دخل حزب العدالة والتنمية في تركيا صراعًا جديدًا من أجل البقاء على قيد الحياة في السياسة التركية، وكي ينفِّذ أنموذجًا رحَّب به الكثيرون في الغرب والشرق يؤسس لمرحلة جديدة في العلاقة بين المسلمين والديمقراطية، وكذلك العلاقة بين الغرب والشرق.

 

الحزب الذي خرج من رحم التجربة الإسلامية السياسية في تركيا؛ والتي قادها الزعيم نجم الدين أربكان رئيس الوزراء الأسبق طوال أكثر من ثلاثين سنة، والذي حاز على ثقة الشعب التركي مرتين خلال أقل من ثماني سنوات، وحكم منفردًا، وحقَّق أعلى نسبة تصويت شعبي وصلت إلى أكثر من 47%، وحقق استقرارًا سياسيًّا واقتصاديًّا غير مسبوق في تاريخ تركيا الحديث.. هذا الحزب يواجه الآن مصيرًا بالحلِّ والحظر السياسي لأكثر من 70 من قياداته؛ على رأسهم رئيس الجمهورية ورئيس الوزراء ورئيس البرلمان.

 

المواجهة اليوم ليست مع الجيش الذي لم يتعود الاستسلام في معاركه ضد السياسيين؛ بل تقوم بالمواجهة الآن المحكمةُ الدستوريةُ العليا؛ التي قررت قبل أيام إلغاء التعديل الدستوري الذي أقره البرلمان بأغلبية غير مسبوقة، ويتيح حقوقًا متساويةً في التعليم الجامعي لكل المواطنين، وبذلك يرفع الحظر غير الدستوري وغير القانوني ضد المحجبات، والذي تسبب في سفر الآلاف منهن للتعليم في الخارج.

 

هذا الحكم الأخير يعد تمهيدًا للحكم الآخر الذي ينتظره الجميع بعد شهور، والذي سيحدد مصير الحزب وقادته السياسيين، ويدخل تركيا مرحلةً جديدةً من الفوضى والاضطرابات السياسية، والتي بدأت انعكاساتها الاقتصادية الآن.

 

كان بعض العقلاء يتوقع أن يأتي الحكم بعدم الاختصاص كما هو الوضع القانوني الدستوري؛ لأن التعديل لا يدخل في اختصاص المحكمة، ولأن نص التعديل لا يتعلق بالحجاب من الأصل، ولكنه يقرر المبدأ الدستوري في الحقوق المتساوية، وبالتالي يبقى هناك أمل في الوصول إلى تسوية قبل قرار حظر الحزب وعزل قياداته سياسيًّا، ويُتيح فرصةً للخروج من المأزق والمصير المجهول للحياة السياسية التركية، إلا أن الحكم صدر بإلغاء التعديل، ووضع تركيا أمام الفوضى الخلاقة أو المدمرة، فقد حاكم النوايا والضمائر وقرَّر دون أي شك أن هناك أجندةً إسلاميةً خفيةً لدى الحزب الحاكم؛ مما يعني أن المسألة مجرد وقت لا غير، وأن حزب العدالة سيتم حله كما تم حلّ أكثر من 5 أحزاب لنفس الاتجاه من قبل بزعامة أربكان؛ كان آخرها حزب الرفاه.

 

هذه العلمانية التي تقول المحكمة الدستورية إنها تحافظ عليها أصبحت دينًا جديدًا؛ يقوم الجيش وقياداته وقضاة المحكمة الدستورية العليا بدور السدنة والكهان في محرابه.

 

لا يوجد تعريف دستوري للعلمانية التركية؛ إلا أن المدعي العام الذي يطالب بحل الحزب قدم تعريفًا غير مسبوق لها.. يقول عبد الرحمن يلتشين قايا (لاحظ أن اسمه عبد الرحمن): إن العلمانية هي التي تحرر الإنسان من عبوديته للخالق من أجل أن يكون فردًا حرًّا له دور في المجتمع (جريدة الحياة 4/6/2008م).

