- تعلمنا منه كيف تكون القيادة بالحب

- بقاء الجماعة على مبادئها أكبر دليل على نجاحها

 

حاورته- أسماء أنور شحاتة

الحاج فرج النجار كان مسئول النظام الخاص بمحافظات وسط الدلتا، وانضم إلى الإخوان المسلمين في سنٍّ صغيرة ولم يتوانَ يومًا في أن يضحي ويُجاهد في سبيل دعوته.. تعرَّف إلى الإمام البنا مبكرًا وارتبطت عاطفته بالدعوة ومرشدها إلى اليوم، وكان من آخر الإخوان الذين رأوه قبل استشهاده، حُكم عليه بالسجن 25 عامًا أيام عبد الناصر إلا أنَّ السجنَ لم يَطُلْه؛ إذ قرر الحاج فرج ألا يسلم نفسه لزبانية الحاكم الطاغية، فعاش هاربًا في رحلةٍ طويلةٍ حوالي 17 عامًا دون أن تستطيع يد الزبانبة الوصول إليه.. أحد الرعيل الأول للإخوان المسلمين وأحد من عايشوا الإمام البنا عن قرب، ولأنه شاهدٌ على الدعوة منذ البداية كان لا بدَّ لنا أن نقف معه وقفة ذكريات ومواقف عايشها مع البنا رحمه الله؛ لذا كان لنا هذا اللقاء:

 

 الإمام البنا ومجموعة من الإخوان

 

* في البداية نود أن نسأل عن مواقف وذكريات لا تُنسى لكم مع الإمام حسن البنا؟

** في الحقيقة هناك مواقف كثيرة ولكني سأختار منها المواقف التربوية التي توضح شخصية الإمام البنا فأذكر أنه ذات مرة كنا في بلدة تتبع محافظة المنوفية اسمها "مليج"، وكانت هناك مجموعة من الإخوان المسئولين عن الشعبة اختلفوا في قضية ما، وحاولنا أن نُصلحَ بينهم ولم ننجح، وأصرُّوا على أنه لا حلَّ للمشكلة، فقلت لهم سأُخبر البنا قالوا حتى البنا لن يستطيع حلَّها، فذهبت إليه فأعطاني موعدًا وأخبرتهم به لينتظروه، وبالفعل أتى الإمام البنا في هذا اليوم واستقبلتُه وذهبنا إلى هناك، وكانوا بانتظارنا، وأول ما دخل الإمام أخذ يعانقهم ويبادلهم الأحضان، فقد كان هذا الرجل له جوٌّ مغناطيسيٌّ للحب في الله، إذا دخل حجرة وكان بها أناس يكون الجو غير طبيعي، فحدثهم عن الإخلاص والتعاون وهكذا، فبدأت أقول للإخوة تفضلوا بعرض الموضوع، فقال الطرف الأول منهم: أي موضوع؟! قلت له المشكلة التي أتينا من أجلها؟! قال: الموضوع انتهى ولن نتحدث فيه ثانيةً، فقلت للأخ الآخر- الطرف في المشكلة- فقال: انتهى الموضوع وتنازلتُ عن حقوقي، ولا يوجد موضوع من الأساس، فقلت لأخ كان معنا اسمه "كامل حنيجل"- وكان شاعرًا-: تحدثْ أنتَ، فقال لي: الموضوع انتهى ولكن هذا الموقف ينطبق عليه بيت شعر:

 

رُبَّ عود مقطع الأوتار مثل قلــ*** ــبي إن مسه البنا غنَّى

 

فبكى الإخوة وتصالحوا وصَفَت القلوب، فكان له جوٌّ مغناطيسيٌّ غريب، فمجرد وجوده فقط صلح الله الحال دون أن يتحدث الإمام أو يتكلم في موضوع المشكلة أو حتى الحبّ في الله، فقد كانت له جاذبية غريبة تسيطر على مَن أمامه.

