إشكالية كبيرة تمثلها علاقة الإسلام بالغرب، خاصةً بعد أحداث 11 سبتمبر وما أدَّت إليه من تشويه صورة الإسلام في الغرب عمومًا، وأوروبا على وجه الخصوص؛ حيث تم توجيه الاتهامات الباطلة للإسلام بأنه دينٌ يحثُّ على العنف ويدعو إلى التطرف والإرهاب، الأمر الذي مثَّل أزمةً كبيرةً بالنسبة للمسلمين في الغرب والشرق على حدٍّ سواء؛ إذ أدت تلك النظرة الخاطئة للإسلام إلى زيادة الكراهية للمسلمين؛ لدرجةٍ وصلت لأن ينتهج الغرب مع المسلمين ممارساتٍ تتنافى تمامًا مع المبادئ التي طالما نادى الغرب بالحفاظ عليها، وكانت سبب تميِّزه وتقدُّمه على غيره من شعوب العالم، وخاصةً تلك المتعلقة بالديمقراطية وحقوق الإنسان، وهو ما يدفعنا لنتساءل من جديد عن إمكانية قيام المسلمين في أوروبا بدورٍ ما في تصحيح تلك النظرة الخاطئة للإسلام والمسلمين، فضلاً عن دفع الضرر الواقع عليهم جرَّاء ذلك.

 

نظرة تاريخية

في الحقيقة ولكي نكون موضوعيين لا بد بدايةً من إلقاء نظرة على تاريخ المسلمين وأوضاعهم في أوروبا، وذلك من أجل أن نتمكَّن من الوقوف على إمكانية قيامهم بالدور المنوط بهم في التعريف بالإسلام وتصحيح الصورة الخاطئة عنه.

 

وفي الواقع ينقسم تاريخ الإسلام في أوروبا إلى ثلاث مراحل:

- الأولى بدأت مع  دخول المسلمين الأندلس؛ حيث ظلوا يحكمون هناك لمدة ثمانية قرون، تلك الفترة التي ازدهرت خلالها الحضارة الإسلامية بدرجةٍ كبيرةٍ أدَّت إلى الإسهام بفعالية في النهضة العلمية في أوروبا، وذلك بفعل تأثر علماء أوروبا بالعلوم التي تَقدَّم العرب فيها، كالطب والجبر والكيمياء، وقد استمر ذلك التأثير الإيجابي للحضارة الإسلامية على الغرب إلى أن رحل المسلمون عن أوروبا في عام 1492م، وإن ظلت الاستفاده قائمةً لفترة طويلة بعد ذلك.

 

- أما المرحلة الثانية فتتمثَّل في حكم الإمبراطورية العثمانية، التي استطاعت أن تصل إلى أسوار فيينَّا، ولقد استمروا لأكثر من خمسة قرون في حكم بعض دول أوروبا الشرقية ودول البلقان، وهو ما كان له أثره في تقدُّم أوروبا وازدهارها بعد ذلك.

 

- وأخيرًا تتمثل المرحلة الثالثة في الوجود الإسلامي الذي لم يأتِ من خلال جيوش ولم يخطِّط له أحدٌ، وإنما جاء كردِّ فعلٍ طبيعيٍّ لتقدُّم الغرب وازدهاره، في مقابل حاجة المسلمين للاستفادة من تلك الحضارة الناشئة سياسيًّا واقتصاديًّا واجتماعيًّا، وقد ظل المسلمون في أوروبا في تزايدٍ مستمرٍّ إلى الآن؛ حيث يصل عددهم هناك إلى ما يقرب من 17 مليون مسلم، يمثلون أكبر الأقليات الموجودة في أوروبا، بل وفي أحيان كثيرة يحتلون المرتبة الثانية في الديانات الموجودة في أوروبا.

 

وبنظرة سريعة على المسلمين الموجودين في أوروبا سنجد أنه يعيش في فرنسا وحدها حوالي 7 ملايين نسمة، وفي بريطانيا مليونا نسمة، وفي ألمانيا 4 ملايين نسمة، وهؤلاء المسلمون معظمهم جاؤوا بطلبٍ من دول أوروبا بعد نهاية الحرب العالمية الثانية؛ حيث احتاجت دول أوروبا إلى أيدٍ عاملة لإعادة إعمار بلادهم، فاستجلبت موظفين من الدول التي كانت تحت احتلالها (فرنسا أحضرت موظفين من دول المغرب العربي، بريطانيا من دول المشرق العربي وشبه القارة الهندية، أما ألمانيا فأحضرت موظفيها من تركيا).