 

شكرًا للسيد عبد الرحمن الذي لم يقرِّر حتى الآن وفقًا لتعريفه للعلمانية أو اتساقًا مع معتقده الخاص تغيير اسمه على هذا الإيضاح الضروري؛ الذي يضع الشعب التركي كله (99% مسلمون) أمام أحد اختيارين لن يجد صعوبة في التفضيل بينهما: إما أن يبقى على دينه الأصلي وهو الإسلام الذي يشهد فيه المسلم كل يوم أنه لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله؛ بما يقتضي العبودية الخالصة لله تعالى وخلع الأنداد والشركاء، ورفض كل الأرباب من دون الله، ويعني بالتبعية الخضوع لتعليم الله والاستسلام لأوامره دون تردّد أو شك، ولو كانت تخالف هواه أو ما يراه بعقله القاصر أو تحدّ من حريته ظاهريًّا، بينما هي تحرره في الحقيقة من العبودية للأهواء البشرية وتخلّصه من العبودية لغيره من البشر ولو كانوا قضاة المحكمة الدستورية ومدعيها العام أو كبار القادة العسكريين.

 

الخيار الآخر المرّ والأصعب والذي صوَّت الشعب ضده أكثر من مرة بمنطق الديمقراطية البشري والذي فشلت في فرضه على الأتراك كلُّ الحكومات التي جاء بها العلماني منذ أتاتورك حتى يومنا هذا وحتى يقر سدنة الدين الجديد وكهنته بفشلهم.. هو العلمانية بمفهوم عبد الرحمن يلتشين قايا، وهي إيديولوجية جديدة أو بالتعبير البسيط دين جديد يبشرون به في تركيا ويريدون فرضه بقوة السلاح عن طريق الجيش، أو بقوة القضاء عن طريق المحكمة ضد إرادة غالبية الشعب التركي الذي أيَّد 80% منه التعديل الدستوري الذي رفع الظلم عن المحجَّبات وحقق المساواة لجميع الأتراك.

 

إذن هو المنطق الفرعوني ﴿مَا أُرِيكُمْ إِلاَّ مَا أَرَى﴾ (غافر: من الآية 29) أو المنطق العشري العقيدي "حتى تتبع ملتنا" ومصيره الفشل المحتوم.

 

أعلن حزب العدالة رفضه قرار المحكمة واعتبره مخالفًا للدستور والقانون، وبدأ يعد عدته لمواجهة الحكم القادم بحظره ومنع قياداته من الانتماء للأحزاب السياسية دون أن يمنعهم من العمل السياسي كمستقلين، وهو ما يعد استعدادًا منه للمواجهة القادمة.

 

الخيارات محدودة أمام الحزب ولكنها واضحة؛ فإمكانية إنشاء حزب جديد قائمة وسيظل يحافظ على أغلبيته المطلقة في البرلمان والتي ستتقلَّص إلى 320 نائبًا (عدد نواب البرلمان 550)، وسيعود رجب أردوغان إلى البرلمان كنائب مستقل، ويمكنه وفقًا للدستور والقانون أن يشكِّل وزارةً جديدةً إذا لم يحظر الحكم ذلك عليه تحديدًا، وهنا إذا أدركت القوى العلمانية المصير المظلم الذي تقود إليه تركيا والخيارات الصعبة التي تضعها أمام الشعب التركي، حيث إن كل الأحزاب الأخرى؛ العلمانية والقومية، ضعيفة وفاسدة وفاشلة، وكل الإنجازات الكبرى التي حققها أردوغان ستتبخَّر إذا لم يواصل مسيرته السياسية.

 

المشكلة الحقيقية ستبقى دون حل، وهي قضية العلمانية التركية؛ ذلك الدين الجديد ومبشروه وسدنته وكهنته، فهل يمكن في الفاصل القادم من قصة العلمانيين الأتراك أن تنتهي تلك الدراما التركية، وأن ينزوي هؤلاء الكهنة إلى ركن مظلم في تاريخ تركيا الحديث؛ لتستأنف تركيا حياةً جديدةً، وتستعيد حيويتها وهويتها المطموسة، ويعيد حزب العدالة والتنمية تأسيس الجمهورية التركية من جديد؛ بدستور جديد وبتصويت شعبي جديد، يؤكد الثقة في الاختيار الذي استقر عليه الأتراك وحقق لهم بعضًا من آمالهم، ويمكن له في المستقبل أن يحقق لهم أكثر وأكثر؟!

 

إذا نجحت تركيا وحزبها الحاكم في تجاوز هذه العقبات فإننا سنكون بالفعل أمام إنجاز كبير سينعكس على الحركات الإسلامية في معظم بلاد العالم، وإذا دخلت تركيا النفق المظلم وواجهت المصير المجهول فإن انتكاسةً كبرى تكون لحقت بالأنموذج التركي الذي ما زلنا نواصل متابعة حلقاته المثيرة مثلما يتابع العرب الآن المسلسلات التركية الاجتماعية المدبلجة على الشاشات.