 

وأذكر أيضًا أنه كان في إحدى البلدان المجاورة لمركز شبين الكوم بمحافظة المنوفية رجل اسمه عبد المنعم علام دائم السبّ في الإمام البنا والجماعة، فقلت للإخوان في المحافظة حينما يأتي الإمام في حفلة بالمحافظة أرسِلوا إلى عبد المنعم دعوةً ليحضُر، وبالفعل أتَى الإمامُ البنا إلى المنوفية في حفلة من الحفلات التي كانت تقام دائمًا، وأرسلنا إلى عبد المنعم الدعوةَ، ولما حضر أخبرتُ الإمامَ البنا عنه وعن أقواله، فقام إليه الإمام البنا واحتضنه، ثم أخذ يحاول أن يتجاذب معه أطراف الحديث، فسأله عن اسمه وعبد المنعم لا يردّ!! فسأله الإمام عن عمله وهو لا يردّ!! فمنعًا للحرَج بدأتُ أردُّ عن عبد المنعم كلما سأله الإمام سؤالاً، وفي اليوم التالي قابلتُه وسألته ما الذي جرى لك بالأمس؟! لماذا لم تكن تردُّ على الإمام البنا كلما سألك سؤالاً؟.. فقال لي: اسكت..!! لا أدري ماذا جرى لي حينما احتضنني الإمام؟! تُهت ولم أعرف بماذا أرد عليه!!

 

كان رحمه الله شخصيةً غير عادية.. وقد سافرت كثيرًا وقابلت أناسًا من مختلف القارات لكني لم أجد في لقائهم تأثيرًا كتأثير حسن البنا، فقد كانت ميزة في الرجل، ولذلك حينما تنظري له فسوف تقولين إنه أتى برسالة ليتممها ثم يرحل، وقد حدث حينما استُشهد رحمه الله، وحينما تبحثين عن خدماته ومحبته للإخوان ونظرته للمستقبل وتخطيطه.. كل هذه الأشياء كانت هي المسيرة للإخوان في كل العالم حتى اليوم.

 

* فما الأثر الذي تركه الإمام في نفس الحاج فرج منذ أول لقاء له معه؟

** أنا في الحقيقة نشأتي كانت بانضمامي للطرق الصوفية والتي لم أخرج منها بشيء مفيد، وكانت الطرق تتعدد، وانتميت لبعضها.. فمثلاً انضممت للطريقة الشاذلية وكان شيخها يجلس معنا في حلقة ويقول لنا: ابدأوا بذكر الله، فكنا نقول ونحن نهزُّ رؤوسنا يمنةً ويسرةً: "الحمد لربٍّ مقتدر خلق الجميز من الشجر"، وكأن أكبر عظة لنا في خلق الله هو خلقه الجميز من الشجر!! فلم أفهم ما هي الشاذلية؟ وما الفائدة منها؟ فانتقلت إلى طريقة أخرى لشخص اسمه سلامة الرازي، وانضممت له، وكان أحدهم يمسك سبحة وعصا حديدية يخبط هذه في ذاك ويقول" الحالة دي أنت عارفها وبنفسك أدي أنت شايفها مش ممكن تخفى عنك ياعم الشيخ سلامة نظرة ومدد لله" محدثًا سلامة هذا وقد وضعه موضع الألوهية!!

 

وفي مرة كنت ذاهبًا إلى الشيخ أحمد أبو يونس وهو شيخ كفيف، وأخبرته بما يقولون فقال استغفر الله ونصحني بالابتعاد عنهم لما في حديثهم من شرك، ثم انضممت إلى جماعة الرفاعية وحدثت مفارقات مضحكة كثيرة انتهت بأني تركتهم هم أيضًا، وقد مللت من تلك الطرق الصوفية وكنت وقتها في الخامسة عشرة من عمري وكنت متفوِّقًا في لعب كرة القدم، وفي يوم من الأيام كنت ألعب مع بعض الشباب فأتى إليّ شخصٌ مقيم في مصر ولكنه من بلدي، يعرفني وأعرفه، اسمه عبد الرزاق العربي، وقال لي: نحن نريدك أن تنضمَّ لطريقتنا، فقلت له أي طريقة؟! أنا مللت من الطُّرُق، وكان يمسك في يده مجلة تبرز منها ورقة فشددتها وأخذت أقرأها فتأثرت بشدة من الكلام المكتوب فيها، وكان:

