لا زلت أذكر ليلة استشهاده وكأنها حدثت منذ لحظات، كنت حينها جالسًا مع ثُلِّة من الأصحاب في جلسة سمر يغلب عليها الترويح عن النفس بعد يوم حافل بالتعب والمشاقِّ، وفجأةً ونحن نضحك إذ بسحابةٍ من الحزن تغيِّم عليَّ، وإذا بي أصابُ باكتئابٍ شديدٍ ثم تتساقط دموعي رغمًا عني، وسط دهشة الخلان الذي بوغتوا بما لا يتوقَّعون؛ فالجو كان جو مرح ولم يحدث ما يعكِّر مجرى الحديث، وحاولوا أن يستفسروا مني عن السبب وأنا لا أعرف ماذا أقول لهم؛ فأنا شخصيًّا لم يكن لديَّ جواب!!.

 

واحترامًا لحالة الحزن التي طرأت عليَّ انسحب أصدقائي من حولي وتركوني وحيدًا لأنفجر في موجةٍ من البكاء الحاد الذي لم يتوقَّف حتى مطلع الفجر بعد أن هجرني النوم ثم نزلت لصلاة الفجر وأنا أدعو الله أن يفرِّج عني ما أنا فيه، وبعد أداء الصلاة بدقائق دقَّ جرس الهاتف وارتفعت معه دقات قلبي وإذا بالخبر ينزل عليَّ كالصاعقة: "استُشهد شيخ المجاهدين أحمد ياسين بصاروخ مباشر وهو خارج من المسجد عقب أدائه صلاة الفجر" ومادت بي الأرض، وسقطتُ في بحرٍ من اللوعة والحزن على فراقِ الحبيب الغالي.

 

أدرك جيدًا أن هذه المشاعر لم تكن حكرًا عليَّ، بل شاركني فيها الملايين في شتى مشارق الأرض ومغاربها.

 

كان حادث استشهاده- رحمه الله- أقوى من أن يحتمله المرء، لم يكن الشيخ- رحمه الله- مجرد مجاهد رغم علو منزلة المجاهدين، لم يكن كذلك رمزًا لقضية نبيلة فحسب، بل كان روحًا تسري في الأمة تبعث فيها الحياة من جديد؛ حياة العزة والكرامة، حياةٌ لا تعرف الانكسار إلا لله، حياة ملأها ألمٌ على واقعنا المرير وأملٌ كبير في مستقبلنا.

 

عندما تنظر إليه على كرسيه يتحسَّر المرء على حاله.. هذا الشيخ المقعد الضعيف الواهن استطاع رغم عجزه ومرضه والظروف القاسية التي عاش فيها، استطاع أن يبنيَ هذا الصرح الشامخ (حماس) الذي تتكسَّر الآن على صخرته مؤامرات وعواصف لولاه- بعد الله عز وجل- لانتهت القضية الفلسطينية منذ أمد بعيد، بينما نحن الأصحَّاء نقف عاجزين أمام ما يحاك لأمتنا من فتن كقطع الليل المظلم.

 

قصة حياته- رحمه الله- هي قصة فلسطين باختصار، بل قصة أمة بكاملها.. وُلد عام 1938م في قرية الجورة- قضاء المجدل جنوبي قطاع غزة، ثم استقرَّ في قطاع غزة مع أسرته بعد نكبة 1948م، وكان عمره حينها 12 عامًا، عانت أسرته كثيرًا من ألم الجوع والحرمان، فاضْطُرَّ إلى ترك الدراسة لمدة عام ليعيل أسرته المكوَّنة من سبعة أفراد، فعمل بأحد المطاعم بغزة ثم أكمل دراسته مرةً أخرى حتى أصيب في حادث على أحد شواطئ غزة أثناء ممارسته للرياضة، وهو لا يزال في مقتبل الشباب نتج عنه شلل كلي في جميع أطرافه، ثم اشتعل بالتدريس بعد تخرُّجه، ثم عمل خطيبًا ومدرسًا في مساجد غزة حتى أصبح في ظل الاحتلال أشهر خطيب عرفه قطاع غزة؛ لأنه كان لا يخشى في الحق لومة لائم.

 

شارك الشيخ الشهيد في المظاهرات التي اندلعت في غزة؛ احتجاجًا على العدوان الثلاثي على مصر، وأظهر قدرات خطابية وتنظيمية عالية؛ مما وضعه تحت عين المخابرات المصرية في غزة، فتمَّ اعتقاله أكثر من مرة عام 1965م بتهمة الانتماء لجماعة الإخوان المسلمين، خاصةً أن الحملةَ على إخوان مصر كانت على أشدها في ذلك الوقت.

 

تمَّ اختيار الشيخ أحمد ياسين في العام 1968م لقيادة الإخوان المسلمين في فلسطين، فأسَّس الجمعية الإسلامية ثم المجمع الإسلامي، وساهم بشكلٍ كبيرٍ في تأسيس الجامعة الإسلامية.