 

والآن يقيم في الدول الأوروبية الجيل الثاني والثالث من المسلمين، وهؤلاء لا يعرفون بلدًا آخر غير البلد الأوروبي الذي يعيشون فيه، وأصبح المسلمون يعملون في عدة مجالات وتخصصات، أهمها الطب والهندسة.

 

وفي الحقيقة استطاع المسلمون في أوروبا أن يلعبوا دورًا كبيرًا في التواصل مع الغرب؛ مما جعل حكوماتِ تلك الدول توافق على نشْر المراكز الإسلامية في أنحاء مختلفة من البلاد، بل وتعطي لهؤلاء نفس الحقوق التي للمواطن الأصلي، إلا أنه وبعد أحداث 11 سبتمبر أصبحت صورة العربي المسلم في القاموس الأوروبي تعني (الإرهابي القاتل بدون ضمير وإحساس بالبشر)، ليس هذا فحسب، بل وأصبح إحساسُ وواقعُ المواطن الأوروبي أن القارَّة الأوروبية أصبحت هدفًا للإرهاب الإسلامي ذي الصبغة العربية تحديدًا، وذلك عبر الجرائم التي حدثت بالفعل، وصار صعبًا معها القول بأن الإسلام لا يُجيز هذه الأعمال، وأن مرتكبيها يُسيئون للإسلام؛ لأن هذه الأعمال يصاحبها تنظير فقهي ممن يقدمون أنفسهم على أنهم ناطقون باسم أكثر من مليار مسلم، بالرغم من خطأ ذلك الأمر وتعارضه الشديد مع صحيح الدين الإسلامي السمح.

 

أوضاع المسلمين في أوروبا

بالرغم من كفالة الدساتير الأوروبية للحريات الدينية إلا أن العلاقة القانونية بين الدولة والدين تختلف كثيرًا من دولة لأخرى، إلا أنه في العموم يُلاحَظ أن معظم دول الاتحاد الأوروبي ما زالت تفتقر إلى الإطار التشريعي الواضح فيما يخص بعض القضايا الرئيسية التي تؤثر على الممارسة الدينية والتماسك الاجتماعي، مثل: الاعتراف بالأئمة وتدريبهم، والإشراف والمراقبة على المناهج الدينية في المدارس، والاعتراف بالمنظمات الإسلامية المؤهلة للحصول على الدعم المالي من الدولة.

 

وعلى صعيد التمثيل الرسمي للمسلمين لدى الحكومات نلحظ أن الأمر يختلف باختلاف الدول، ويخضع أساسًا للعوامل العِرقية والثقافية والدينية للتجمعات الإسلامية المعنية؛ ففي النمسا وبلجيكا وأسبانيا يتم التمثيل من خلال الأطر الإسلامية الموحدة، بينما يخضع الأمر للتنافس بين المنظمات الإسلامية ودرجة نجاحها في التنسيق والتواصل مع الحكومات في عددٍ من بلدان الاتحاد الأوروبي الأخرى، والاستثناء الخاص هنا يتعلق بالأقلية المسلمة في اليونان التي تتمتع بتمثيل في الحكومة من خلال التعيين الرسمي للمفتي الديني، بحسب معاهدة لوزان لعام 1923م.

 

والواقع أن الأقليات المسلمة في أوروبا- وحسب ما تؤكد الدراسات المتعلقة بذلك الأمر- تواجه مشاكل ضخمة، سواءٌ كان ذلك في المستوى الاقتصادي أو الاجتماعي أو العقدي أو محو الهوية أو التصفية والمذابح، كما حدث في حالة البوسنة والهرسك وإقليم كوسوفا، كما يواجه المسلمون في أوروبا التمييزَ العنصريَّ البغيض؛ حيث تقول دراسة لأحد الباحثين إن المسلمين في أوروبا يواجهون عقبةً خطيرةً في تقدم مجتمعاتهم وتطورها، وهي عقبة التمييز العنصري؛ حيث توضح جميع الدلائل المتوفرة أن التمييز العنصري الواسع الانتشار يمثل عاملاً أساسيًّا يسهم في ارتفاع نسبة البطالة بين الأقليات العرقية، وفي نوعية الأعمال الضئيلة الدخل التي يمارسونها.

 

ففي بريطانيا هناك 43% من الباكستانيين والبنجلادشيين عاطلون عن العمل، بينما نجد في بعض مناطق لندن أن نسبة العاطلين عن العمل بين الأقليات العرقية- بمن فيهم المسلمون- هي نحو 60 إلى 70%، ونجد النموذج ذاته في مدينة برادفورد التي يعيش فيها عدد كبير من السكان المسلمين.