 

 

ادعوا إلينا الدنيا فقد أبرمنا أمرًا

وأجمع علينا الناس فسنتلوا عليهم من لدنا ذكرًا

سنطب المريض بداوئنا

وننفخ في الجبان من روحنا

صمّت أذن الدنيا إن لم تسمع لنا

الله غايتنا والرسول زعيمنا والقرآن دستورنا والجهاد سبيلنا والموت في سبيل الله أسمى أمانينا، فأثر فيّ هذا الكلام بشدة، أعني أن الطرق الصوفية لم تؤثر فيّ هذا التأثير الذي أثرته هذه الكلمات القليلة، فسألته ما اسم هذا الشيخ الذي تريد مني الانضمام إليه، فقال لي حسن البنا، فسألته عن كيفية الوصول إليه، فاتفقنا على يوم نذهب فيه سويًّا إلى الإمام البنا في القاهرة، وكان يوم "الأربعاء" وكانت هناك محاضرة يلقيها الإمام البنا في هذا اليوم فذهبنا إليه هناك، ولما دخلنا القاعة التي يلقي فيها المحاضرة لاحَظَنا الإمام ونحن نجلس، فنظَرَ لنا، فلا أدري ماذا حدث لي، أحسست أن جسدي يتفكَّك من نظرته، وتأثرت بها بشدة، وبعد انتهاء المحاضرة نزل الإمام من على المنصة ووجدناه قادمًا ناحيتَنا وقام باحتضانِنا حتى تعجَّبنا!!

 

وسألَنا عن وجهتنا، فاستأذن عبد الرزاق، أما أنا فقال لي الإمام: انتظرني هنا سأذهب إلى مشوار وأعود في العاشرة مساءً، فجلست أنتظره إلا أنه تأخَّر ولم يأتِ إلا الساعة الواحدة بعد منتصف الليل ولما أتى مقبلاً عليّ اعتذر لي عن تأخُّرِه فزاد عجبي من هذا الشخص الكبير المقام والسن وهو يعتذر لي وأنا الذي لم أتعدَّ الخامسةَ عشرة من عمري، ثم استأذن في الذهاب إلى منزله لينام فيه على أن يأتينا في الفجر وكان بيته لا يبعد عن الدار سوى أمتار قليلة.

 

وعند الفجر لما أتى قمنا وصلينا ثم جلسنا ومعنا بعض الشباب الذي أتى إلى الدار في وقت الصلاة لنقرأ المأثورات، ولم أكن وقتها أعرفها، فكنت معهم "أدندن" دون أن أعرف ماذا يقولون، ثم قاموا ليرتدوا ملابس الرياضة ولم يكن معي ملابس سوى ما أرتديه، إلا أني قمتُ معهم وبدأنا بلعبِ رياضة سويدي في حوش الدار ومعنا الإمام، وقبل انتهاء الرياضة بقليل وجدت الإمام قادمًا من خلفي وشبَّك يده بيدي وقال لي هيا بنا.. وفي الحقيقة طوال السنوات التي قضيتها مع الإمام البنا كان كلما أمسك بيدي كنت أشعر بهيامٍ رُوحي غريب لا أعرف معه أن أسأل حتى إلى أين نحن ذاهبان..!!

