إن رسالة الإنسان على ظهر هذه الأرض إجمالاً إنما هي العبودية لله عز وجل، أما تفصيلاًً فهي:

1- عمارة الأرض وفق منهاج الله، كلٌّ حسب طاقاته وإمكاناته، قال تعالى: ﴿هُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ فِي الأَرْضِ فَمَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَلا يَزِيدُ الْكَافِرِينَ كُفْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِلاَّ مَقْتًا وَلا يَزِيدُ الْكَافِرِينَ كُفْرُهُمْ إِلاَّ خَسَارًا (39)﴾ (فاطر).

 

2- دعوة الكسالى والغافلين والنائمين كي يقوموا بواجبهم في عمارة هذه الأرض، ولكن بالحكمة والموعظة الحسنة، قال تعالى: ﴿ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (125)﴾ (النحل).

 

3- التكاتف والتعاون لحماية هذه العمارة من أن يتطاول عليها المتطاولون أو يعبث بها العابثون، قال تعالى: ﴿فَلا تُطِعْ الْكَافِرِينَ وَجَاهِدْهُمْ بِهِ جِهَادًا كَبِيرًا (52)﴾ (الفرقان)، وقال عز وجل: ﴿وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ فَإِنْ انتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (39)﴾ (الأنفال).

 

وإن الله- رحمةً منه وفضلاً- قد نبَّه الإنسان إلى أن قيامه بهذه الرسالة على النحو الذي ذكرنا يضمن له الرقيَّ والتقدم، والرفعة وعلوّ المنزلة، والمكانة والتمكين في الأرض، وأنه جعل ذلك عامًّا في الناس جميعًا، فقال سبحانه: ﴿وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمْ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْفَاسِقُونَ (55)﴾ (النور).

 

كما نبَّه إلى أن الإنسان حين ينكص على عقبه ولا يؤدي هذه الرسالة وفق منهاج الله أو يؤديها ولكن وفق منهجه هو لا منهج الله، فإن عاقبته الخسران والبوار في الدنيا والآخرة، قال تعالى: ﴿وَمَنْ يُعْرِضْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِ يَسْلُكْهُ عَذَابًا صَعَدًا (17)﴾ (الجن)، وقال تعالى: ﴿وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى (124) قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنتُ بَصِيرًا (125) قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنسَى (126) وَكَذَلِكَ نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ وَلَمْ يُؤْمِنْ بِآيَاتِ رَبِّهِ وَلَعَذَابُ الآخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقَى (127)﴾ (طه).

 

أجَل.. إن عاقبته إلى خسران، وبوار، والسبب المعصية المتمثلة في:

1- إنكار الله أو الاعتراف به مع إشراك غيره معه، قال تعالى:﴿وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنْ الْخَاسِرِينَ (65)﴾ (الزمر).

 

2- إنكار الملائكة ووصفهم بما لا يليق وعبادتهم من دون الله، قال تعالى: ﴿وَجَعَلُوا الْمَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ إِنَاثًا أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ سَتُكْتَبُ شَهَادَتُهُمْ وَيُسْأَلُونَ (19)﴾ (الزخرف)، وقال تعالى: ﴿وَقَالُوا لَوْ شَاءَ الرَّحْمَنُ مَا عَبَدْنَاهُمْ مَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَ (20)﴾ (الزخرف).

 

3- إنكار الكتب وتكذيب الرسل، قال تعالى: ﴿وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قَالُوا مَا أَنزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ قُلْ مَنْ أَنزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى نُورًا وَهُدًى لِلنَّاسِ تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيرًا وَعُلِّمْتُمْ مَا لَمْ تَعْلَمُوا أَنْتُمْ وَلا آبَاؤُكُمْ قُلْ اللَّهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ (91)﴾ (الأنعام)، وقال: ﴿ثُمَّ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا تَتْرَى كُلَّ مَا جَاءَ أُمَّةً رَسُولُهَا كَذَّبُوهُ فَأَتْبَعْنَا بَعْضَهُمْ بَعْضًا وَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ فَبُعْدًا لِقَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ (44)﴾ (المؤمنون).