 

أما الذين يعملون فلديهم مهن ذات أجور ضئيلة ومرتبة اجتماعية أقل من العمال البريطانيين المنشأ، وقد بيَّنَت الأبحاث أن المسلمين يواجهون تمييزًا عنصريًّا حتى في الوظائف الإدارية وفي بعض المهن مثل الطب والتعليم.

 

وبالإضافة إلى ذلك يواجه المسلمون في أوروبا مشكلاتٍ أخرى تتعلق بضعف التصور الاعتقادي وضآلة الفقه في الدين، وعدم وجود مرجعية إسلامية يلجأ إليها المسلمون هناك في المُلمَّات والأزمات؛ حيث يلجأون إلى الاجتهادات الفردية التي ينقصها التدقيق العلمي والمعرفة بأصول الاستدلال وقواعد الاستنباط، وأخيرًا عدم وجود جماعات ضغط مسلمة في المجتمع الأوروبي تعبِّر عن همومهم وتدافع عن حقوقهم.

 

كما أن من أخطر ما يواجهه المسلمون في أوروبا ذلك الأمر المتعلق بنشأة الأطفال في الغرب على كُرهِ المسلمين؛ حيث تمتلئ المدارس الغربية بكتُب تزخر بالطعن على الآخرين، وتتهمهم بأسوأ الاتهامات، وتُنزل بهم من مصافّ البشر إلى درك الوحوش، وتزري عليهم وعلى عقيدتهم وعلى حياتهم الثقافية والاجتماعية، وتحطُّ من شأن مكانتهم في تاريخ الحضارة الإنسانية، وما يتم تلقينه للتلاميذ في مدارسهم من الكتب وشرح معلميهم يرسَّخ في أذهانهم ونفوسهم ويصاحبهم في مراحل حياتهم؛ مما أُشربوا من معلومات أملاها روح التعصب والاستعلاء العرقي والنظرة العنصرية البعيدة عن الحقيقة والنظرة الموضوعية في معرض الحديث عن الشعوب الأخرى؛ الأمر الذي يجعل من الصعوبة البدء في عملية تواصل بنَّاء بين المسلمين والمسيحيين في أوروبا.

 

نظرة أوروبا للإسلام

في الحقيقة هناك مجموعة من النقاط المهمة التي تحكم نظرة الأوروبيين للإسلام، وتلك النقاط تتمثل في:

 

* الناحية العقائدية:

حيث الهجوم الشديد على النظرة الإسلامية للصفات الإلهية؛ باعتبار أن الإسلام يركِّز على صفات الانتقام والعقاب، وعلى قدسية الوحي لدى المسلمين، إلى جانب وصفهم بالتعصُّب والعنف وقلة التسامح.

 

ويُرجع الغربيون تردِّيَ أوضاع المسلمين إلى العقيدة الجبرية ومفاهيم التوكل والقناعة ونقص حقوق الإنسان، بما فيها حقوق المرأة، بل وأصبحت الثقافة الإسلامية مرتبطةً لدى العامة بسمات القساوة والوحشية، وأن الإسلام لا يتمتع بصورة الديانة الإنسانية أو الديانة الحريصة على وجود البشرية، بل أصبح تراثًا صارمًا يُظهِر القليل من الرحمة والشفقة تجاه البشرية.

 

ويعتقد معظم الأوروبيين أن المهاجرين المسلمين لا يريدون الاحتفاظَ بثقافتهم ودينهم فحسب، بل يتطلَّعون أيضًا لنشر الإسلام في أوروبا، وإدخال المسيحيين في الإسلام.

 

وفي إطار هذه النظرة الأوروبية المشوّهة للإسلام أجرى معهد العلاقات الدولية الألماني استطلاعًا للرأي على عيِّنةٍ من الأوروبيين تمثِّل مختلف الشرائح الاجتماعية، وتمحور حول سؤال "ماذا تفكر عندما تسمع كلمة (إسلام)؟"، وأظهرت إجاباتهم أن الصورة التي يحملها أغلب الأوروبيين عن المجتمعات الإسلامية سلبيةٌ إلى حدٍّ كبير؛ حيث أجاب نحو ثلاثة أرباع مَن شملهم الاستطلاع أن الإسلام يعني بالنسبة لهم قمعُ المرأة والتطرفُ والإرهابُ!! ولم يقدم إلا نحو ربع المشاركين إجاباتٍ تعكس رؤيةً أفضل للإسلام، مثل المشاركة وكرم الضيافة والحض على مساعدة الآخرين وتحقيق إنجازات ثقافية.

