت على يد الوالي عبد العزيز بن مروان سنة 79هـ= 698م وهو يومئذ أمير مصر من قِبَل أخيه الخليفة عبد الملك بن مروان، فوسع في المسجد من الناحية الغربية، كما قام الوالي عبد الله بن مروان بتعلية سقف الجامع حيث كان وقتذاك منخفضًا جدًا.

 

وكانت عمارة الوالي قرة بن شريك من أهم العمارات وأحسنها وذلك سنة 92هـ= 710م والتي استغرقت عامًا كاملاً، فقد هدَم المسجد بكامله وأعاد بناءه من جديد وزاد في مساحته من الجهة القبلية فضلاً عن توسيعه من الجهة الشرقية؛ بحيث ضمَّ إليه جزءًا من دار سيدنا عمر بن العاص ودار سيدنا عبد الله بن عمرو، وكانتا مجاورتين للمسجد من هذه الجهة، كما صنع للمسجد منبرًا ومحرابًا، وفتح له أربعة أبواب، أما الوالي صالح بن علي الوالي العباسي فقد قام سنة 133هـ بزيادة مساحة المسجد من الجهة البحرية وأدخل فيه دار سيدنا الزبير بن العوام.

 

إلا أن أهم الإصلاحات والزيادات التي شهدها الجامع على الإطلاق هي تلك التي قام بها والي مصر عبد الله بن طاهر من قِبَل الخليفة العباسي المأمون سنة 212هـ= 827م حيث أضاف للمسجد قدرَ مساحته الأصلية، وقد أجمع علماء التاريخ والآثار على أن تلك الزيادة التي أحدثها عبد الله بن طاهر في جامع عمرو لم يطرأ عليها تغيير بعد ذلك حتى يومنا هذا؛ حيث أصبحت مساحة الجامع 112.50 م× 120.50م وهي مساحته الحالية.

 

وكل ما أُدخل على المسجد بعد ذلك من قبل الولاة والحكام الطولونيين والفاطميين والأيوبيين والمماليك كانت عبارة عن تحسينات وترميمات وإضافة عناصر معمارية في إطار المساحة السابقة، وفي العصر العثماني قام الأمير مراد بك سنة 1212هـ= 1797م بهدم الجامع وأعاد بناءه، ولما جاءت الحملة الفرنسية إلى مصر جرَى لمسجد عمرو ما جرى لغيره من مساجد مصر والقاهرة من الهدم والتخريب، إلى أن اهتم بإصلاحه محمد علي باشا وأعاد فيه صلاة الجمعة ثم سقط إيوانه الشرقي والغربي سنة 1882هـ فقامت وزارة الأوقاف بإصلاحه، وفي سنة 1926م أُعلنت مسابقة عامة لوضع تصميم للجامع لإعادته إلى بهائه القديم، وفي سنة 1930م قامت لجنة الآثار العربية بعملية إصلاح وترميم شاملة للجامع، ومؤخرًا تم الانتهاء من أعمال ترميم واسعة للمسجد من قبل المجلس الأعلى للآثار.

 

ضريح عبد الله بن عمرو

يوجد الآن بالزاوية الشمالية الشرقية للجامع قبةٌ مُقامةٌ فوق ضريح يقال إنه دفن فيه سيدنا عبد الله بن عمرو بن العاص؛ حيث تذكر بعض الروايات أن مروان بن الحكم سار إلى مصر وحارب المصريين، وكان عبد الله بن عمرو من جملة القتلى فدُفن في داره، فلما وسَّع الجامع قرة بن شريك أدخل به ذلك الجزء من الدار الذي دُفن فيه عبد الله بن عمر، فصار من ذلك الحين ضريحًا له.

 

وقد ناقش كثير من العلماء موضوع هذا الضريح، وأكدت الدراسة أن وجود قبر عبد الله بن عمرو غير موثوق به لعدة أسباب، أولها: أن موقع القبر كان دار عمرو بن العاص وليس دار ابنه عبد الله، والأمر الثاني: اختلاف المؤرخين في مكان وسنة موت ودفن سيدنا عبد الله بن عمرو، فمنهم من قال إنه مات بالشام كالواقدي، وجاء في كتاب أسد الغابة في معرفة الصحابة أنه توفي سنة 63هـ وقيل 65هـ بمصر وقيل 67هـ، بمكة وقيل 55هـ بالطائف، والواضح أن أقوال المؤرخين غير مجتمعة لا على تاريخ موته ولا على موضع دفنه، كما أن المؤرخين الذين تعرضوا للوصف الشامل للجامع وكذلك الرحَّالة الذين كانت بُغيتهم في زيارتهم لمصر زيارة الأضرحة بها لم يذكروا شيئًا عن هذا الضريح، بل الأكثر من ذلك أن موضع الضريح كان به المئذنة الكبرى للمسجد، وفي ذلك كله دليل على أن عبد الله بن عمرو لم يُدفَن بالجامع مطلقًا، ويعتقد إن إنشاء هذا الضريح كان ضمن أعمال الأمير مراد بك.

