هل يسمع ذلك النداء في رمضان أحد ممن يتولى أمر المسلمين فيقبل على الخير، وهل يعي هذا المتآمرون على أمتهم وعلى شعوبهم وأوطانهم فيقلعون عن أفعالهم وتوجهاتهم، وهل يفهم هذا الذين يأكلون أموال الناس بالباطل فيبتعدون عن السحت ﴿يَوْمَ لا يَنْفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ (88) إِلاَّ مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ (89)﴾ (الشعراء).

 

وهل سيقلع البعض عن المظالمِ وتلفيق التهم للأبرياء حتى لا تكون فتنة ﴿وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً﴾ (الأنفال: من الآية 25)، وهل ستطلق الحريات وتفك القيود، ويفرح الصغير بأبيه وينعم الأب والأم والزوجة بالمغيّب في قعرٍ مظلمةٍ وجوف معتمة، وهل يقبل الأخ على أخيه، ويتصافح الجار مع جاره وينس القطيعة ويودع الحرمان، وهل يمنع سفك الدماء وقتل الأبرياء ﴿وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا (93)﴾ (النساء).

 

وهل سيقلع أهل الشهوات ويقبلوا على الله بالتوباتِ والبعد عن المعاصي والسيئات في شهر الخير والغفران، نقول: أقبل أقبل يا رمضان وأقم طويلاً في هذه الأمة الطيبة المسكينة المقهورة، وألق عليها درسًا من دروسك البليغة، ولا تفارقها حتى تُزكي أرواحها، وتطهر قلوبها وتصفي نفوسها وتصلح أخلاقها وتذهب إصرها وتجدد حياتها، وتقيم موازينها وتعلمها أن المطامع والمظالم أساس الاستعباد، وأن الشهوات أسر وقيود، والقهر استغلال وقعود، والحرية انطلاق وصعود.

 

ولو نما في المسلمين حب الخير وطبعت نفوسهم على الجدِّ في طلبِ العلياء والتشوق إلى الآمال وبذل الجهد الصحيح في ذلك لرأيت أن المسلم لا يعجزه أن يكون في رمضان منفقًا لا سارقًا ومعطاءً لا متلافًا ومصلحًا لا مفسدًا وعادلاً لا ظالمًا، ورأيت أصحاب الشهواتِ تتحول شهواتهم إلى بذل المال في إطعام الفقراء والمساكين، ورأيت هذا التائب المسلم لا يعجزه أن يقتصد قرشًا واحدًا أو نصف قرش مما ينفقه في الدخانِ أو في شراء أسطوانة غناء أو في سهرةٍ من السهرات الحمراء أو الصفراء أو في وليمة لصحبة الهوى ليسد به رمق مسكين جائع أو فقير محتاج أو مدين مأزوم؛ لأن شهر رمضان شهر الرخاء والجود، يتذكر معه نعمة الله عليه وفضله إياه، وينهد إلى الثواب الجزيل في الشهر الفضيل، ويدَّخر أمواله لتُنفق في سبيل أمته على طريقِ المجدِ والخير ليكون ذلك قوةً لأمته وضعفًا لعدوه الذي يتقوى بسرفنا ويخترع بخاماتنا، ويغتني باستغلالنا وبما يبتز من ثرواتنا، ويرتع في خيرات أرضنا.

 

إننا إذا سرنا على الطريقِ المستقيم واتبعنا تعاليم رب العالمين وسيرة سيد المرسلين، وسرت فينا روح تعاليمنا الطيبة، وشعرنا بأنَّ في أموالنا حقًّا للسائل والمحروم، حتى يتقوى بها ويعمل بطاقته كلها عونًا لنا وسندًا لحضارتنا وحفاظًا على اليد العاملة عندنا.

 

إن في بلادنا اليوم كثيرين من المعوزين المهضومين يحاولون أن يتخلصوا من القيودِ والأغلال التي تُثقل كاهلهم وتنهك قواهم، ولا خلاصَ لهم إلا بأموال الدولة وعطايا المحسنين من بني جلدتهم، ﴿وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ (24) لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ (25)﴾ (المعارج) والقوة العاملة، والنشاط المدخر في اليد المتعطلة إذا لم يستغل ويستغنى وتلبى حاجاتها تدهور اقتصاد الأمة، وهو أساس القوة الأدبية والاجتماعية وسند مشروعاتنا الوطنية التي تدر علينا الربح وتكسب الأمة المكانة وتعطيها العزة.

 

وبعد: فهذا شهر رمضان ينبغي أن يقف فيه المسلم وقفاتٍ كريمةً يُنفق فيها صاحب المال على مَن لا مال له﴿هَاأَنْتُمْ هَؤُلاءِ تُدْعَوْنَ لِتُنفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَمِنْكُمْ مَنْ يَبْخَلُ وَمَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ وَاللَّهُ الْغَنِيُّ وَأَنْتُمْ الْفُقَرَاءُ وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ (38)﴾ (محمد).

 

فهذا شهر رمضان شهر الإرادة القوية، وشهر مراجعة النفس وشهر الروحانية والعبادة، وشهر القرآن العظيم ﴿شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنْ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ﴾ (البقرة: من الآية 185).

 

شهر المغفرة والتوبة والإنابة "يروي ابن عمر رضي الله عنه عن النبي- صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "الصيام والقرآن يشفعان للعبد يوم القيامة، يقول الصيام: أي رب إني منعته الطعام والشراب فشفعني فيه، ويقول القرآن منعته النوم بالليل فشفعني فيه فيشفعان".

 

ثم أليس الصوم طهارةً للنفوس ومدرسةً للأخلاق والسلوك الاجتماعي العظيم، "فإذا كان صوم أحدكم فلا يرفث ولا يفسق ولا يصخب، وإن سابه أحد فليقل إني صائم إني صائم، الذي نفسي بيده لخلوف فم الصائم عند الله أفضل من ريح المسك".

 

وأليس القرآن نبعًا فياضًا ينضح بالروحانية ويذكر النفوس بالملأ الأعلى، ويجلوا أمامها أسرار ملكوت السماوات والأرض، إنَّ القرآنَ حين نزل على الأمةِ العربية عمل في نفوسها عمل السحر، وبلغ أثره أعماق القلوب وتغلغل في حنايا الضلوع وتمكَّن من مكامن الأرواح وبدل الله به الأمة خلقًا آخر، وكان البون بعيدًا والفارق عظيمًا بين الأمة العربية في جاهليتها وإسلامها.

 

وها هو القرآن اليوم يُتلى علينا ويقرأ بين ظهرانينا فهل تغيرت به نفوسنا وانطبعت عليه أخلاقنا وفعل في قلوبنا كما كان يفعل في قلوبِ أسلافنا؟؟

 

وما هذا إلا لأننا نقرأ القرآن ولا نتجاوز به حلوقنا قراءةً آليةً، كلمات تتردد ونغمات تتعدد ثم لا شيءَ من فيضِ القرآن وروحانياته تقر في القلوبِ أو تفعل فعلها في الأقوالِ والأفعال والحياة الاجتماعية، إننا نريد أن نرجع إلى القرآن وننهل من روحانياته وتعاليمه، حتى تقوى الإرادة وتكشف عن أفئدتنا قتامة الغفلة فتتنزل علينا رحمات الله ونصره وتحل فينا بركات الصيام وأثره، فتجاب الدعوات، وتُمحَى السيئات، وتُعز الديار، ويفرح المؤمنون، وباغي الخير يقبل وباغي الشر يقصر وتقول الأمة من جديد: ﴿جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا﴾ (الإسراء: من الآية 81).