 

ومن أهم نقاط الاختلاف هنا هي كيفية النظر إلى النصوص القرآنية، وكيف يمكن التعامل معها في ضوء العصر، وهنا برز أيضًا اختلاف وجهات النظر بين المسلمين، الذين رأوا بأنه لا غبارَ على قراءة النص القرآني بروح العصر القراءةَ العصريةَ، ولا تعني تغييرًا في ثوابت الدين، وهو ما فهمه الأوروبيون بأنها إمكانية "تحديث الدين".

 

* الناحية الحضارية:

حيث يتحدث المستشرقون عن الخواء الإسلامي، ويعتبر التراث الإسلامي حصيلةً للتراث اليوناني والمسيحي واليهودي، وحتى العلوم الإسلامية جعلوها مستمدةً من الرومان والساسانيين، وغاية ما فعله المسلمون هو نقل التراث اليوناني إلى الغرب.

 

* الناحية السياسية:

وفي هذه الناحية نجد التُّهم تتوالى ضد المسلمين؛ باعتبار أن الإسلام بؤرة الإرهاب والتعصب، والصحوة الإسلامية تعدُّ الأرضية المساعدة للإرهاب، وخاصةً بعد أحداث 11 سبتمبر 2001، وأن الدين الإسلامي يمثِّل التحدي للثقافة الغربية بعد انهيار العقيدة الشيوعية، متأثِّرةً بفكرة صاموئيل هنتنجتون عن "صراع الحضارات"، والتي ركَّز فيها على الصدام الحضاري مع العالم الإسلامي، لحيويته الديموجرافية، وأن التقاليد الثقافية والفكرية للتراث اليهودي المسيحي تمثِّل التقدم والتنوير والعقلانية، بينما يمثل العالم الإسلامي الشرّ والظلمات واللا عقلانية والتعصُّب وحبّ الاستشهاد، فالإسلام- حسب هنتنجتون- يقسم العالم إلى قسمَين لا علاقة بينهما إلا علاقة الحرب والصراع، وكل من هو خارج أقاليم الإسلام يشكل كتلةً واحدةً ينبغي محاربتها.

 

نظرة الإسلام لأوروبا

وإزاء هذه النظرة الأوروبية الظالمة للإسلام فإن نظرة الإسلام والمسلمين لأوروبا تتمحور حول النواحي التالية:

 

- الناحية العقائدية:

يتصور المسلمون أن الغربيين بصفة عامة والأوروبيين على وجه الخصوص بعيدون عن الاعتقاد بعالم الغيب، وحتى الإيمان بالمسيحية كدين فردي جعل الفرد ومصالحه بدلاً من الإله وصفاته.

 

إلى جانب أن المسلمين ينظرون لهم على أنهم أناس يتصفون بالأنانية وانعدام الأخلاق والطمع، بالإضافة إلى العنف والتعصب أيضًا، والشعوب الإسلامية ترى أنها مضطهدةٌ من قِبل الغرب، وتَعتبر أن السياسات الغربية هي المسئولة عن تدهور أوضاعها الاقتصادية، ويُلقي معظمُ المسلمين باللوم على ازدراء الشعوب الأوروبية للدين الإسلامي، بينما يعتقد الأوروبيون أن تعصب المسلمين وعدم تقبلهم للاختلاف في وجهات النظر هو الذي ينبغي أن يٌلقى عليه باللوم.

 

- الناحية الحضارية:

يرى المسلمون أن الحداثة الغربية تشكِّل الإطار الذي يدور داخله الإنسان الغربي، وهي تقدم رؤيةً ماديةً ترى العالم باعتباره مادةً، وقد عرَّفت هذه الرؤية الهدف من وجود الإنسان في الكون بأنه تعظيمُ المنفعة واللَّذة، وعرَّفت التقدم بأنه تصاعد معدلات الإنتاج والاستهلاك؛
مما ولَّد شراهةً استهلاكيةً عند الإنسان الغربي ليس لها نظير في التاريخ، وهذه الحداثة المادية لا تعني مجرد استخدام العقل والعلم والتكنولوجيا، بل هي استخدام العقل والعلم والتكنولوجيا المنفصلة عن القيمة.

 

ورغم التقدم المادي لأوروبا إلا أنها تستغلُّ إمكاناتها للقضاء على كل صفة إنسانية، والاستيلاء على المكاسب الحضارية للآخرين، وفرض الهيمنة على كل الثقافات عبر تفوقها في مختلف المجالات، ولا أدلَّ على ذلك من استغلال التصور الأوروبي عن حقوق الإنسان لفرضها على كل شئون بلدان العالم الإسلامي، ومنها شئون العلاقة العائلية، بل وحتى العمل على تغيير تعريفها، وهي تعني- في تصور المسلمين تفتيت البناء العائلي- ولما كانت العائلة أساسًا للبناء الاجتماعي، فان ذلك يؤدي لتفتيت كل العلاقات الاجتماعية.