 

الوظائف

 الصورة غير متاحة
كان لجامع عمرو وظائف متعددة؛ حيث إنه لم يعد موضعًا لأداء الصلوات أو الصلاة الجامعة فيه فحسب، بل سرعان ما اتسعت مهامه وتعددت وظائفه الأخرى، ومن أولى هذه المهام أنه كان مقرًّا لمجلس القضاء، فقد كان فيه محكمة لفض المنازعات، وكانت تُعقد جلساتها في زيادة الجامع الغربية، فيذكر المؤرخ تقي الدين المقريزي أن هذه الزيادة كانت لجلوس قاضي القضاة بها في كل أسبوع يومين، كما كان مجلس المحتسب صاحب الوظيفة الدينية القائمة على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في المسجد لمعاقبة المخالفين، كذلك كان بجامع عمرو بيت المال الذي شيَّده الوالي أسامة بن زيد المتوفَّى سنة 97هـ فوق فسقية الوضوء بوسط صحن الجامع؛ حيث كان يجلس متولي الخراج لمباشرة عمله، فيذكر المقريزي أن متولي الخراج كان يجلس في جامع عمرو بن العاص بالفسطاط وقد اجتمع الناس من القرى والمدن لأداء خراجهم.

 

الحركة العلمية

كان جامع عمرو مهدًا للحركة العلمية في مصر وبلاد أفريقيا، فقد شهدت أروقته نشأة العلوم الإسلامية الخالصة، كالحديث والفقه والقراءات، ولا غرابةَ في ذلك، فقد أصبح قبلةَ النازحين من الصحابة والتابعين وغيرهم من الأئمة المجتهدين والحفَّاظ البارزين من تابعي التابعين، كما كان محطَّ الآمال وقبلة طلاب العلم من سائر البلاد للتلقي عن شيوخه من القراء والفقهاء وغيرهم من حفَّاظ الحديث الذين تحلقوا فيه في أعقاب تشييده سنة 21هـ على يد الصحابة الذين شاركوا في جيش عمرو، وقد كان سيدنا عبد الله بن عمرو من أوائل الصحابة المحدثين في هذا الجامع، وقد التف حوله طلاب الحديث حتى أصبح بحق مؤسس المدرسة المصرية، فقد أخذ عنه كثيرٌ من أهل مصر الحديث، وهناك من الصحابة الكثير الذين لا يتسع المجال لذكرهم، من الذين تحدثوا في جامع عمرو، أمثال عبد الله بن جابر، وأبي بصرة الغفاري، وأبي أيوب الأنصاري.

 

ولا شك أيضًا أن وجود مجالس القضاء في الجامع كان له أثره في نشاط الحركة الفكرية بالجامع، وخاصةً ما يتعلق بعلوم الفقه والتشريع، فقد ازدهرت الحركة الفقهية بين أروقة المسجد، وقد عقدت فيه حلقات لتدريس الفقه، وممن سطع نجمه في جامع عمرو بن العاص الفقيه العلامة الليث بن سعد، وخاصةً في مجال الفقه والفتوى والتشريع، وأصبحت حلقته من أشهر الحلقات وأعمها، وكذلك الإمام الفقيه محمد بن إدريس الشافعي صاحب مذهب الإمام الشافعي، والذي قدِمَ مصر وبهَرَ الناسَ ببلاغته وعلمه في جامع عمرو؛ حيث تحلق الناس حوله بالمسجد ينهلون من علمه وفقهه وفضله.

 

ولم يقتصر دور مسجد عمرو على ذلك بل شهد نشاطًا أدبيًّا؛ حيث كانت تُعقد فيه مجالس أرباب اللغة والأدب والرواية وأخبار المغازي والفتوح.

 

مشروع جامعة عمرو بن العاص الإسلامية

كان جامع عمرو بن العاص جامعةً تُعقد فيها حلقات الدرس من كبار العلماء والفقهاء، وهو بذلك يكون قد سبق الجامع الأزهر في وظيفة التدريس بأربعة قرون، إلا أن هناك فرقًا بيِّنًا، فبينما كانت دروس جامع عمرو تعطَى تطوعًا وتبرعًا؛ حسبةً لوجه الله تعالى كانت الدروس في الأزهر بتكليفٍ من الدولة، وهذا ما حذا بالبعض من إنشاء جامعة إسلامية تهتم بالعلوم الشرعية فقط بعد أن تدخلت الدولة بإفساد التعليم بالأزهر.

 

ويذكر الأستاذ عبد الرحمن عبد التواب- العالم الأثري الكبير وشيخ الأثريين- أن الدكتورة سعاد ماهر رحمة الله عليها كانت قد أنشأت لجنةً للسياحة الدينية تابعةً لوزارة السياحة، وفي أولى اجتماعات اللجنة حضر وكيل وزارة السياحة الدينية بدولة ليبيا وناقشت اللجنة مشروعًا لإعادة ترميم جامع عمرو بن العاص وأعلن المسئول الليبي عن رغبة العقيد القذافي في التعاون في ترميم جامع عمرو بن العاص.

 

وبعد ذلك اقترح النائب العام المستشار محمد ماهر- أخو الدكتورة سعاد ماهر- إزالة المباني حول جامع عمرو وإنشاء جامعة عمرو بن العاص الإسلامية لتدريس العلوم التقليدية التي كانت تدرَّس في الأزهر قبل التطوير، إلا أن هذا المشروع الذي تحمَّس له أيضًا د. عبد الصبور شاهين أيضًا ماتت فكرته.

 

هذا هو الجامع العتيق تاج الجوامع، ما عدنا نسمع عن نشاطه إلا في العشر الأواخر من شهر رمضان، فهل سيعود جامع عمرو بن العاص لبهائه القديم؟!

--------

* باحث آثار إسلامية