 

وصلنا إلى بيت الإمام وجلسنا معًا، فبدأ يتناقش معي في نشاطي الإسلامي، وبدأ يشرح لي عن الإسلام الذي لم أكن أعرف منه سوى الطرق الصوفية!! وجلس معي حوالي ثلاث ساعات متواصلة، ثم أخذ مني بيعة عامة دون تخصيص، ثم قمت لأسافر، فأخذ يشرح لي الطريق للسفر وأرقام المترو لكي أركبه، وطلب مني الحضور كل ثلاثاء لحضور الدرس الأسبوعي، وأصرَّ على أن أمرَّ عليه بعد كل درس في مكتبه لأسلمَ عليه ويطمئن عليَّ وعلى الأسرة التي عرفها كلها فيما بعد، كل واحد باسمه، وكان يوصيني بالسلام عليهم كلَّ مرة أقابله فيها، وواظبت على هذا الأمر من يومها- وكنا في بداية عام 1939م- وحتى هذا اليوم وأنا منتظم في الجماعة وتنظيمها ونشاطها وكانت كل تلك السنوات حركةً وتجردًا لهذه الدعوة بفضل الله تعالى.

 

* دعوة الإسلام دعوة شاملة كما شرح الإمام، والبعض الآن يقول إنها قامت على أنها دينية لا علاقة بها بالسياسة، فكيف ربط الإمام بين الإخوان والسياسة وتعامل مع هذا الملف الشائك؟!

** أريد أن أقول في البداية إن الإمام البنا لم يربط بين الإخوان المسلمين والسياسة، وإنما كان يتبع قواعد ثابتة في الإسلام، فمرجعنا كتاب الله وسنة رسوله، ومنهما نعلم أن الرسول زاول النواحي الروحية والعبادية والتنظيمية والسياسية، فالإسلام لا يمكن تجريده من السياسة، ومَن يفصل بين الاثنين يكون ذا فهم ناقص غير متكامل، وقد كان- رحمه الله- يفهم الإسلام فهمًا شاملاً كاملاً فيه كل شيء.. نشر الدعوة والتربية والسياسة والقانون والسلم والحرب، لا يترك شيئًا أبدًا.

 

فلا نستطيع أن نأتي اليوم لنقول إن البنا فصل السياسة عن الدين أو عن الإخوان، فنحن اتبعنا الدين المتكامل الشامل والسياسةُ جزءٌ منه، والناس الذين لا يفهمون هذا الأمر اليوم ربما سيفهمونه غدًا.

 

وأذكر أنه في عام 1940م، قام الأستاذ البنا بترشيح نفسه عن دائرة الإسماعيلية في وقت كان الاحتلال الإنجليزي فيه موجودًا، ولما قام بترشيح نفسه قاموا بالضغط على مصطفى النحاس باشا لكي يتنازل الإمام عن الترشيح، ولما ضغطوا عليه سألنا الإمام البنا عن جدوى دخوله البرلمان وسيكون فردًا واحدًا وسط مئاتٍ يحمل فكرًا معيَّنًا، فجمعنا إليه وجلس معنا وقال لنا إننا في الدعوة حينما نتواجد في مكان ونريد أن ننشط فيه نكلِّف شخصًا ما ليدخل هذا المكان ليَكُون واحدًا واثنين وثلاثة، ثم مجموعة وهكذا في البرلمان.. ووفق قدرتنا سنبدأ العمل، وكانت تلك سياستنا في العمل الدعوي عامة.

 

دور المرأة

* يدَّعي البعض أن الإمام البنا همَّش دور المرأة أثناء إنشائه لجماعة الإخوان المسلمين فكيف كان الإمام البنا يرى دور المرأة؟!

** الإمام البنا لم يكن لديه فكرٌ خاصٌّ عن المرأة، فعقيدتنا إسلامية، وهي التي تحكمنا، ومنهجنا كتاب الله وسنة رسوله، نرى فيهما ما أتى في هذا الشأن ونطبِّقه، وإذا كانت هناك فروق بين الرجل والمرأة فهي نوعية ومحدودة والإسلام يعترف بها وبحقوقها وواجباتها مثلها مثل الرجل، فالفقهاء يقولون: "إذا ديست أرض الإسلام كان الجهاد فرض عين على كل مسلم ومسلمة، تخرج المرأة إلى الميدان دون إذن زوجها" هكذا قال الإسلام، وهكذا كان فكر الأستاذ البنا نحو المرأة، ولما أُنشئت جماعة الإخوان قسَّمها الإمام إلى عدد من الأقسام، كان من ضمنها قسم الأَخوات المسلمات، وكان له برنامج ونشرات وقيادات، ولما حدَّد الإمام غاية الإخوان كجماعة قال إن غايتها الحركية تكوين جيل جديد يفهم الإسلام فهمًا صحيحًا.