 

وفي سياق استنباط نظرة المسلمين لأوروبا، أجرى مركز الدراسات الإستراتيجية في جامعة عمان بالأردن- بالتعاون مع مؤسسة فريدريش إيبرت الألمانية- دراسةً حول نظرة مجموعة من المسلمين العرب لأوروبا، فقد رأى أغلب مَن شملتهم الدراسة أن أوروبا تعني بالنسبة لهم الانهيار الأخلاقي والإباحية الجنسية والعنصرية.

 

- الناحية السياسية:

حيث يتذكر المسلمون الويلات والمرارة الني ذاقوها على يد الاستعمار، وأن السياسات الغربية المناهضة للإسلام ما زالت مستمرةً رغم الادعاءات الكثيرة بالصداقة والتعاون، وقد تأثر المسلمون بهذا الفصل الجديد من المواجهة العسكرية الذي قلَبَ ميزان القوى لتنتهي أغلب المواجهات بهزيمة بلاد الإسلام.. بدأ ذلك مع صعود القوى الأوروبية الاستعمارية بدايةً من البرتغاليين والأسبان والهولنديين، ثم بأكثر حدَّةً مع الفرنسيين والإنجليز إلى حدود أواسط الخمسينيات في فترة الاستعمار المباشر، ثم جاءت تجربة الاستقلال التي أعقبت هذه المرحلة لتعمِّق الإحساس بمرارة الهزيمة لدى المسلمين.

 

أضف إلى ذلك قيام الجانب الأوروبي بتكريس سياسة الكيل بمكيالين تجاه قضايا العالم الإسلامي، وخاصةً الصراع العربي (الإسرائيلي) والانحياز الواضح للجانب الصهيوني على حساب الحقوق المشروعة للجانب الفلسطيني، ويرى معظم المسلمين أنهم يتعرضون لهجمات شرسة من الدول الأوروبية للقضاء على هويتهم الحضارية وتشويه صورة دينهم ورسولهم الكريم، سواء داخليًّا بنشر دعوات التطرف والإرهاب أو خارجيًّا بالهجوم المنظم على الإسلام والمسلمين والعرب وإلصاق تهم الإرهاب والتطرف والتخلف بهم.

 

الدور السلبي للإعلام

والحقيقة أن وسائل الإعلام الغربية كان لها دورٌ سلبيٌّ للغاية في تعميق الخلاف بين الإسلام والغرب، من خلال تلك الصورة السلبية التي رسمتها عن الإسلام والمسلمين في العالم؛ لتخلق بذلك حالة الخوف من الإسلام لدى الأوروبيين أو ما يُطلق عليه مفهوم "الإسلام فوبيا"، وخاصةً بعد أحداث 11 سبتمبر 2001، وإعلان شعار الحرب على الإرهاب، فقد أثبتت دراسةٌ مسيحيةٌ قام بها قسم الإعلام في جامعة إيرفورت الألمانية أن البرامج السياسية التي بثَّتها القناتان التليفزيونيتان الحكوميتان الأولى والثانية على مدى عام ونصف ما بين يونيو 2005، وديسمبر 2006 قد أسهمت بصورة واضحة في زيادة الخوف من الإسلام.

 

وقد اعتمدت الدراسة على تحليل صورة الإسلام والمسلمين في 133 مادة إعلامية سياسية بثَّتها هاتان الشبكتان، فتبيَّن أن الإسلام قُدِّم في 80% من البرامج كأيدلوجية سياسية ذات منظومة قيمية مخالفة للأنماط السلوكية السائدة في المجتمع الألماني، وتمَّ تصويره كخطرٍ سياسي ومجتمعي، كما رُبِط بقضايا العنف والنزاعات كالإرهاب واضطهاد المرأة ومشاكل الاندماج والتعصب الديني وقتل النساء؛ بدعوى الدفاع عن الشرف، في الوقت الذي قلَّت فيه التغطية الإعلامية حول تنامي النزاعات العنيفة والمتطرفة في أديان أخرى، كما لم تتعدَّ التقارير المحايدة أو الإيجابية المعروضة في هذه القنوات حول الإسلام والمسلمين عن 19%.

 

وتركز معظم وسائل الإعلام الأوروبية في تناولها للقضايا الإسلامية والمسلمين على ثلاثة محاور رئيسية، هي:

* النظر إلى المسلم على أنه معادٍ للغرب.

* إظهار القيم الإسلامية المعادية لقيم الحضارات الغربية.

* إظهار القيم الإسلامية التي تشجع الرجعية والإرهاب.