 

اعتُقل الشيخ في عام 1983م لحيازة السلاح وتشكيل تنظيم عسكري والتحريض على إزالة "إسرائيل" من الوجود، وقد حُكِم عليه من قِبل محكمة صهيونية بالسجن لمدة 13 عامًا، ثم أُفرج عنه عام 1985م في إطار عملية تبادل للأسرى بين سلطات الاحتلال والجبهة الشعبية لتحرير فلسطين بعد أن أمضى 11 شهرًا في السجن.

 

أسَّس الشيخ مع مجموعةٍ من قيادات الإخوان والنشطاء الإسلاميين في فلسطين عام 1987م حركة المقاومة الإسلامية (حماس) القوة الضاربة لجماعة الإخوان المسلمين في فلسطين كما يقول موقع الحركة على الإنترنت، بعد أن قام سائق شاحنة صهيوني في 6 ديسمبر 1987م بدهس سيارةٍ صغيرةٍ يستقلها عمَّال عرب، فاستشهد أربعة من أبناء الشعب الفلسطيني، فكان الرد إعلان النفير العام.

 

وصدر البيان الأول عن حركة المقاومة الإسلامية "حماس" يوم الخامس عشر من ديسمبر 1987م إيذانًا ببدء الجهاد المسلَّح المنظَّم ضد الاحتلال الصهيوني الغاشم.

 

داهمت قوات الاحتلال الصهيوني منزل الشيخ أواخر شهر أغسطس 1988، وقامت بتفتيشه وهدَّدته بدفعه من مقعده المتحرِّك عبر الحدود ونفيه إلى لبنان.

 

وفي ليلة 18/5/1989م قامت سلطات الاحتلال باعتقال الشيخ أحمد ياسين مع المئات من أبناء حركة "حماس" في محاولةٍ لوقف المقاومة المسلَّحة التي أخذت آنذاك طابع الهجمات بالسلاح الأبيض على جنود الاحتلال ومستوطنيه، واغتيال العملاء.

 

في 16/10/1991م أصدرت محكمة عسكرية صهيونية حكمًا بالسجن مدى الحياة مضاف إليه خمسة عشر عامًا على الشيخ أحمد ياسين بعد أن وجَّهت له لائحة اتهام تتضمن 9 بنود؛ منها التحريض على اختطاف وقتل جنود صهاينة، وتأسيس حركة "حماس" وجهازيها العسكري والأمني.

 

في 13/12/1992م قامت مجموعة فدائية من مقاتلي كتائب الشهيد عز الدين القسام بخطف جندي صهيوني وعرضت المجموعة الإفراج عن الجندي مقابل الإفراج عن الشيخ أحمد ياسين ومجموعة من المعتقلين في السجون الصهيونية بينهم مرضى ومسنون ومعتقلون عرب اختطفتهم قوات صهيونية من لبنان، إلا أن الحكومة الصهيونية رفضت العرض وداهمت مكان احتجاز الجندي؛ مما أدَّى إلى مصرعه ومصرع قائد الوحدة المهاجمة قبل استشهاد أبطال المجموعة الفدائية.

 

أُفرج عنه فجر يوم الأربعاء 1/10/1997م بموجب اتفاق جرى التوصل إليه بين الأردن و"إسرائيل" للإفراج عن الشيخ مقابل تسليم عميلَين صهيونيين اعتُقلا في الأردن عقب محاولة الاغتيال الفاشلة التي تعرَّض لها خالد مشعل رئيس المكتب السياسي للحركة.

 

وتستمر رحلة الكفاح الدامي ضد عدو غاشم يملك كل أسباب القوة الغاشمة، وتقف وراءه دول عظمى ولديه في الداخل الفلسطيني خونة وعملاء يملكون السلطة والنفوذ والفساد الأخلاقي والمالي، ووسط محيط عربي رسمي خانع وخاضع للحلف الصهيوني الأمريكي حتى تحين لحظة استشهاده لينال أمنية حياته التي طالما انتظرها بعد أن اطمأنَّ أن هناك خلفه الآلاف من الأبطال الذين يحبون الموت أكثر من حبهم للحياة.

 

ربما تتشابه مسيرة حياة الشيخ الشهيد مع الكثير من العظماء عبر التاريخ، ولكن ما يميزه عن غيره ويجعله متفردًا في زمانه أنه بدأ جهاده متجردًا خاشعًا خاضعًا لله، وربما كان هذا السبب الذي من أجله لم تُصَب عنقُه بالشلل حتى يستطيع أن يتطلَّع باستمرار إلى أعلى.. إلى السماء؛ موطنه الطبيعي ومصدر الشوق المتجدِّد لديه.

 

إنها سلسةٌ تبدأ بسيد الشهداء سيدنا محمد- صلى الله عليه وسلم- وتمتد حتى قيام الساعة، ولكن هذه السلسة بين حلقاتها لآلئ تشع نورًا سرمديًّا يخطف الأبصار ويدهش العقول، وأحسب أنا شيخنا الشهيد إحدى هذه اللآلئ التي سيظل نورها ينير لنا الدرب.