- الجماهير منحتني لقب "الشيخ جابر" وعمري 10 سنوات

- الجارات المسيحيات كُنَّ يساعدن في إعداد "خبيز رمضان"

- صورة شهر الصيام تأثَّرت سلبًا بوسائل الإعلام

 

حوار- عمرو محمود

قبل قدوم شهر رمضان الكريم بأسابيع كانت الأكف ترتفع بالدعاء للدكتور جابر قميحة أن يتعافى من الوعكة الصحية التي ألمَّت به، وقد استجاب الله سبحانه وتعالى لدعاء الصالحين وتماثل الكاتب والشاعر الكبير للشفاء وعاد إلى أحبابه يطل عليهم من خلال مقالاته التي باتت علامات على الكتابة الجادة المهمومة بواقع الوطن والأمة والإسلام.

 

وفي حديث الذكريات الذي أدلى به الدكتور جابر قميحة لـ"إخوان أون لاين" حول الصورة التي كانت لشهر رمضان في الماضي والتطور الذي جرى عليها الآن عاد بنا إلى نشأته في المنزلة؛ حيث كانت أسرته تعيش في حارة القمايحة (نسبة إلى جده قميحة)، وبدأ يرسم لنا صورة رمضان منذ 65 عامًا في بلدته المنزلة قائلاً: كان احتفال أهالي المنزلة بقدوم شهر رمضان يبدأ من منتصف شهر شعبان؛ حيث تستعد محال الحلوى والأفران لعمل الكنافة ويبدأ الأهالي في تجهيز ما كانوا يسمونه "خبيز رمضان" قبل أن تنشغل الناس في الصوم، وكان هذا "الخبيز" يتم إعداده وتخزينه في صندوقٍ كبيرٍ يطلقون عليم اسم "سحَّارة".

 

ويشير الدكتور جابر قميحة إلى مدى التعاون الذي كان يتم بين النسوة في ذلك الوقت؛ حيث كُنَّ يجتمعن بمَن فيهن المسيحيات لإعداد هذا "الخبيز"، وكان هذا التعاون صورةً صادقةً وحقيقيةً للعلاقة بين الجيران الذين كانوا يطلقون على العجين اسم "البركة".

 

ويظل الناس في التجهيز والإعداد حتى يأتي يوم الشك، ويتم عمل زفة للعجول التي سيتم ذبحها صباح هذا اليوم، ويقوم الأطفال بعمل الزفة؛ حيث يدورون بهتافاتهم في أنحاء البلد.

غلاء يوسف

والغريب الذي يذكره الدكتور جابر قميحة هو الأسعار في هذه الفترة؛ حيث كان سعر العجل السمين ثلاثة عشر جنيهًا، وكان الناس رغم ذلك يقولون إنهم في غلاء يوسف (يقصدون فترة القحط التي عاصرها سيدنا يوسف عليه السلام في مصر).

 

ومن طرائف هذه الفترة أيضًا أنه كان يُعاب على أي فردٍ من الأهالي عدم وجود فرن في بيته أو أن يسكن في منزلٍ بالإيجار، وقد كانت هاتان فضيحتين يحاول كل فردٍ تلاشيهما.

 

ومن مظاهر رمضان أن القُرَّاء في هذه الفترة كانوا يقصدون المسجد الكبير في المنزلة ليعرضوا أنفسهم على الأهالي لإحياء ليالي رمضان بتلاوة القرآن الكريم، وتتفاخر كل أسرةٍ بجودة تلاوة قارئها ومهارته، ولأن المنزلة تقع على بحيرة المنزلة فقد كانت الأضواء في شهر رمضان تنعكس في البحيرة فيبدو المنظر لافتًا.

 

* سألنا الدكتور جابر قميحة متى بدأت الصيام؟

** قال: كان عمري 7 سنوات عندما بدأت أصوم، لكن شفقة والدي- رحمه الله- عليَّ جعلته يفاوضني على أن أفطر مقابل خمسة مليمات، أي نصف قرش.

 

* وماذا تذكر أيضًا عن هذه الفترة؟

** كان الشيخ مصطفى الطير هو عالم المنزلة الأول في هذا الوقت، ويُلقي دروسه في مسجد أبو خودة، وكان بليغًا في الإلقاء، وقد كنا نحضر دروسه وقبل المغرب ننصرف، ويخرج الأطفال لانتظار أذان المغرب بصوت عم خليل، وينادي الأطفال:

يا فاطر رمضان يا خاسر دينك

كلبتنا السودة هتاكل مصرينك

وبعد الإفطار نُصلي المغرب ثم نمشي إلى بعض البيوت الكبرى وننادي:

لولا الدار دي ما جينا       يا حولها

ولا تـعبنا رجـلينا         يا حولها

وتبادر سيدة الدار بإعطائنا جوائز (والحول هو القوة)، وكانت عربات رمضان تنتشر في الشارع ويركبها الأطفال مقابل مليم واحد.

 

* كيف ترى هذه الصورة الآن؟

** كلما تذكرتُ تلك الأيام أحسستُ أننا فقدنا شيئًا طيبًا؛ لأن مظاهر رمضان وقتها كانت طبيعيةً بريئةً، أما الآن فهي صناعية؛ حيث جنت البرامج الإذاعية على القيم، وأخبرني أحد الفلاحين أنَّ واحدًا من المصلين سأل عن طول صلاة التراويح، فلمَّا علم أنها لن تمنعه من مشاهدة الفوازير حمد الله وتهلل وجهه بالبشر، وهذا هو فلاح اليوم، أما قديمًا فقد كان الفلاح لا يُفكِّر إلا في عمله وتحسين إنتاجه والعناية بزراعته وأرضه.