 

4- إنكار البعث واليوم الآخر وما فيه من ثواب وعقاب، وراحة وتعب، وسعادة وشقاء، قائلين: ﴿وَقَالُوا مَا هِيَ إِلاَّ حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلاَّ الدَّهْرُ وَمَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلاَّ يَظُنُّونَ (24)﴾ (الجاثية).

 

5- إتيان الكبائر.. من أكل الميتة، والزنا، والخمر، وتعاطي الحرام من الربا، والسرقة، والغصب، والرشوة، والبيوع الفاسدة، وسفك الدماء، وقتل الأولاد، وقطيعة الرحم، وسوء الجوار، والسحر، وقذف المحصنات الغافلات المؤمنات، وعقوق الوالدين، وشهادة الزور.. إلى غير ذلك من الكبائر.

 

6- الإصرار على الصغائر؛ بحيث تنقلب إلى كبائر، كالنظرة المحرمة، والملامسة، والغيبة، والوقوع في المتشابهات.

 

7- وضع تشريعات لمضاهاة شرع الله ومحاربته، قال تعالى: ﴿قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَرَامًا وَحَلالاً قُلْ أَاللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ (59)﴾ (يونس).

 

8- ملاحقة الصالحين والداعين إلى الله، وإيذاؤهم بكلِّ الأساليب، والوسائل.. قال تعالى: ﴿وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْبُرُوجِ (1) وَالْيَوْمِ الْمَوْعُودِ (2) وَشَاهِدٍ وَمَشْهُودٍ (3) قُتِلَ أَصْحَابُ الأُخْدُودِ (4) النَّارِ ذَاتِ الْوَقُودِ (5) إِذْ هُمْ عَلَيْهَا قُعُودٌ (6) وَهُمْ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ (7) وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلاَّ أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ (8) الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (9)﴾ (البروج).

 

وقال تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنْ النَّاسِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (21) أُوْلَئِكَ الَّذِينَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ (22)﴾ (آل عمران).

 

9- نشر الشرِّ والفساد بكل الأساليب والوسائل.. قال تعالى: ﴿وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ (204) وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْفَسَادَ (205) وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالإِثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ (206)﴾ (البقرة).

 

10- حماية الأشرار والمفسدين، ليستمروا في فسادهم وباطلهم، قال تعالى: ﴿أَلَمْ تَر إِلَى الَّذِينَ نَافَقُوا يَقُولُونَ لإِخْوَانِهِمْ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَدًا أَبَدًا وَإِنْ قُوتِلْتُمْ لَنَنْصُرَنَّكُمْ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (11)﴾ (الحشر)، كأنَّ المعصية هي السوس الذي ينخر في عقل الحضارات وقلبها وجسدها، حتى تتحطَّم وتزول، وتصبح عظةً وعبرةً للمتعظين والمعتبرين.

 

هؤلاء قومُ نوح، كانوا ملء السمع والبصر، ولما عصَوا الله وكذبوا رسوله وتحدَّوه قائلين: ﴿فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنتَ مِنْ الصَّادِقِينَ (32)﴾ (هود) كان الردّ الإلهي: ﴿وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلاَّ خَمْسِينَ عَامًا فَأَخَذَهُمْ الطُّوفَانُ وَهُمْ ظَالِمُونَ (14) فَأَنجَيْنَاهُ وَأَصْحَابَ السَّفِينَةِ وَجَعَلْنَاهَا آيَةً لِلْعَالَمِينَ (15)﴾ (العنكبوت).

 

وهؤلاء قوم إبراهيم كانوا ملء السمع والبصر، ولما عصوا الله ورسوله وتآمروا عليه لقتله قائلين: ﴿قَالُوا حَرِّقُوهُ وَانصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِنْ كُنتُمْ فَاعِلِينَ (68)﴾ (الأنبياء) حوَّل الله هذه النار بردًا وسلامًا، فنجا، وخسروا وذلوا.. قال تعالى: ﴿قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ (69) وَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمْ الأَخْسَرِينَ (70)﴾ (الأنبياء)، وقال تعالى: ﴿فَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمْ الأَسْفَلِينَ (98)﴾ (الصافات).