 

ويؤكد الكاتب الفلسطيني إدوارد سعيد في كتابة (تغطية الإسلام) أن وسائل الإعلام الغربية كانت تبثُّ رسالةً، مفادُها: "أن الإسلام لا ينتمي إلى أوروبا، ولا إلى المجموعة الصناعية، وأنه يمثِّل على الدوام إزعاجًا لها".

 

وجاءت أحداث 11 سبتمبر 2001 لتعطي الفرصةَ للإعلام الأوروبي بأن يكرِّس حالةَ الخوف من الإسلام؛ ليتحكَّم في رسم صورة الإسلام وأوضاع مسلمي أوروبا في أذهان الكثيرين؛ حيث ركَّزت على أن الإسلام والمسلمين في أوروبا يعيشون في أزمةٍ خانقةٍ، ووصفت عام 2001 بأنه عام الخوف، وشحنت هذه الصورة بحوادث الاعتداءات العنصرية التي تعرض لها المسلمون هناك.

 

وفي بريطانيا مارس الإعلام دورًا ضاغطًا على المسلمين؛ فعقب أحداث سبتمبر أذاعت محطة (BBC) برنامجًا عن الإسلام، طرح في بدايته أسئلةً، منها: هل الإسلام عقيدة الشيطان؟! هل العنف جزء من مبادئ الإسلام؟! هل الإسلام يحرِّض أتباعه على قتل مخالفيهم في العقيدة؟! هل الجهاد في الإسلام معناه قتل الناس؟!

 

وانخفضت أصوات البريطانيين الذين يتحدثون عن التعددية الثقافية؛ باعتبارها إنجازًا بريطانيًّا، وبدأ الحديث عن الموازنة بين هذه التعددية ومسئولياتها، وتعرَّض المسلمون في ألمانيا لمضايقات، ومُنِعت بعض المؤسسات الخيرية الإسلامية من العمل، وتعرَّضت أخرى لحملات من التفتيش، وهذا بفعل وسائل الإعلام.. هذا ولم تقف وسائل الإعلام الأوروبية عن تقديم المسلمين بهذه الصورة السيِّئة كمتطرفين أو إرهابيين، بل ذهبت إلى الاستهزاء والسخرية من الرسول الكريم؛ حيث نشرت صحيفة يولاندس بوستن الدانماركية في سبتمبر 2005 اثنتي عشرة صورةً كاريكاتيرية للرسول، تُظهر إحداها عمامَتَه على أنها قنبلة بفتيل، وبعدها أعادت الصحف الألمانية والفرنسية والنرويجية نشرها مرةً أخرى، لتكرِّس من سوداوية النظرة إلى الإسلام، وتؤذي مشاعر المسلمين لتزيد الفجوة بين الجانبين.

 

دور المنظمات الإسلامية

تلعب المنظمات الإسلامية في أوروبا دورًا كبيرًا في التفاعل المباشر مع الحياة السياسية والاجتماعية في المجتمع، وبالرغم من عدم وجود المنظومة الهيكلية الهرمية في الإسلام، بالإضافة إلى التنوع والاختلاف في المذاهب والثقافات والأجناس بين مسلمي أوروبا- مما جعل من الصعب تكوين منظمات تمثيلية على الصعيد القومي قادرة على التحدث باسم كل المسلمين- إلا أن ثمةَ إشاراتٍ تدل على تغيير هذا الوضع، من خلال ابتعاد الشباب المسلم عن التمايز على أسس عرقية أو قطرية في البلدان التي وُلد فيها آباؤهم؛ حيث صار الكثيرون منهم يَعتبرون أنفسهم مسلمين وحسب، دون الاكتراث بأي شيء آخر، وهو ما يفسِّر زيادة التفاعل بين المجموعات العرقية والقطرية المسلمة، وهذا التأثير سيقوِّض من دور منظمات المسلمين القائمة حاليًا ويدفع باتجاه تأسيس منظمات جديدة.

 

وحاليًا يمكن تصنيف المنظمات المتعددة للمسلمين في أوروبا على أساس الحجم والانتشار الجغرافي إلى قسمين:

 

- منظمات صغيرة محلية تهتم أساسًا بإقامة الأنشطة الدينية والاجتماعية، وتعتمد على العضوية على أساس المذهب الواحد.

 

- ومنظمات تعمل على الصعيد الوطني، وتضمُّ في عضويتها مختلف المذاهب والأطياف ولها تركيبٌ تنظيميٌّ رسميٌّ، وتقوم في بعض الأحايين بإجراء اتصالات رسمية مع السلطات، وفي بعض الحالات توجد اتصالاتٌ بين هذه المنظمات على المستوى المحلي أو القومي مع المنظمات الإقليمية والدولية.