 

ذكريات مع الإخوان

* وكيف كانت ذكرياتك مع الإخوان المسلمين؟
 
 الصورة غير متاحة

الإمام الشهيد حسن البنا

**

كنتُ في العاشرة من عمري عندما شاهدتُ عرضًا لجوالة الإخوان المسلمين وعددهم كان حوالي خمسمائة شخص وهم يسيرون مع صوت البوق والنفير والطبلة ويهتفون: "الله أكبر ولله الحمد"، وشعرتُ ببهجةٍ جعلتني أخشى أن ينتهي هذا العرض الذي أسعدني أن أراه، وعرفتُ أن الشيخ حسن البنا يزور المنطقة، وكان الناس يتحدثون عنه بحبٍّ وتقديرٍ عظيمين، وذهبت مع والدي وشاهدتُ الإخوان والجوالة وفيهم المتعلم المثقف والعامل والفلاح، ثم ظهر الأستاذ البنا ومعه الشيخ أبو السعود السودة، وكان الإمام البنا يلبس العمامة والجبة والقفطان، وصعد المنصة، وبعد أن توالت الكلمات جاء دوره فأخذ بألباب الحضور واستولى على مشاعرهم، وقد كان- رحمه الله- يجيد مخاطبة الجماهير بما يقترب من فهمها، ولما كانت المنزلة أهل بحارة فإذا به- رحمه الله- يُشبه الإسلامَ بالسفينة والحكومة بالدفة، وهكذا.

 

وفي أثناء هذا الحديث كنتُ أشعر أن الإمام يحدثني أنا، وأن كلامه كله موجه إلى شخصي ومضت ثلاث ساعات، وانتهى الحفل دون أن يغمض لي طرف أو يسرح ذهني عن موضوع حديثه، ومنعني الخجل أن أبوح لأبي بما شعرتُ في كلام الإمام وأن حديثه كان موجهًا إليَّ أنا وحدي، لكنني رأيت صديق والدي يقول له إنه شعر أن كلام البنا خاص به (بصديقه) فقال له أبي: لقد كان هذا الشعور عندي أنا أيضًا، وهذا الأمر يؤكد نجاح الإمام البنا وتأثيره في الجماهير، وهذا نوعٌ من البلاغة (الإيمانية)، وهي قوة التأثير البياني.

 

ثم التحقتُ وقتها بجماعةِ الإخوان المسلمين وصرتُ واحدًا من أشبال الدعوة، وكنتُ أرتدي زي الجوالة وأنا صغير أمشي خلف صفوف الجوالة، فكانت النساء عندما يشاهدنني وأنا طفل في العاشرة خلف الشباب الجوالة يطلقن الزغاريد.

 

* دراستك لم تكن في الأزهر الشريف، ولكنك حصلت على لقب الشيخ جابر.. ما قصة هذا اللقب؟

** لقب الشيخ جابر أطلقه أهالي بلدتي المنزلة على شخصي؛ مما أسعدني فلم أكن أدرس بالأزهر الشريف، ولكني حصلت على اللقب من الجماهير؛ حيث إنني تعلمتُ في جماعة الإخوان المسلمين القرآن الكريم والتفسير والحديث من خلال الأسر، وعندما كنا طلابًا في المرحلة الابتدائية طلب مني أحد الإخوة أن أصعد لأخطب في الناس، وكان هذا صدمة لي؛ إذ كيف ذلك ولم أستعد؟ وكان هذا أول موقف لي في الخطابة فأخذتني رعشة وانطلق لساني بما أحفظ من قرآنٍ وحديثٍ وتفسيرٍ؛ مما أدهش الحاضرين من كلام صبي في سني، وأخذ الناس يدعون لي ولوالدي.

 

ولما سألتُ الأخ محمد قاسم الذي أمرني بالخطابة عن مفاجأته لي أخبرني بأنه لكي أنجح في الخطابة لا بد من الاقتحام والمواجهة، ويذكرني هذا الحديث بالمثل القائل "مَن الذي فاز في الماراثون الطويل؟ فقالوا: كسيح أطلقوا وراءه أسدًا!!"، والمثل واضح على النجاح بالاضطرار.

 

وفي هذه الفترة أيضًا كان الإخوان يُشكلون فرقةً من الحمير تحمل الدعاة إلى القرى المجاورة، وكان والدي يمتلك عددًا كبيرًا من الحمير لكونه تاجرًا يقوم العاملون معه بالتجوال بالحمير للبيع، وقد كنت أختار أقوى حمار لأذهب به مع الدعاة فكانوا يقولون: "الشيخ جابر جاب الأوتوبيس" ويضحكون.

 

موقف محرج

* سافرت كثيرًا للتدريس في السعودية وباكستان والولايات المتحدة.. كيف تتذكر رمضان في الغربة؟

**  رمضان جميل في كل بلاد المسلمين، لكني أذكر لك طرفةً عبارة عن موقفٍ محرجٍ حدث لي عندما كنتُ أعمل في الجامعة الإسلامية في إسلام أباد بدولة باكستان؛ حيث تعرفتُ على شخصٍ اسمه "بنيامين" كان يعمل في السوبر ماركت، وذات مرة قلت له: "إن ديننا يدعو إلى المحبة والسلام مثل دينكم"، فقال لي: أي دين تقصد؟ قلت له: المسيحية، فقال: "لكنني مسلم" فأحرجني، لكني عرفت أن الأسماء في باكستان يتكرر فيها أسماء تُوحي بأنها لدياناتٍ غير الإسلام لكن يحملها مسلمون.