 

فالمرأة إذًا جزءٌ أساسيٌّ لتحقيق هذه الغاية الموضوعة، فلو أردنا تربية جيل من دونها فلن يكون جيلاً صالحًا، فهي نبعُ الحنان والعطف والتربية والتأسيس السليم.

 

* وكيف كان الإمام البنا مع إخوانه..؟ قائد صارم أم والد حنون؟!

** دعيني أوضح لكِ في البداية القاعدة العامة أن الإمام البنا رحمه الله كان يقود الجماعة بالحب في الله، أما الصرامة تلك فتستخدمها الأحزاب مع أعضائها، أما نحن فكان البنا يكلِّفنا بعينيه، فكان عندما ينظر إلى الأخ وقد كلفه بأمر ما يقوم بفعله دون مناقشة، بالحب والإخلاص كنا نقوم بهذا العمل، وأذكر أنني كنت في يوم من الأيام تأخرت حوالي نصف ساعة عن موعدي مع الإمام والمجموعة التي كانت معه، ولما وصلت إلى هناك وجلست أمامه- رحمه الله- كان بيدي جنيهان، فأخذت أقطعهم دون أن أشعر بما أفعل، فالتفت إليَّ الإمام وقال لي ماذا تفعل؟ فقلت له لقد تأخرت على موعدي ولم أشعر بما أفعل في النقود، فقام إليَّ واحتضنني، وانتهى الموقف، فأحسست بالحرج الشديد لتأخري عن موعدي مع الإمام، ورغم أني مخطئ لم يعنِّفْني أو ينهرْني، وإنما احتضنني وكأنه يخفف عني ما أشعر به من حرج وخطأ.

 

فقد كنا نَهابُه ونحترمه، لا نخافه أو نرهبه، وكنا نعتبره هبة الله للحركة الإسلامية، وحياتنا مع الأستاذ البنا لم تكن يومًا مبنيةً على الخوف أو الرهبة، وإنما على الاحترام الكامل والشعور بالحب الصافي، حتى ليُهيَّأ للغريب أننا نخافه، وفي الحقيقة أنا لم أتأثر بأحد في حياتي كما تأثرت بهذا الرجل، فكان عندي أفضل من كل شيء في هذه الدنيا، وبالمناسبة كل أخٍ في جماعة الإخوان المسلمين احتكَّ أو عرف الإمام عن قرب كان يظن أنه يكنُّ له حبًّا خاصًّا دون غيره من الإخوة، والحقيقة أنه كان يحب الإخوان جميعًا حبًّا واحدًا ومتساويًا، ويبادلنا حبًّا بحب، فقد عَلِمَ أن الحب في الله هو العمود الفقري لجماعة الإخوان المسلمين فالتزم به وألزمَنا.

 

بين جيلين

* كثير من الناس يقولون إن إخوان الماضي الذين عايشوا الإمام البنا غير إخوان الحاضر ممن نشأوا فوجدوا أنفسهم داخل الجماعة، فما الفرق بين الماضي والحاضر؟!

** الفرق أن الجيل القديم من الإخوان عرف أن الإخوان المسلمين جماعة قائمة على الحب في الله، والفرق بين الجيلين هو الفرق في درجة هذا الحب بين الأفراد بعضهم البعض، ففي الماضي كان الإمام البنا رحمه الله يعرف أن الحب في الله هو العمود الفقري الذي تتكئ عليه الجماعة، فإذا اختفى هذا الحب وجب الرجوع إلى التربية من جديد، فأي جماعة من دون حب في الله هي جماعة ضعيفة ومستهلكة، أما الجماعة المتحابة في الله فهي قوية ومترابطة وضخمة بمشاعرها المخلصة المنزّهة عن أي مصالح.

