إبراهيم الهضيبي

 

أصبت خلال الأيام الماضية بنزلة برد قاسية ألزمتني الفراش لأيام، فوجدت نفسي في اليوم الأول للمرض أتعامل معه كما لو كان أمرًا عارضًا سيمضي سريعًا من تلقاءِ ذاته، ولكن سرعان ما أدركت أن التزامي لهذا النهج سيكون له أثر سلبي على صحتي، وسيعطل من العلاج.

 

ذهبتُ بعد يومين إلى الطبيب الذي وصف لي مجموعةً من الأدوية ونصحني بالتزام الفراش والراحة التامة لثلاثة أيام أخرى على الأقل، فالتزمت بذلك الأمر حتى منَّ الله عليَّ بتحسن صحتي.

 

أصابتي تلك الوعكة وقت إصدار الأحكام العسكرية على قادة الإخوان، وهم إخوة أعزاء وأساتذة أفاضل يعلم الله ما أحمله لهم في قلبي من حبٍّ ومودة. فكان جلوسي بالمنزل سببًا في أن أتابع عن كثبٍ كل ما يُكتَب حول القضية، وأن أكتب بنفسي بعض المقالات حول الموضوع؛ حيث إن وقتي في العادة لا يسمح بهذا النوع من الرصد لكل ما يكتب، وإنما أكتفي بانتقاء بعض الآراء في كل موضوع وأمر على غيرها بسرعةٍ غالبًا.

 

المهم أن من أهم ما رصدته في هذه المتابعة- خاصةً في كتابات بعض الإخوان- هو صعود نبرة الحديث عن الأحكام باعتبارها نوعًا من الابتلاء، وأن الصبر عليها يورث النصر، ومن ثَمَّ كانت جل مطالبات القيادات للأفراد تتعلق بالثبات والصبر وعدم فقد الأمل، وجل المطالبات لم توضح المقصود بالصبر، فسألت نفسي عن المطلوب حقًّا في هذا التوقيت، وبدأت أبحث عن إجابة.

 

تفكرتُ في حالي وفي الوعكة التي ألمَّت بي، وسألتُ نفسي: أليس المرضُ نوعًا من الابتلاء؟ نعم هو بفضل الله ابتلاء هين، ولكنه دون شك ابتلاء، لا بد له من قدرٍ يكافئه من الرضا والصبر.

 

فقلت لنفسي: أي نوعٍ من الصبر أرضى لله، وأكثر تماشيًا مع شرعه؟ أهو صبري في اليوم الأول، الذي قررتُ فيه أن أتحمل الألم في صمت، وأن أجلس منتظرًا أن يرفع الله عني البلاء ويذهب عني المرض، أم هو صبري اللاحق حين ذهبتُ إلى الطبيب والتزمتُ بما قاله؟.

 

لا أظن أن أحدًا يختلف على أن صبري في اليوم الأول (إن جاز أن أسميه صبرًا، فهو في الحقيقة ليس إلا إهمالاً للصحة، ربما لعدم إدراكي بأبعاد الفيروس الذي أصابني، وهو نوع من السلبية كذلك في التعامل مع مشكلةٍ صحيةٍ معلوم طريق علاجها وهو الذهاب للطبيب) ليس محمودًا، إن لم يكن مذمومًا، فهو ليس احتمالاً للابتلاء بقدر ما هو مضاعفة له بعدم الأخذ بأسباب رفعه، وتقصيرًا في حق نعمة أنعم الله بها علي وهي نعمة الصحة، وهو تقصير أراني بسببه مذنبًا.

 

أما قراري بالذهاب للطبيب والعمل على رفع ابتلاء المرض فلا أظنه عجزًا عن مواجهة الابتلاء، ولا ضعفًا وبُعدًا عن الثبات في مواجهته، وإنما هو أخذ بالأسباب في رفع البلاء أمر الله تعالى به، وبدونه ليس هناك صبر.

 

ولم يكن ممكنًا لي أن أقرر من تلقاء نفسي دواءً للعلاج، فقد يكون ذلك ممكنًا في حالة الأعراض التقليدية المتكررة، مثل الصداع بعد ساعات العمل الطويلة مثلاً، أما وقد ظهرت أعراض مختلفة عن التقليدية، أو امتدت الأعراض التقليدية لفترة أكثر مما يحدث في العادة، فقد لزمت زيارة طبيبٍ متخصص. فحتى لو كنتُ طبيبًا (والأمر ليس كذلك) فإن استشارة طبيب آخر تصبح لازمةً إذا اشتدَّ الأمر، هكذا يقول الأطباء.