 

وهؤلاء عاد، قوم هود، كانوا ملء السمع والبصر، واستخلفهم الله من بعد قوم نوح، وذكَّرهم نبيُّهم هود ببعض نِعَم الله عليهم، قائلاً: ﴿أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ جَاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَلَى رَجُلٍ مِنْكُمْ لِيُنذِرَكُمْ وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ وَزَادَكُمْ فِي الْخَلْقِ بَسْطَةً فَاذْكُرُوا آلاءَ اللَّهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (69)﴾ (الأعراف)، ولكنهم عصَوا الله وكذبوا رسوله، وأتوا من السيئات ما لا يعلمه إلا الله، فكانت العاقبة ﴿وَأَمَّا عَادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ (6) سَخَّرَهَا عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُومًا فَتَرَى الْقَوْمَ فِيهَا صَرْعَى كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ (7) فَهَلْ تَرَى لَهُمْ مِنْ بَاقِيَةٍ (8)﴾ (الحاقة).

 

وهؤلاء ثمود، قوم صالح، كانوا ملء السمع والبصر، واستخلفهم الله من بعد عاد قوم هود، وذكَّرهم نبيهم ببعض نعم الله عليهم قائلاً: ﴿وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ عَادٍ وَبَوَّأَكُمْ فِي الأَرْضِ تَتَّخِذُونَ مِنْ سُهُولِهَا قُصُورًا وَتَنْحِتُونَ الْجِبَالَ بُيُوتًا فَاذْكُرُوا آلاءَ اللَّهِ وَلا تَعْثَوْا فِي الأَرْضِ مُفْسِدِينَ (74)﴾ (الأعراف)، ولكنهم عصوا الله ورسوله ﴿فَعَقَرُوا النَّاقَةَ وَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ وَقَالُوا يَا صَالِحُ ائْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنتَ مِنْ الْمُرْسَلِينَ (77) فَأَخَذَتْهُمْ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ (78) فَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالَةَ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ وَلَكِنْ لا تُحِبُّونَ النَّاصِحِينَ (79)﴾ (الأعراف).

 

قوم لوط، كانوا ملء السمع والبصر، ولكنهم عصوا الله وكذبوا رسوله، وأتوا الفاحشة ما سبقهم بها من أحد من العالمين ونصحهم نبيُّهم، وخوَّفهم العواقب، ولكنهم تمادَوا قائلين: ﴿أَخْرِجُوا آلَ لُوطٍ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ (56)﴾ (النمل)، فكانت العاقبة نجاة لوط ومن معه من المؤمنين، وهلاك قومه بمن فيهم امرأته، قال تعالى: ﴿فَأَنجَيْنَاهُ وَأَهْلَهُ إِلاَّ امْرَأَتَهُ قَدَّرْنَاهَا مِنْ الْغَابِرِينَ (57) وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ مَطَرًا فَسَاءَ مَطَرُ الْمُنذَرِينَ (58)﴾ (النمل).

 

وهؤلاء أهل مدين، وأصحاب الأيكة، كانوا ملء السمع والبصر، ولكنهم عصوا الله ورسوله، وتمادَوا في التعامل بالربا، وتطفيف الكيل والميزان، ونشر الشر والفساد في الأرض، والصد عن سبيل الله، والقعود في طريق الطيبين والأخيار، وحذَّرهم شعيب بأدب وحكمة، ولكنهم لم يرتدعوا ولم يقتنعوا، بل تحدَّوا قائلين: ﴿فَأَسْقِطْ عَلَيْنَا كِسَفًا مِنْ السَّمَاءِ إِنْ كُنْتَ مِنْ الصَّادِقِينَ (187) قَالَ رَبِّي أَعْلَمُ بِمَا تَعْمَلُونَ (188) فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمْ عَذَابُ يَوْمِ الظُّلَّةِ إِنَّهُ كَانَ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (189)﴾ (الشعراء).