 

 

وما حضرت اجتماعًا مع الأستاذ البنا رحمه الله إلا وكان يؤكد فيه هذا المعنى وأهمية الحب في الله للجماعة، فقد كان- رحمه الله- يضعه كمنهج أساسي في التربية داخل الإخوان المسلمين، وكان إذا علم أن هناك مشكلةً بين أخوين يسارع بحلها؛ حتى لا يهتز الحب في قلوب البعض وتكون ذريعة أو خللاً داخل الإخوان، وأذكر أننا في المحافظة كان بيننا إخوان قد اختلفوا فيما بينهم، حتى قال أحدهم لن آتي إليكم مرةً أخرى، ولا نعرف كيف وصل الأمر إلى الإمام رحمه الله، فإذا به يُرسل إلينا أن اجتمِعوا في اليوم الفلاني الساعة الفلانية عند الأخ فلان، فذهبنا إلى هناك ونحن لا نعرف لماذا جمعنا الإمام، وفجأةً طرق الباب طارقٌ، ولما فتحت فوجئنا به أمامنا، فقمنا إليه نسلم عليه مستبشرين بوجوده بيننا، فطلب من كل واحد منا أن يقرأ جزءًا من القرآن الكريم، ولما انتهينا قام ليرحل فأصررْنا أن يجلس معنا ولكنه رفض وقال لنا حينما تحبون بعضكم البعض سآتيكم وأجلس معكم وأتحدث إليكم.. فبكَينا جميعًا من قوله.. يعني أتى من مصر خصيصًا فقط ليصلح بين الاثنين خوفًا منه أن تضعف العاطفة بين الإخوان.

 

أما اليوم فحقيقةً حينما كنت مشرفًا على الأُسَر وكان يبلغني شقاق بين أحدهم كنت أذهب إلى الأسرة فإذا نظرت في العيون ووجدت الحب فيها علمت أنه خلافٌ عابرٌ ونقوم بحل المشكلة، فإن لم أجد الحب يطلُّ من عيونهم علمت أن هناك قصورًا في التربية وعلينا أن نصلحها ونراجعها.

 

* عشر سنوات قضيتها مع الإمام البنا.. فماذا كانت أبرز صفاته رحمه الله؟

** كان رجلاً تقيًّا متواضعًا كلما ذكره أحد في محاضرة أو خطبة وكان يحضرها ترقرقت عيناه بالدموع حتى البكاء!! وفي مرة من المرات كان الإمام البنا على موعد مع إحدى القرى التابعة لمحافظة المنوفية، وكنت دائمًا أستقبله إذا ما حضر إلى هنا، فلما أتى وذهبنا إلى القرية واقتربنا منها إذا بالناس يهلِّلون ويمسكون بالطبل والمزامير ويلقون عليه بالورود ويطلقون الأعيرة النارية في الهواء فرِحين بحضوره إليهم، مهلِّلين بوصوله إلى القرية وكنا قد اقتربنا من مصلى في أول القرية، فوجدت الإمام يقف ويطلب أن يصلي فيه ركعتين، فدخلت معه إلى هناك، فبدأ بالصلاة وصليت معه وبعد انتهائه منها سكت برهة، ثم ناجى ربه وهو يبكي بكاءً شديدًا ويقول "يارب.. المصلحون والدعاة يقابلهم الناس بالطوب والحجارة وأنا يستقبلني الناس بالورود والحفاوة فهل أخطأتُ يارب..؟! هل أنا منحرف عن الحقيقة..؟! يارب إن لم يكن بك عليّ غضب فلا أبالي" فجلست صامتًا بجواره حتى مسح وجهه، وقام فقمت معه، ودخلنا القرية التي تسبب أهلها في بكاء البنا من دون أن يدرون.