 

والحقيقة أن اتحاد المنظمات الإسلامية في أوروبا يعمل بجدٍّ على التواصل مع الغرب، من خلال تأكيده المستمر على أهمية (التعارف، التآلف، التواصل) على أساس أن هذه الأشياء هي الأساس في العلاقات بين البشر وليس الكُره والحرب، وبناءً على ذلك أصدر المجلس الأوروبي للإفتاء والبحوث فتوى بخصوص هذا الموضوع، قال فيها: إن "العلاقة بين البشر مبنيةٌ على أساس التآلف"، وقد بُنيت هذه الفتوى على الآية الكريمة ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ﴾ (الحجرات: 13).

 

ولم يكتف الاتحاد بذلك، بل قام كذلك بتحديد الالتزامات التي يفترض على المسلمين في أوروبا القيام بها؛ والتي تتمثل في:

 

1- الحفاظ على الوجود الإسلامي في أوروبا، وتمكينه من التعريف بالإسلام.

2- الإسهام الفعَّال في مختلف مجالات الحياة في المجتمعات الأوروبية كالحياة الاجتماعية والثقافية والسياسية.. إلخ.

3- أن يكونوا بمثابة جسر يصل بين الشرق الذي ينتمون إليه بأغلبيتهم والغرب الذي يعيشون ويعملون فيه، وبهذه الطريقة يتحوَّل العَداء بين الشرق والغرب إلى تواصل وتفاعل، وهذا هو هدف الإسلام الأساسي.

4- معرفة القيم المشتركة بين الدين الإسلامي والديانات الأخرى، وأن يعملوا على تنمية التعاون بينهم وبين الآخرين على أساس هذه القيم المشتركة، والتي تتمثَّل في أربع قيم أساسية، هي:

 

1) قيمة العدل: وهي قيمه رسَّخها الإسلام؛ حيث أكد الإسلام على ضرورة أن يتم الحكم بين الناس بالعدل حتى لو كان أحدُ الطرفين غيرَ مسلم، ولا نعمل بالمثل القائل: "انصر أخاك ظالمًا أو مظلومًا"، العدل هو الشيء الأساسي الذي يُبنى عليه الكون.

 

2) قيمة الحرية: وأهم ما في هذه القيمة أن الله أتاح للناس حرية الاعتقاد، والدليل على ذلك ﴿لاَ إِكْرَاهَ فِيْ الدِّيْنِ﴾، وأننا لا نستطيع إجبار الناس على اتِّباع الإسلام.

 

3) قيمة الأمانة: وهي من قيم الإسلام المهمة، وقد اتصف بها الرسول- صلى الله عليه وسلم- حيث كان يلقَّب بالصادق الأمين.

 

4) قيمة الحفاظ على العهود والوفاء بالوعد: فالإسلام يدعو للحفاظ على العهد إن كان مع مسلم أو غير مسلم.

 

وفي هذا الصدد يؤكد الخبراء أنه إذا ما استطاع المسلمون الحفاظ على هذه القيم فسوف يستطيعون الإسهام بفعالية والاندماج في حياة المجتمع الأوروبي.

 

والحقيقة أن اتحاد المنظمات الإسلامية يقوم بدور كبير في هذا الشأن؛ حيث يقوم على سبيل المثال بإرسال حوالي ستة آلاف بطاقة تهنئة في المناسبات المختلفة إلى العديد من المسئولين الأوروبيين.

 

كما يقوم الاتحاد أيضًا بالتحاور مرتَين في السنة في الفاتيكان مع المجالس العليا لكنائس الفاتيكان والشرق الأوسط؛ حيث يتم التحاور في مختلف المواضيع المشتركة كمحاربة المخدرات والحفاظ على البيئة.

 

طرق التفاعل

يرى البعض أن السبيل الوحيد أمام الأقلية المسلمة للنهوض بأوضاعها وبناء مكانة تليق بها هو الإصرار على البقاء في ساحة المنافسة، والإيمان بأن "التجارة خيرٌ من الإجارة" كما يؤكد الحديث الشريف؛ فالمسلمون الفقراء عاجزون عن تبليغ أي رسالة من أي نوع، وليس من خيارٍ لاكتساب الغنى إلا الانخراط في العملية الاقتصادية والتجارية، والبحث ربما في طرق مبتكرة وتعاونية لتنمية رأس المال الضروري لضمان القدرة على المنافسة.