 

وها هي دولة الفرس المجوسية كانت تحكم نصف العالم ولكنها لم تعرف لله نعمته، وعبَدَت النارَ من دون الله، وأتت من الموبقات إلى حدِّ الزواج بالمحارم من البنات والأخوات، وأرسل إليها محمدًا، فكذبته وحاربته، وكانت العاقبة الزوال وصيرورتها في أيدي المسلمين.

 

وها هي دولة الروم كانت تحكم نصف العالم الثاني، ولكنها أشركت مع الله غيره، وأتت من الموبقات ما لم يعلمه إلا الله، وأرسل إليها محمدًا، ولكنها كذبته وحاربته، وقد سقطت ودالت إلى المسلمين في أكثر ممالكها.

 

وها هو فرعون وملؤه كانت لهم جنات وعيون وكنوز ومقام كريم، ولكنه لما استكبر على الله قائلاً للناس: ﴿أَنَا رَبُّكُمْ الأَعْلَى (24)﴾ (النازعات) ﴿فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ (54)﴾ (الزخرف) كانت العاقبة أن ﴿فَأَخَذَهُ اللَّهُ نَكَالَ الآخِرَةِ وَالأُولَى (25)﴾ (النازعات) وأغرقه الله ومن معه أجمعين، وصار ﴿سَلَفًا وَمَثَلاً لِلآخِرِينَ (56)﴾ (الزخرف).

 

وها هم بنو إسرائيل كانوا أفضل العالمين في زمانهم وأكثرهم أنبياءً وملوكًا، ولكنهم حادوا عن الطريق، فجعلوا مع الله غيره، وكذبوا فريقًا من أنبيائهم، وقتَلوا مَن قدَروا على قتله، وابتدعوا في دين الله ما لم ينزل به سلطانًا، فسلبهم الله ما أعطاهم، وقضى عليهم بالذلة والمسكنة، والغضب إلى يوم الدين، جزاءً وفاقًا، قائلاً: ﴿ضُرِبَتْ عَلَيْهِمْ الذِّلَّةُ أَيْنَ مَا ثُقِفُوا إِلاَّ بِحَبْلٍ مِنْ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِنْ النَّاسِ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنْ اللَّهِ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمْ الْمَسْكَنَةُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ الأَنبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ (112)﴾ (آل عمران).

 

وها هي بريطانيا كانت منذ القرن السادس عشر أميرة البحار، وصاحبة التاج، والإمبراطورية التي لا تغيب عنها الشمس، ولكنها لم تنتفع بمنهج الله، بل حرَّفته وبدَّلته، وأشركت مع الله غيره، وأتت من الموبقات ما لا يعلمه إلا الله، وسعت مع غيرها من دول الغرب إلى إسقاط الحضارة الإسلامية، وسعت لنشر الشرك والفساد في العالم بكل ما لديها من أساليب ووسائل.. أين هي الآن؟! إنها ذيل أمريكا ومتسولها، ودليلها إلى الخراب.

 

أما الأمة المسلمة فقد تسلَّمت زمام قيادة البشرية منذ وُلدتْ وبنت حضارةً لم تشهد البشرية لها مثيلاً من قبل، حسبُها أنها استطاعت خلال قرن من الزمان إسقاط أعظم دولتين كانتا تحكمان العالم آنذاك، الفرس والروم، وامتدت شرقًا حتى بلغت الهند والصين، وغربًا حتى بلغت فرنسا والنمسا، وجنوبًا حتى بلغت المحيط الهادي، وشمالاً حتى بلغت روسيا والقوقاز، وتحوَّل البحر الأبيض المتوسط إلى بحيرة إسلامية تجوبها السفن، ولا يجرؤ أحد أن يقتحمها أو يعبُرها إلا بإذن مع دفع أجور العبور، ولقد بنوا ممالك إسلامية فيما وصلوا إليه من فتوحات ونشروا العدل والرحمة والمساواة، والحرية في الناس.

 

هل تعلم أن المسلمين حكموا فرنسا يومًا ما؛ إذ كان حاكمهم في القرن السادس عشر، وعلى التحديد سنة 1543 إثر نزولهم مدينة نيس وسيطرتهم على مدينة تولوز في الجنوب.. كان هذا الحاكم يسمى "الحسن آل عبادة".