 

* كنت من الإخوان الذين قابلوا الإمام البنا قبل يومين من استشهاده.. فهل تروي لنا بعضًا من لقائكم الأخير معه رحمه الله؟

** هذا يومٌ لا أنساه أبدًا ودائمًا ما يرد بخاطري فأذكر الإمام- رحمه الله- والحقيقة الأستاذ حسن البنا بالنسبة لأعدائه كان خصمًا قويًّا، وقد كانوا قد قرروا التخلص منه أكثر من مرة، وبما أني كنت مسئولاً عن النظام الخاص بوسط الدلتا، فكانت هناك معلومات وردتني عن أربع مرات حاولوا فيها اغتيال الإمام وكان النظام الخاص يُحبطها بفضل من الله، فقد درسوا جيدًا وعلموا أن أخطر شيء في الإخوان حسن البنا، وقالوا إنه لو ظل حيًّا فسيكون زعيم الشرق؛ لذا خطَّطوا لاغتياله، وحينما وقع بين أيديهم- عن طريق الخطأ- تخطيط النظام الخاص واعتقلوا قياداته تجرَّأوا على الإمام البنا وقبل اغتياله بيومين قرَّر الإخوة أن أذهب إليه في منزله لأطلب منه أن يأتي معي فيختبئ في مكان بعيد عن أعينهم، وبالفعل ذهبت إليه يوم 10 فبراير وطلبت منه ذلك ولكنه رفض وقال لي بيتًا من الشعر لا أنساه ما حييت:

في أي يومي من الموت أفر *** يوم لا يقدر أم يوم قُدِّر

يوم لا يقدر لا أرهبه *** ومن المقدور لا يُنجي الحذر

 

وقال لي أتريدون أن تحرموني من الشهادة في سبيل الله؟! ورفض رفضًا قاطعًا أن ينزل معي، ولكن بعد الحاح شديد اتفقنا على أن يُنهِيَ مقابلته مع مصطفى مرعي التي كان مقرَّرًا لها يوم 11 فبراير إلا أنها تأخرت يومًا وكانت يوم اغتيال الإمام 12 فبراير، فإن تم الصلح بيننا وبينهم انتهى السبب الذي يجعلني أختفي وإن لم يكن فلكم ما تريدون.

 

وانتهى لقائي معه على ذلك ورحلت، ويوم اللقاء تم اغتياله- رحمه الله- فلم يكن رجلاً يُغرَى بالمال ولا المناصب، كان رجلاً ربانيًّا، ومهما تحدثت عنه لن توفيه الكلمات حقه، فقد كان نجمًا سطع واختفى فجأة ومهما تحدثت عنه فلن أوفيَه حقه.

 

* كلمة يقولها الحاج فرج النجار في ختام لقائنا معه في مئوية الإمام البنا؟

** لا يسعني إلا أن أقول إنه كان أستاذ الدعوة وفقدناه، ولا يمكن أن نقارن بينه وبين الآخرين، وكان كثير من الإخوة يقولون إنه بفقدان حسن البنا ستتوقف دعوة الإخوان وتنهار، إلا أنني كنت أقابلهم وأقول لهم إنه كان حاملاً للراية فإن سقط فسيحملها غيره، ولكن بيني وبين نفسي كنت أقول إن استشهادَ الأستاذ البنا هزَّ الجماعةَ، إلا أن واجبنا أن نواصل العمل، فيوم أن أنشأ الإمام الدعوة أنشأها وهو يعلم أيَّ صعوباتٍ سنواجه، وعلينا ألا ننهزم مهما تعبنا، فالجهاد لا نهايةَ له ولا الصبر أو العمل المتواصل مهما كانت النتائج ومهما استُشهد في سبيل الله أناسٌ، فهكذا تعلَّمْنا من الإمام، وعلى هذا عاهدنا الله، فالصبر نصف المعركة