كم تعرَّض المسلمون للمحن والشدائد في مسيرتهم وفي رسالتهم!، وكم ألمَّت بهم من فتن وإِحَنٍ، ولكنهم ثبتوا فيها ثبوت الجبال!، وكم مرَّت بهم من عواصف هوج تقتلع الرواسي، ولكنَّ الله سلَّم!، ولا شكَّ أن هذا يُكلِّف المجاهدين الكثير الكثير من المال والجهد، والنفس والنفيس، ولكنها إرادة الله، وطبيعة الصراع بين الحق والباطل، الذي يكشف عن المعادن ويُظهر الخبيث من الطيب.

 

وقد أراد الحق سبحانه أن يظهر هذا بوضوحٍ عملي وبرهان فعلي؛ فقال سبحانه: ﴿كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللهُ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأَرْضِ﴾ (الرعد:17)، يقول الإمام الطبري: "مثل يضربه الله للحق والباطل، والإيمان والكفر"، مثل للحق في ثباته والباطل في اضمحلاله، ولوحة تصويرية للدعوة الباقية والدعوة الذاهبة مع الريح، للخير الهادئ والشر المنتفخ، وهو من جنس المشاهد الطبيعية المنظورة والمَعيشة؛ ولهذا نسمع القرآن في إظهاره للمشهد المنظور فيقول: ﴿أَنزَلَ مِنْ السَّمَاءِ مَاءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَدًا رَابِيًا وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغَاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ زَبَدٌ مِثْلُهُ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللهُ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأَرْضِ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللهُ الأَمْثَالَ﴾ (الرعد: 17)؛ فليس هذا أو ذلك بعد إلا إطارًا للمثل الذي يريد الله أن يضربه للناس من مشهود حياتهم التي يمرون عليها دون انتباه.

 

الماء ينزل من السماء فتسيل به الأودية، وهو يلمُّ في طريقه غثاءً، فيطفو على وجهه في صورة الزبد حتى ليحجب الزبدُ الماءَ في بعض الأحيان، وهذا الزبدُ نافشٌ رابٍ منتفخٌ، ولكنه غثاء، والماء من تحته ساربٌ هادئٌ، ولكنه هو الماء الذي يحمل الخير والحياة، كذلك يقع في المعادن التي تذاب لتُصاغ منها حلية الذهب والفضة، أو تُصنع بها آلة نافعة للحياة، فإن الخبث يطفو وقد يحجب المعدن الأصيل، ولكنه بعدُ خََبَثٌ يذهب، ويبقى المعدن في نقائه وصفائه.

 

وقد يكون صراع الحق والباطل شديدًا، والعراك أليمًا؛ بحيث يصيب النفوس بالهلع، ويلجئها حتى إلى اليأس ﴿حَتَّى إِذَا اسْتَيْئَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَنْ نَشَاءُ وَلا يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنْ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ﴾ (يوسف: 110)، ولكن العاقبة للمتقين؛ لسببين: الأول: لأن الله اشترى منهم النفوس والأموال ﴿إِنَّ اللهَ اشْتَرَى مِنْ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمْ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنْ اللهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمْ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ﴾ (التوبة: 111)، والثاني: لأنهم توكَّلوا على الله ووكّلوه عنهم وأسلموا قيادهم له: ﴿الَّذِينَ قَالَ لَهُمْ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ﴾ (آل عمران: 173)، وكان ذلك بعد وقعة أُحد؛ بعد القتل والشدة والعنت من بعدما أصابهم القرح ﴿الَّذِينَ اسْتَجَابُوا للهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ مَا أَصَابَهُمْ الْقَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ﴾ (آل عمران: 172)، فكانت استجابتهم بهذه الصورة الرائعة الناصعة الهائلة، صورة التوكل على الله وحده وعدم المبالاة بمقالة الناس وتخويفهم لهم من جمع قريش لهم، مثل هذه الصورة الرفيعة لميلاد تلك النفوس الكبيرة التي لا تعرف إلا الله وكيلاً، وترضى به وحده، وتكتفي وتزداد إيمانًا في ساعة الشدة، وتقول في مواجهة تخويف الناس لهم:﴿حَسْبُنَا اللهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ﴾ (آل عمران: من الآية 173).

 

يقول الأستاذ سيد قطب: "إن ذكر الله عند لقاء العدو يؤدي وظائف شتى: الاتصال بالقوة التي لا تُغلب، والثقة بالله الذي ينظر أولياءه، وهي بعد ذلك استحضارٌ لحقيقة المعركة وبواعثها وأهدافها؛ فهي معركة لله لتكون كلمة الله هي العليا، لا للسيطرة، ولا للمغنم، ولا للاستعلاء الشخصي أو القومي، كما أنها توكيد لذلك الواجب في أحرج الساعات وأشد المواقف".

 

حدَّث البخاري عن ابن عباس قال: "حسبنا الله ونعم الوكيل.. قالها إبراهيم حين أُلقي في النار، وقالها محمد صلى الله عليه وسلم حين قالوا ﴿إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ﴾ (آل عمران: من الآية 173)".

 

وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا وقعتم في الأمر العظيم فقولوا: حسبنا الله ونعم الوكيل"، وقيل: "من عَسُرَ عليه قيادُ نفسه، فليقل: حسبي الله ونعم الوكيل".

 

وليس التوكُّل على الله تواكلاً، وتركًا للاستعداد والتخطيط، وعدم الاعتماد على النفس، وإنما يأتي التوكُّل على الله بعد الاستعداد والتخطيط وبذل الجهد.

 

روى الإمام أحمد عن عوف بن مالك أنه حدَّث أن النبي صلى الله عليه وسلم قضى بين رجلين، فقال المقضي عليه لما أدبر: حسبي الله ونعم الوكيل، فقال صلى الله عليه وسلم: "ردُّوا عليَّ الرجل"، فقال: "ماذا قلت؟"، قال: قلت: حسبي الله ونعم الوكيل، فقال صلى الله عليه وسلم: "إن الله يلوم على العجز، ولكن عليك بالكيس، فإذا غلبك أمر، فقل: حسبي الله ونعم الوكيل".

 

أما أن تستعمل "حسبي الله ونعم الوكيل" بدون بذل للجهد، وشحذ للفكر، وعمل بالجد، واستفراغ للوسع، وتخطيط للنصر، واستخراج للرأي، وإعمال للبصر والبصيرة، فإن مستعملها ملومٌ على العجز، ملومٌ في المعارك، بعيدٌ عن النصر.

 

وما هذه الحياة سوى صراع

يتم بفوز مفتول الذراع

وما سادت شعوب الخلق إلا

بتهيئة البنين لذا الصراع

إذا لم يُعنَ بالأشبال قومٌ

فنهضة مجدهم رهن انصداع

ولا تزكوا المناشي في أناس

يرون النشء من سقط المتاع

 

واللهَ نسأل أن يُحقَّ الحق بكلماته ويقطع دابر الكافرين.. آمين.

---------

* [email protected]