 

ولكن هذه الأمة بفعل اختلاطها بغير المسلمين، والتأثر بثقافتهم، ومحاولة تقليدهم، ومحاكاتهم تخلَّت عن تعاليم الإسلام شيئًا فشيئًا، حتى أبعدوا الإسلام عن قيادة الحياة، وحصروه في دائرة الشعائر التعبدية وشئون الأسرة؛ الأمر الذي أدى إلى زوال حضارتهم، ورجوعهم إلى الوراء في مؤخرة الركب، وحقَّ فيهم قول القائل:

كم صرفتنا يد كنا نصرفها         وبات يملكنا شعب ملكناه

 

هذه هي المعصية، وهذا أثرها إجمالاً.. سوس ينخر في عظام الحضارات ومخّها حتى يردِيَها، ويحلَّ غيرُها محلَّها، إنها سنة ثابتة لا تتخلَّف أبدًا حتى مع أفضل الأمم وخير الأمم بإطلاق.

 

والسؤال المهم.. ماذا تفعل المعصية بالحضارات؟ وكيف تقضي عليها؟! 

1- تصيب أبناء الأمة بالقلق والاضطراب النفسي، بل بالرعب الذي لا ينتهي، ولا نعمة في الوجود تعدل نعمة الأمن، ولعل هذا هو المفهوم من قوله سبحانه ﴿الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمْ الأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ (82)﴾ (الأنعام)، وقوله سبحانه ﴿الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ (28)﴾ (الرعد)، بل هو الذي نطق به قول الحق سبحانه ﴿سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِمَا أَشْرَكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَمَأْوَاهُمْ النَّارُ وَبِئْسَ مَثْوَى الظَّالِمِينَ (151)﴾ (آل عمران) ﴿إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ فَاضْرِبُوا فَوْقَ الأَعْنَاقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ (12) ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَمَنْ يُشَاقِقْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (13)﴾ (الأنفال).

 

ومن قوله سبحانه في شأن يهود بني النضير ﴿هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ دِيَارِهِمْ لأَوَّلِ الْحَشْرِ مَا ظَنَنْتُمْ أَنْ يَخْرُجُوا وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مَانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنْ اللَّهِ فَأَتَاهُمْ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمْ الرُّعْبَ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الأَبْصَارِ (2)﴾ (الحشر).

 

وهل يستطيع قلِق أو مضطَّرِب أو مرعوب المشاركةَ في بناء الحضارات أو الدفاع عنها، وحمايتها من تطاول المتطاولين وعبث العابثين؟!

 

2- الشرود الذهني وما يؤدي إليه من غفلة ونسيان؛ لأنَّ كل فرد جعل همَّه الدنيا تعلَّق بشهواتها، وشهواتها لا تنتهي؛ إذ يقول: "ومن أصبح وهمُّه الدنيا شتَّت الله شمله، وجعل فقره بين عينيه، ولم يؤتِه الله من الدنيا إلا ما قدّر له منها" (رواه ابن حبان في صحيحه).. وما ظنك بشارد الذهن الذي يعيش دائمًا في غفلة ونسيان..!! أيستطيع أن ينتج أو أن يدافع عن حضارة أو رقي أو تقدم؟!

 

3- الابتلاء بعلل وأمراض بدنية لم يسمع بها الناس من قبل؛ إذ يقول: "ما ظهرت الفاحشة في قوم فيعلنوا بها إلا أخذهم الله بالطواعين والأوجاع التي لم تكن فيما مضى من أسلافهم..." (رواه ابن ماجة وهو حسن)، وهل يستطيع مريض بمرض لا يُرجى برؤه إعطاء أمته أو الدفاع عن مكتسباتها وحضارتها؟!

 

4- شيوع الفقر وغلاء الأسعار، وجور السلاطين؛ إذ اتباع الهوى والشهوات يؤدي إلى البطالة، وهي بدورها تؤدي إلى شيوع الفقر، وغلاء الأسعار، واستبداد السلاطين وجورهم، يقول: "وما نقص قوم المكيال والميزان إلا أُخذوا بالسنين، وشدة المؤنة وجور السلطان، وما منع قوم زكاة أموالهم إلا مُنعوا القطر من السماء، ولولا البهائم لم يُِمطَروا" (رواه ابن ماجة وهو حسن)، وهل تُبنَى الحضارات وتدوم بالفقر والغلاء والجور؟!

