الصورة غير متاحة

 د. توفيق الواعي

تحت هذا العنوان وحوله طوَّف من زمن كثيرٌ من الكتَّاب، وتحدثوا عن النصر الذي حقَّقه المجاهدون الأفغان- قبل أن يتشرذموا- بقليل من العدد والعدة، وتحت ظروف صعبة وتضحيات مريرة وأجواء ملبَّدة بالغيوم، بين مشكِّكٍ ومضلِّلٍ وساخرٍ ومتحاملٍ ومتربصٍ من أعداء الأمة، وبين سلبي ومترهِّل، وكارهٍ ومتردِّد، وخائف وعميل من بنيها، وبين علماني وعقلاني وعدواني من مثقفيها، وبين عاجز ومتحذلق ومتحوقل من علمائها، وبين متندِّر ومتشائم ومخدَّر من حكامها.

 

استطاعت ثُلةٌ مجاهدةٌ في سبيل عقيدتها وكرامتها وديارها أن تنتزع النصر من أفواهِ الأسود وأنيابِ الفهود وأظفارِ الكواسر، فما كانت روسيا بالبلد الضعيف وجندها كما يقولون عقائديون أصحاب فكرة، مدرَّبون متقشِّفون روَّاد معارك، مجهَّزون مبرمجون محصَّنون أهل تكنولوجيا، زِدْ على ذلك يساعدهم حكمٌ عميلٌ باع نفسه حتى الثمالة، وعقائديون ضالُّون مخدوعون حتى النخاع, بيدِهم مقدَّرات بلدٍ مستباح وشعب مستعبد، وجيش منظّم مدرَّب مكبّل ومملوء بالأحقاد ومشحون بالأباطيل، وقد استعملت روسيا في هذه الحرب كل ما تملك من أنواع الدمار، واستغلَّت كلَّ مدخراتها من الذخائر، جرّبت طائراتها الحديثة فور صناعتها، وذخيرتها فور إنتاجها، ما هو مسموح به وما هو محرم.

 

جرّبت طائراتها "الميج" 25 ثم 27، وجرّبت كل أنواع الصواريخ، ومنها صاروخ أسكود، الذي يزِن 5 أطنان ونصف الطن، وطوله أحد عشر مترًا، وقوته التدميرية رهيبة، واستعملوا سياسة الأرض المحروقة، وسياسات التجويع والإبادة، ولكن المجاهدين- ورغم ذلك- كانوا صواعق محرقة، وزلازل ناسفة، وكوابيس مرعبة، لجند المحتل وعسكر البغاة!! تحدث جنـدي شيوعي سأله التلفزيون الروسي قائلاً: كيف حالكم في أفغانستان؟ قال: عندما نسمع صيحة "الله أكبر" نبول في ثيابنا!!

 

وحينما ننظر إلى حجم الخسائر التي حققها المجاهدون في صفوف العدو، والتي رصدتها الأقمار الصناعية الأمريكية، نجدها مرعبةً هائلةً، استطاعت أن تُركِع دولةً عظمى على ركبتيها، بل تضع أنفَها في التراب، وتمرِّغها في الأوحال، فمِن خلال الأقمار الصناعية التي تصوِّر المعارك وترصد الطائرات وتحصي الدبابات، ومن خلال أجهزة التنصُّت المبثوثة في المراصد والقواعد التي في أفغانستان وباكستان وما حولهما، كانت حتى عام 1988 تدمير 2080 طائرة، كما استهلكت روسيا مثلها 2080، وذلك يوازي ثلاثة أضعاف القوة الجوية الإسرائيلية، ودُمِّر من الدبابات والمجنزرات 17 ألفًا والآليات غيرها 21 ألفًا، والذين قُتلوا حسب اعتراف الروس 50 ألفًا من الروس، وكانت روسيا تنفق على جنودها وعلى التسليح وعلى عملائها من النظام العميل 45 مليونًا يوميًّا.

 

وهذا شيء استمر طويلاً حتى جعل روسيا وجورباتشوف يراجع حساباته، علَّموهم أن الدين أفيون الشعوب، فإذا بهذا الدين يوقظ الشعوب ويهزم القوى التقدمية في العالم بأسلحة مضحكة وبغير دبابات ولا طائرات ولا صواريخ ولا قادة بنياشين ولا اعتمادات أو حسابات مفتوحة بمليارات، بل ويجعل تلك القوى تصرخ وتستجير.. يقول غورباتشوف صائحًا: أين الأمم المتحدة؟ أين معاهدة جنيف؟ أين المراقبون؟ ثم يطالب بتشكيل مؤتمر دولي ليخلِّصه من مشكلة أفغانستان، ثم لا مغيث!! فيأمر بإخراج جنده مهزومًا من أفغانستان، ولا نبالغ إذا قلنا إن الجهاد الأفغاني كان أحد الأسباب الرئيسية والفاعلة والمؤثرة في انهيار الاتحاد السوفيتي وفي تخليص 6 جمهوريات مسلمة رزحت طويلاً تحت ذلّ وقهر البلشفية الشيوعية المدمرة، وإن كانت ما زالت تعاني من آثار ذلك الكبت بعد.

 

والحق أقول: لقد كانت إرادة الجهاد أقوى من أي قوة عظمى؛ حيث لَوَت عنق ذلك الجيش الأحمر المرعب، الذي كان يستعرض عضلاته في الساحة الحمراء، وكبَّدته خسائر فادحة، ما كان ليخسرها في أي حرب عظمي، وما كانت لتفعل فيه ما فعله الأفغان.

 

وهذا النصر- رغم الأجواء