- كثير عليّ أن أكتب عنك.. وأكثر منه أن أتجرَّأ بوضعك في الميزان إن صح أن للفكر ميزانًا.. فقد عشت حياتك القصيرة عملاقًا في زمن الأقزام.

- رأيتك لأول مرة عام 1966 وأنت تساق مقيدًا بالأغلال إلى ساحة المحاكمة.. فرأيت (ثباتًا)، و(شجاعةً)، و(شموخًا)، ما رأيته إلا في قليل.. وما نقموا منك إلا أن (آمنت)، (فعملت)، (فكتبت).

نعم آمنت بما آمن به محمد صلى الله عليه وسلم.. والصالحون من بعده.. وعملت بما آمن به فاخترت أن تكون في صفوف (المجاهدين) وكتبت.. فأيقظت أمة.. طال نومها بعد أن حول قبلك (البنا) ومن معه كان هذا.. ما نقموه منك.

- وسَيَّروك إلى حبل المشنقة بعد محاكمة (هزيلة) رخيصة!!

 

وليلتها.. بل ساعتها.. شهدت وأشهدت من معي.. شهدنا عمودًا من النور يصعد من الأرض إلى السماء!!

 

وعلمنا أنها كانت ساعة (التنفيذ) حيث صعدت روحك ومن معك.. فأدركنا معنى قوله تعالى: (وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاء عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ) وتذكرنا معه قول رسول الله- صلى الله عليه وسلم- غداةَ غزوة أحد، وقد ودَّع فيها سيد الشهداء حمزة وكان معه سبعون من خِيرة الصحابة رضوان الله عليهم: "إن أرواح إخوانكم في حواصل طير خضر، تسرح من الجنة حيث شاءت، ترد أنهارها، وتأكل ثمارها، ثم تأوي إلى قناديل من ذهب معلقه تحت العرش.. اقرأوا إن شئتم قول الله تعالى: (وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ أَمْوَاتاً بَلْ أَحْيَاء عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ (169) فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللّهُ مِن فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُواْ بِهِم مِّنْ خَلْفِهِمْ أَلاَّ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ (170) يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِّنَ اللّهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ (171) الَّذِينَ اسْتَجَابُواْ لِلّهِ وَالرَّسُولِ مِن بَعْدِ مَا أَصَابَهُمُ الْقَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُواْ مِنْهُمْ وَاتَّقَواْ أَجْرٌ عَظِيمٌ (172)) (آل عمران).

 

وعلمنا- أخي سيد- أنك طلبت قبل التنفيذ أن تصلي ركعتين، ودعوت في السجود أن يقبضك الله قبل أن يصلوا إليك، واستجاب لك ربك، فقُبضت وأنت ساجد لكنهم أصروا أن يعلقوك على حبل المشنقة!! ليعطوا التمام إلى (رئيسهم) أنهم نفَّذوا فيك حكم الإعدام.

 

- الغريب أن الذي حمل سيد قطب إلى حبل المشنقة هو اللواء (البطل) فؤاد علام* كما جاء على لسانه وكان اسمه الكودي وقتئذ هو( جرجس بك)، ولعله أحب الاسم وأهله، (ويحشر المرء مع من أحب)!!

 

- وُلدت في هذا العام الذي ولد فيه البنا (1906م)

 

وتخرَّجت في نفس الكلية التي تخرج فيها (كلية دار العلوم)

وكما سبقك البنا في التخرج سبقك إلى ميدان الدعوة.. ولكنَّ مولدًا آخر كان لك.. حين رأيت القوم في الولايات المتحدة الأمريكية يحتفلون بمقتل البنا مستهل علم 1949م.. كان ميلاد جديد لك.. قررت معه أن تكون مع (الصالحين) أو مع (المجاهدين ).. وفعلت ذلك عام 1953م.

 

وأعزَّ الله الدعوة بك.. فكتبت (هذا الدين) و(المستقبل لهذا الدين) وأخيرًا (معالم في الطريق) وبين الأخير وما سبقه كتبت (في ظلال القرآن).. (قبس) من نور القرآن الساطع، (ونبض) من قلب القرآن الخافق، وروح من القرآن النافذ.. (وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحاً مِّنْ أَمْرِنَا مَا كُنتَ تَدْرِي مَا الكِتَابُ وَلاَ الإِيمَانُ وَلَكِن جَعَلْنَاهُ نُوراً نَّهْدِي بِهِ مَن نَّشـاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ (52)) (الشورى).