 

5- وقوع الكوارث المتتابعة في البر والبحر والجوّ، قال تعالى: ﴿ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (41)﴾ (الروم)، وهل يبقى لدى مَنْ نزلت به كارثة وقت أو طاقة أو مال ليعطي أمته، أو يدافع عن عزتها وكرامتها ومقدساتها؟!

 

6- تمرد الظواهر الكونية؛ حيث يكون تلوث الماء والهواء وشدة الحرارة وشدة البرودة والزلازل والأعاصير، يقول سبحانه: ﴿أَأَمِنتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمْ الأَرْضَ فَإِذَا هِيَ تَمُورُ (16) أَمْ أَمِنتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا فَسَتَعْلَمُونَ كَيْفَ نَذِيرِ (17)﴾ (الملك).. ﴿قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ انظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الآيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ (65)﴾ (الأنعام65)، وإذا أبت العناصر الكونية الانقياد للإنسان فأنَّى له أن يحقق رقيًّا أو يقيم حضارةً، فضلاً عن أن تدوم هذه الحضارة؟!

 

7- نزع البركة من الأعمار، فتكون الوفيات المبكرة، أو يطول العمر ولكن لا فائدة ترجى منه، ولا طائل من ورائه؛ لأنه أُنفق في البطالة أو في الشرِّ والفساد، وهل تُبنَى حضارة على هذه الحال أو تستمر؟!

 

8- نزع البركة من الأرزاق، بمعنى نقصها، أو زيادتها ولكن كثرة المصائب من الحرائق والزلازل، والغرق، وتحطيم وسائل المواصلات ونحوها يأتي على الأرزاق فيذهب بها، وكأنها لم تكن.. يقول النبي: "وإن الرجل ليُحرَم الرزق بخطيئة يعملها" (رواه مسلم)، وفي رواية عن ابن ماجة "... وإن الرجل ليحرم الرزق بالذنب يصيبه".

 

وما ظنك بمُلاحَق في رزقه بالكوارث والمصائب!! أيعطي أمته أو يصنع حضارة ويصونها؟! ولعل هذا والذي قبله هو المفهوم من قوله: "مَنْ سرَّه أن يبسط له في رزقه، أو ينسأ له في أثره، فليصل رحمه" (متفق عليه).

 

9- قسوة القلب، فلا تناصُحَ ولا تراحمَ ولا تعاطفَ؛ إذ يقول الحق سبحانه عن بني إسرائيل لما اقترفوا ما اقترفوا وجادلوا بالباطل ليدحضوا به الحق: ﴿ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً وَإِنَّ مِنْ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الأَنْهَارُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاءُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (74)﴾ (البقرة)، وتلك سنة لا تخطئ العصاة أبدًا، وهل تُبْنى حضارة أو تصان وأهلها من قسوة القلب بحيث لا تناصُحَ بينهم ولا تراحُمَ ولا تعاطف؟!

 

10- عمى القلب؛ بحيث لا يعرف معروفًا ولا ينكر منكرًا إلا ما تمليه عليه الأهواء، وذلك يبدأ بمعصية تلو معصية، يسودُّ فيها جانب من القلب ثم القلب كله، كما يقول النبي: "إن العبد إذا أذنب ذنبًا نُكتت في قلبه نكتة سوداء فإذا هو نزع وتاب، واستغفر صقل قلبه، وإن زاد زادت حتى تعلو قلبه، فذلك الران الذي قال الله عز وجل: ﴿كَلاَّ بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (14)﴾ (المطففين).

 

ثم تتكاثر المعاصي حتى يملأ السواد القلب، ثم يغلق ويختم قلبه بخاتم كما قال تعالى:﴿أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا (24)﴾ (محمد)، وكما قال: ﴿خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (7)﴾ (البقرة).