 

أضف إلى ذلك ضرورة قيام الدول الأوروبية والأقلية المسلمة- على حدٍّ سواء- بكسر الهُوَّة بينهما، وذلك بتحقيق الازدواج الإيجابي للأقلية المسلمة هناك، والذي يجعل أبناء الأقلية عناصرَ بناءٍ في المجتمع الأوروبي لا عناصرَ هدمٍ، مع احتفاظهم بشخصيتهم وهويتهم الإسلامية، وأن لا تتعامل الدول الأوروبية بعقلية الصراع والعراك مع الأقلية المسلمة.

 

وهذا لا يتأتَّى إلا من خلال عمل مدروس ومنظَّم ومخطَّط وفق خطة زمنية تُسهم في رفع مستوى الأقلية المسلمة في أوروبا سياسيًّا واقتصاديًّا واجتماعيًّا ودينيًّا، من خلال وجود مؤسسات متخصصة قادرة على استيعاب مشكلات هذه الأقليات، ومن خلال إلحاق أبناء هذه الأقليات بالجامعات والمعاهد المتخصصة في أوروبا؛ أسوةً بأقرانهم في تلك البلاد؛ حيث إن التعليم والتدريب هو السبيل الأمثل إلى فرص العمل الجيدة، وبالتالي تحسين وضع الأقلية وجعْلها عنصرًا فاعلاً في المجتمع لا عنصرًا هامشيًّا أو ثانويًّا.

 

وتأكيدًا على ذلك الأمر وجَّه اتحاد "هلسنكي" العالمي عددًا كبيرًا من الوصايا إلى الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي؛ وذلك من أجل جعل الجاليات المسلمة جزءًا مندمجًا في المجتمع الأوروبي وحمايتهم من كل أنواع التمييز.

 

وفي هذا الصدد طالب الاتحاد بضرورة ضمان حرية ممارسة العبادات، وأن يكون تطبيق القوانين الخاصة بالهجرة ومحاربة الإرهاب متماشيةً مع الاتفاقيات الدولية لحماية حقوق الإنسان، كما أوصي التقرير أيضًا أن تكفَّ الدول عن التمييز ضد المسلمين، وأن تدعو بانتظام إلى التسامح والحوار، سواءٌ كان في تعامل المواطنين أو الهيئات أو الإعلام مع المسلمين.

 

وعلى صعيد متصل يرى بعض الخبراء أنه من أجلِ إثراء الحوار ما بين المسلمين والمسيحيين في أوروبا لا بدَّ من تحقيق عدة أمور في مقدمتها التأكيد على أهمية الحوار العملي وتقليل الحوار الأكاديمي؛ إذ ينبغي ألا يُفهَم الحوارُ على أنه فقط نقاشٌ بين رجال الدين- الذين هم بالفعل على علم تام بالفروق بين الديانتين- ولكن كنقاشٍ بين العامة الذين لديهم استعداد لتحمل المسئولية في المجتمع، بالإضافة إلى عدم التعالي على الآخر أثناء الحوار، وأن يتم الحوار في المستقبل بين المتحاورين مباشرةً وليس عن طريق وسائل الإعلام، وتوضيح حدود للحوار على أساس أن أحدًا لن يستطيع أن يفهم الآخر أكثر مما يفهم هو نفسه.

 

ويضيف الخبراء في هذا الصدد أنه إذا ما لقِيَت هذه النقاط اهتمامًا أثناء المناقشات والحوارات في الأماكن المهمة والمنتديات مثل الكنائس والمساجد وفي الشوارع والحرم الجامعي وأكاديميات العالم فقد يتضح للجميع أن الحوار عمليةٌ من أجل السلام وليس نشاطًا لهدر الأوقات والجهود.

 

نخلص من ذلك إلى أن نقاط الاتفاق والاختلاف بين الإسلام والغرب وبين الغرب والإسلام تكاد تكون واحدة، وهذا يعني أن هناك سوءَ فهمٍ مشتركًا بين الجانبين، لعبت فيه وسائل الإعلام دورًا كبيرًا، الأمر الذي يعني أن تصحيح تلك الصورة الخاطئة- بالإضافة إلى التواصل بين الجانبين- ليس بالأمر الصعب، بل على العكس الأمر أبسط بكثير مما نتخيل؛ حيث لا يتطلَّب الأمر من الجانبَين سوى بدء حوار فعَّال تشارك فيه النُّخب والجماهير من الجانبين؛ من أجل مدّ جسور التواصل والوقوف على القيم المشتركة التي تجمع بيننا وبينهم؛ لما في ذلك من دور حيوي وفعَّال في تقوية أواصر العلاقات بين الجانبين، وبالتالي توفير الأمن والأمان والسلامة والاستقرار للجميع.

-------------

** رئيس الكتلة البرلمانية للإخوان المسلمين.

* نص محاضرة ألقاها الكتاتني في النمسا.