د. توفيق الواعي

يوجد في الحياة كثير من العجائب والغرائب؛ فمثلاً تجد فقيرًا يتكفَّف الناس، ولكن أن تجد أُمةً تتكفَّف الناس، وأن ترى شعبًا يتسوَّل فهذا هو الغريب في الأمر، وخصوصًا إذا كان هذا الشعب عنده من الموارد المنهوبة ما يسد رمقه، ومن الخامات ما يرفع شأنه، ونحن نسمع في هذه الأيام من كوارث الأعاجيب ما تشيب له الولدان، ونسمع أن رجلاً قتل أولاده من الجوع ثم انتحر، وأن النساء من العوز يأكلن بشرفهن وأثدائهن، في مجتمع نَهِم للشهوات، ولا يرحم، وقد سمعنا قصة المرأة التي دعاها داعٍ إلى الفاحشة؛ فلمَّا جلس منها مجلس الرجل من امرأته قالت له: اتق الله، ولا تفض هذا الخاتم إلا بحقه، فتركها وأعطاها المال الذي أرادت، وهذا الرجل كان فيه بقية من إيمان فأرجعه إيمانه وحفظه دينه، ولكن عندما لا يوجد دين ولا مروءة، فماذا يكون؟!.

 

ورأينا شعوبًا تأكل بأخلاقها ودينها، فرأينا كُتَّابًا وأصحاب أقلام يبيعون ذممهم بفتاتٍ من الحياة الدنيا، ورأينا وسمعنا عن أسرةٍ تأكل ببيع أولادها ليعيشوا الحياة المهينة، ورأينا وسمعنا عن أناسٍ يبيعون أجسادهم قطعةً قطعةً في سبيل لقمة العيش، وهذه وتلك ليست حياة فردية أو نزعة شاذة، ولكنها أصبحت أسلوب حياة ومِهَنًا يرتزق منها الناس ويتحدث عنها العالم.

 

كتبت: نفيسة الصباغ 15/3/2008م:

أشارت "لوس أنجلوس تايمز" الأمريكية إلى ازدهار تجارة الأعضاء في مصر، وربطت بينها وبين الفقر الذي يدفع بالمصريين لبيع أجسادهم بالقطعة، وضربت مثالاً على ذلك بمصطفى حامد المصري البالغ من العمر 24 عامًا، والذي كان يعمل سائق أتوبيس، وأصبح الآن سمسارًا لتجارة الأعضاء.

 

وبدأت قصة حامد حين أُصيب ابنه الصغير ذو الأربعة أعوام بالسرطان واحتاج إلى نقل شريان، وكانت تكلفة العملية 5000 دولار، بينما كان كل ما يملكه حامد هو الجنيهات القليلة التي يعود بها من عمله يوميًّا، عندها تعرَّف على شخصٍ نصحه باتباع طريقة بيع جزء من كبده بسعر يكفي عملية ابنه ويُوفِّر له بعض الأموال في الوقت نفسه، لكن المفارقة أن حامد انزلق إلى سوق تجارة الأعضاء من أجل ابنه الذي تُوفِّي خلال العملية.

 

وبعدما بدأ جرحه على ابنه يندمل، قرَّر أنَّ عمله كسائقٍ للأتوبيس لم يكن المصير الذي يريده لنفسه، وبدأ في العمل الجديد "سمسار تجارة أعضاء" وربح 900 دولار من أول عملية بيع كبد يتمها، وتلتها 4 عمليات أخرى خلال الشهور الأربعة الماضية.

 

وتجوَّل كاتبا الصحيفة "جيفري فليشمان" و"نهى الحناوي" داخل دهاليز السوق السوداء لتجارة الأعضاء في مصر، والتقيا بحامد الذي قال: "لقد اضطررتُ لبيع جزءٍ من كبدي من أجل ابني الذي فقدته، لكن بعضَ مَن يأتون إليَّ يكونون لديهم أمل في إنقاذ أطفالهم والبحث عن حلولٍ لمشكلاتهم، وكثيرون يريدون الآن بيع أعضائهم ليتمكَّنوا من شراء شقةٍ للزواج"، ولكن مثل هؤلاء الذين من الممكن أن يجدوا حلولاً أخرى مع الوقت ينصحهم حامد، طبقاً لتصريحاته، بالتريث والبحث عن طريقٍ آخر.