 

- قالوا في تفسير قول رسول الله- صلى الله عليه وسلم- "إن الله يبعث على رأس كل مائة عام من يجدد للأمة (دينها).. قالوا (البنا) مجدد القرن الرابع عشر، وقال علامة سوريا (الشيخ محمد الحق): بل مجدد القرون الأربعة الأخيرة!! فأين مكان (سيد قطب)؟!

 

وأميل إلى أن كلمه (مَن)- لغةً- لا تعني فردًا واحدًا، بل قد تعني (جماعة) فإن كانت جماعة (الإخوان المسلمين) هي المعنية.. فسيد في صفها الأول وإن قصرناه على البنا، فسيد شارح رسائله ومفصِّلها، ويلحق به من جاء معه في القرن الرابع عشر من (المرشدين).

 

وقد يكون معهم كذلك من العلماء العاملين آخرون من أمثال (أبي زهرة)، و(عبد الوهاب خلاف) وغيرهما!! ولا حرج على فضل الله (ذَلِكَ فَضْلُ اللّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاءُ وَاللّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ) (ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ).

 

- بقيت قضيتان أُثيرتا.. قديمًا وحديثًا: أولهما: اتهامٌ وُجِّه للرجل في عقيدته تولَّت الردَّ عليه دراسةٌ علميةٌ عميقةٌ(1) ونعرِض صَفحًا عما قيل فأكثره حركة حقد دفين.. أو جهل عميق.. والذي لم يستحِ أن يتطاول على مقام من اختار الشهادة.. وهو مقام يلي مقام النبيين والصديقين... لا يستحق أن يرد عليه!!

ثانيهما: اتهام وجه إليه في فكره، بقوله (بالتكفير) والرد على ذلك ردَّان:

رد قاله شقيقه (2) عندما فنَّد ما قيل عنه.. وردٌّ قلته يومًا عندما حملت جهات ثلاثة مسئولية وجود هذا الفكر وانتشاره وأقوله اليوم "إنه جهل بأسلوب الشهيد".. إنه أسلوب أدبي رفيع لعله عزَّ على أولئك القارئين.. ففسروه على غير ما يقصد صاحبه.

 

وإنه خلطٌ بين (الأحكام الفقهية) و(الخواطر الأدبية) التي يسطرها أديب له قدره الكبير.

- اتهام آخر بتفسيره اصطلاح (الجاهلية) على نحو أسيء فهمه هو الآخر، ولقد شرحته طويلاً في منهج دراسي درسته بالدراسات العليا (3)، وليس مجال سرده في مقال.

 

وأحسب كذلك أن كلمات (الشهيد) كانت كلماتٍ أدبيةً رفيعةً عزَّت على فهم ناقديه أو قادحيه!!
- أخيرًا.. فلقد قيل إن سيد كان يتطلع إلى منصب (المرشد).. إن صح أنه منصب؛ لأن التكليف والأخطار فيه لا تناسب أي (تكريم ) أدبي مزعوم!!

 

ومع ذلك وأنا على ذلك من الشاهدين، فلقد كان موقف (سيد) دائمًا موقف الجندي.. عندما كان يعرض ما يكتب على مرشده (الهضيبي) الكبير رحمه الله- قبل تقديمه للنشر- وعندما قبل منه التكليف في عام 1965م (ليتقدم صف الشباب في معركة الفكر) قبل أي معركة أخرى.

-  رحم الله الجندي، ورحم القائد، ورحمنا إذا صرنا إلى ما صاروا إليه!!

والحمد لله رب العالمين

-----------------------
* اعترف المذكور بذلك في حديث في إحدى الفضائيات، وذكر أنه اصطحب سيد قطب في قيد واحد، نصفه في يد الشهيد والنصف الآخر في يده.. (لعله تعجل قوله تعالى (وَتَرَى الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ مُقَرَّنِينَ فِي الأَصْفَادِ (49)).
(1) رسالة ماجستير للأخ الدكتور/ سيد عبد المقصود (شبهات حول عقيدة سيد قطب)، وقد أتبعها برسالة دكتوراة، والرسالة تحت الطبع إن شاء الله.
(2) هو الصديق الفاضل الأستاذ/ محمد قطب في مجلة المجتمع راجع مجلدات الثمانينيات.
(3) نحو نظرية للتربية الإسلامية- ليس بالتكفير والتجهيل تُربَّى الأجيال- مكتبه وهبة.