 

ولا أستطيع في الحقيقة أن أرى أي فارقٍ إلا من حيث الحجم بين هذا الموقف وبين موقف الجماعة من الأحكام العسكرية، فالصبر هنا مطلوب وواجب، ولكنه الصبر الذي يدفع للعلاج، ويدفع للسعي لرفع الابتلاء، وليس السكوت عنه واعتبار أن المسجونين هم ضحايا الحرية وكفى!.

 

إن الصبر على الابتلاء ليس الجلوس في المنازل والحزن على ما ألمَّ بالمعتقلين من ظلمٍ وجور، وهو أيضًا ليس الدعاء لهم فحسب، وإن كان ذلك يسير بالتوازي مع العلاج، وليس كذلك بالسير في ذات الطريق دون تغيير في الحركة فحسب، فإن ذلك معناه أننا على استعدادٍ أن تضحي الدعوة (ولا أقول نُضحي نحن) بعقول وطاقات وخبرات هائلة بأرخض الأثمان.

 

وإنما يكون الصبر الحق في هذه الحالة بالعمل على رفع البلاء عن المعتقلين؛ وذلك بوسائل الضغط التقليدية وغير التقليدية التي تحتاج إلى عقلٍ إبداعي، فمن ذلك مثلاً الاستمرار في التصعيد ضد الأحكام والاستمرار في المعركة الإعلامية بوتيرةٍ أعلى ونَفَس أطول حتى معركة الاستئناف، بل وحتى خروج المعتقلين.

 

والحقيقة أن تحديد الوسائل العلاجية هي مهمة المتخصصين من أهل الفكر والسياسة، وهم يحيطون بالجماعة من كل جانب، لا يشك أحد في إخلاصهم ولا في قدراتهم ومهاراتهم، والخطر كل الخطر هنا أن تظن الجماعة أنها بصفتها الأقرب للواقع هي الأقدر على العلاج دون هذه العقول؛ فالمريض دومًا هو الأكثر شعورًا بالألم، ويجب عليه لذلك نقل أعراض الألم كاملةً وبدقة إلى الطبيب، إلا أن وصف العلاج تبقى مهمة الطبيب.

 

أتصور أن الرهان الأساسي هنا يتعلق بقضيتين محوريتين: الأولى هي الإبداع في اختيار الوسيلة بحيث تكون أقرب للعملية وسهلة التطبيق، وتكون في الوقت ذاته قليلة الكلفة (ولا أقصد المادية) على الجماعة، كبيرة التأثير والفاعلية، وكلما كانت نسبة النجاح أكبر في تلك النقطة كان الأخذ بالأسباب يتم بشكل أقرب للمصلحة، وأرضى لله عز وجل الذي لا يرضى عن الظلم، والذي حدثنا نبيه بأن السعي في حاجة مسلم خير من اعتكاف في مسجده صلى الله عليه وسلم، والذي أمر بنصرة المظلوم، وتلك النقطة الحاجة فيها ملحَّة لأطباء السياسة والفكر لوصف طريق العمل.

 

والقضية الأخرى المتعلقة هي طول النفَس، وذاك دومًا رهان المستبد، أن يرتفع صوت المعارض أو المسلوب والمظلوم يومًا أو يومين، ثم يسكت بعد ذلك ويقنع بما هو فيه، وأظن أن أحداث العام الماضي وما قدمته أسر المعتقلين من مجهودات متواصلة يثبت أن النفس الطويل ممكن، وأن الاستمرار في الدفاع عن هؤلاء المعتقلين أمر نستطيعه جميعًا، بدافع الوفاء وبدافع الحب.

 

أتصور أن هذا هو ما قصده جلُّ مَن كتب في هذه المسألة وإن كان لم يفصِّل فيه بالشكل اللازم حتى ظن البعض، كما ظهر من تعليقاتهم، أن المطلوب هو الصبر بمفهومه السلبي، وذاك أمر أربأ بأساتذتي أن يقصدوه.

 

بعد يومين أو ثلاثة من مرضي منَّ الله عليَّ بالشفاء بعد أن التزمت بالسنة الكونية في مراجعة الطبيب المختص والتزام الدواء بجرعاته المنضبطة، وقلبي مملوء بالأمل بأننا لو التزمنا السنن الكونية وأخذنا بالأسباب في الصبر على الاعتقال والسجن والأحكام العسكرية القاسية فإن الفرج القريب سيكون، والله يقول الحق وهو يهدي السبيل، والحمد لله رب العالمين.