 

واهتم تحقيق الصحيفة بتأكيد أن الصبر لم يعد موجودًا في القاهرة ولا في مصر الآن، خاصةً أن نصف السكان يعيشون تحت مستوى الفقر، مع استمرار زيادة معدلات التضخم التي دفعت أسعار الخضراوات إلى 90% خلال عام واحد، على الرغم من النمو الاقتصادي الذي تشهده البلاد، وبالتالي فالفقر هو السبب الرئيس وراء ازدهار تجارة الأعضاء التي انتشرت في مصر منذ سنوات، كما أن عدم وجود قانون يسمح بإجراء تلك العمليات بشكلٍ شرعي ونقصَ الرقابة على عمليات النقل التي تتم أثَّر أيضًا على ازدهار تلك السوق السوداء.

 

ولأن التجارةَ تتم بشكلٍ غير شرعي فلا يمكن التأكد من الإحصاءات الصحيحة لعمليات نقل الأعضاء، وقالت مجموعة طبية للصحيفة: إن هناك على الأقل 500 عملية نقل كُلى غير مرخَّصة تتم سنويًّا، إلا أن أحد المشرِّعين الذين يعملون على التحرِّي عن تلك التجارة أكَّد أن الأرقام الصحيحة أعلى من ذلك بكثير.

 

وتؤكِّد "لوس أنجلوس تايمز" أن الأماكن التي تتم فيها تلك العمليات معروفة للجميع، وقال أحد المهندسين الزراعيين الذي جاء إلى القاهرة من صعيد مصر للصحيفة: "طبيبي أبلغني أن آتيَ إلى هذه العيادة"، وأضاف أنه يبلغ من العمر 58 عامًا ويعاني من فشلٍ كلوي، ويريد متبرِّعًا يبيع له كُليَة بسعرٍ يتراوح ما بين 20 و40 ألف جنيه".

 

وعلى الجانب الآخر، يعاني المتبرِّعون الذين يبيعون أعضاءهم معاناةً مختلفة؛ فأيمن عبد الله الذي كان يعمل محاسبًا في الصعيد قرَّر هو وأخوه الانتقال إلى القاهرة واستثمار ما ادخره الأب والأم طوال عمرهما في محل لبيع التليفونات المحمولة، ووثقا في شخصٍ وشاركاه، لكنه اختفى بعدما فوجئا بأنَّ عليهما ديونًا تبلغ 75 ألف جنيه.

 

ويقول أيمن: "لم يكن لديَّ خيار ثالث؛ إما أن أسدد ديوني أو أدخل السجن"، وقرَّر بيع جزء من كبده مقابل 40 ألف جنيه بعدما اكتشف أن بيع الكُلى لن يزيد عن 20 ألفًا.

 

ويؤكِّد أيمن: "إذا كتب لي الله الحياة بعد هذه العملية لن أبقى في هذه البلد؛ سأعمل بالتدريس أو التجارة في أي بلدٍ خليجي؛ فبعد العملية سأشعر وكأنني أقل من كل الناس، ولا بد من الذهاب إلى مكانٍ جديدٍ والتعرف على أناسٍ جدد".

 

هذه أمة لها الله سبحانه، ولا بد لها أن تعتصم بدينها وقياداتها التي تتقي الله؛ لأنها مسئولة منهم، يقول عمر بن الخطاب: "والله.. لو عثرت بغلة بالعراق لكنت مسئولاً عنها: لِمَ لم أمهِّد لها الطريق؟"، ولا بد للرعية أن تدرك حقوقها وتطالب سلطاتها برعاية مصالحها، ولقد فهم هذا امرأةٌ حين قالت لعمر: "تتولَّى أمرنا ولا تعرف شأننا؟!".

 

لا بد للأمة من عدالةٍ ومن حقوقٍ تُساعد الفقراء، وقد قيل: "ما جاع فقير إلا بظلم غني"، فهل تسعد أمتنا بدين الله، وسلطان يحقق لها عزتها وكرامتها؟.. نأمل ذلك.

-----------

* [email protected]