 

وحين يختم عليه يصبح أعمى بل ميتًا، لا يفرق بين خير وشر، كما يقول النبي: تُعرض الفتن على القلوب كالحصير عودًا عودًا، فأي قلب أنكرها نُكتت فيه نكتة بيضاء، وأي قلب أشربها نكتت فيه نكتة سوداء، حتى تصير على قلبين على أبيض مثل الصفا، فلا تضره فتنة ما دامت السموات والأرض، والآخر أسود مرباد كالكوز مجخيًا لا يعرف معروفًا ولا ينكر منكرًا إلا ما أُشرب من هواه" (رواه مسلم).. وحضارةٌ أبناؤها موتى القلوب يحرِّكهم الهوى.. يسهل اختراقهم، وبالتالي تقويض هذه الحضارة.

 

11- شيوع الفرقة والقطيعة، وربما الحروب الأهلية؛ إذ أبى الله أن تلتقي قلوب العصاة؛ حيث يقول: ﴿تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْقِلُونَ (14)﴾ (الحشر)، ويقول: ﴿وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقًا مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالإِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (188)﴾ (البقرة)، ويقول: ﴿فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنتُمْ بِهِ فَقَدْ اهْتَدَوا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ فَسَيَكْفِيكَهُمْ اللَّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (137)﴾ (البقرة).

 

ويقول النبي: "الأرواح جنود مجندة، ما تعارف منها ائتلف، وما تناكر منها اختلف" (رواه مسلم)، ويقول أيضًا:"وما لم تعمل أئمتهم بكتاب الله إلا جعل الله بأسهم بينهم..." (رواه ابن ماجة)، وهو حديث حسن، وهل المتفرقون المتناحرون يُنشئون حضارةً أو يصنعون رقيًّا، فضلاً عن الرعاية والحماية؟!

 

12- تسليط الأعداء؛ بحيث يسعون لهدم حضارة الأمة، وإحلال ثقافتهم وحضارتهم محلها، يقول النبي: "وما نقض القوم العهد والميثاق إلا سلَّط الله عليهم عدوًّا من غيرهم فأخذ بعض ما في أيديهم، وسامهم سوء العذاب" (رواه ابن ماجة وهو حديث حسن).

 

13- زوال الهيبة، ونزع الثقة؛ إذ العاصي سيِّئ الخلق، وسوء الأخلاق يُورِث فقد الثقة، وضياع الهيبة، كما قال النبي: "ولينزعن الله المهابة من قلوب عدوِّكم، ويجعل في قلوبكم الوهن، قالوا: وما الوهن يا رسول الله؟ قال: حب الدنيا، وكراهية الموت" (رواه أحمد وأبو داود)، وحضارة فاقدة الهيبة منزوعة الثقة لا وزن لها بين الحضارات بل لا بقاء ولا دوام!!

 

14- الحرمان من العون الإلهي، والتأييد الرباني؛ إذ أبى الله أن ينصر عصاه إلا مكرًا واستدراجًا، أو ليؤدِّب بهم آخرين، أو لعلهم يفيقون ويرجعون إلى الله، قال تعالى: ﴿لِيَقْطَعَ طَرَفًا مِنْ الَّذِينَ كَفَرُوا أَوْ يَكْبِتَهُمْ فَيَنْقَلِبُوا خَائِبِينَ (127) لَيْسَ لَكَ مِنْ الأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ (128)﴾ (آل عمران)، وقال: ﴿وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ (45)﴾ (القلم)، وقال أيضًا: ﴿وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ (182) وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ (183)﴾ (الأعراف).

 

15- طول الطريق، وكثرة التضحيات والتكاليف؛ إذ يوم تفكر حضارة نخَر السوس في عظامها حتى انهارت في العودة، فإن طريق هذه العودة طويل، والتكاليف كثيرة، والتضحيات ضخمة، وقد تعود هذه الحضارة أو لا تعود.

 

أتصور أن الصورة أصبحت جليَّةً واضحةً.. "المعاصي سوس الحضارات"، فلتحرص كلُّ حضارة على الطاعة والتقوى بعد التحرر من المعاصي والسيئات، راجيةً من ربها التوفيق والتأييد والسداد.