حق للأمم أن تبكيَ الدموع حين تفقد بالموت بعضًا من خير إنتاجها، كأفاضل العلماء والمخلصين من أبنائها في المجالات المختلفة، وهي إن لم تبكِ في هذا الوقت كانت فاقدةً الوفاء والحب، وحق للأمم أن تشعر بالقلق حين تفقد بالموت مصنعًا أساسيًّا من مصانعها؛ يُخرج إنتاجًا متميزًا؛ فالمصيبة هنا أعظم، والحدث هنا أجلُّ، ولا حول ولا قوة إلا بالله، وهي إن لم تقلق وقتئذٍ كان ذلك دليلاً على الخرف وعدم الإدراك، وكانت الأمة تستحق لذلك أن نبكيَ عليها.
وهذا الشعور بالقلق كان أحد المشاعر التي تلقيتُ بها نبأ وفاة العلامة الدكتور عبد الوهاب المسيري رحمه الله تعالى وأسكنه فسيح جناته؛ فقد كان- رحمه الله- مصنعًا حقيقيًّا للفكر والتأصيل المعرفي، والمصانع الفكرية في بلادنا- بكل أسف- قليلة؛ لأننا لا نقدِّر الصناعات الثقيلة، ولا نشيد لها الصروح، ولا نمهِّد لها السبل، ولا نقدِّم لها التسهيلات اللازمة، والإنتاج عندنا لذلك محدود؛ فالموجود من المصانع إنما وُجد بجهودٍ ذاتيةٍ خارقةٍ، وبإرادةٍ وإصرارٍ على النجاح والانتصار لهوية الأمة بإيمان حقيقي بها، وأحد هؤلاء الذي سلكوا الدرب الصعب وشيَّدوا المصانع الفكرية وأنتجوا الأفكار (بل والمفكرين) هو الدكتور المسيري، الذي تفقد الأمة بوفاته ركنًا أساسيًّا من أركانها الفكرية المعروفة والقليلة والمحدودة.
التقيت بالدكتور المسيري في حياتي مرات قليلة؛ كان أول ما أتذكره منها قبل سنوات أربعة في نقابة الصحفيين أثناء المشاركة في مؤتمر الحملة الدولية لمناهضة العدوان، وكانت أعراض المرض ظاهرة عليه، ولكن إرادته وابتسامته كانت أوضح، كان يجد صعوبةً في المشي، ولكن أفكاره كان تحلِّق وتُتعب من يحاول اللحاق بها، يومها التقيت به وتعرفت عليه، فكانت معرفةً أفتخر بها ولله الحمد.
وكان اللقاء الأخير في نفس المكان بعد ثلاثة أعوام، ويومها اصطحبت العلامة الكبير إلى خارج النقابة، ودار بيننا حديث إنساني لا يمكن أن أنساه، إلى أن مرَّ عليه أحد تلامذته ليذهب به إلى لقاء فكري آخر بعد أن حضر افتتاح المؤتمر، كان الدكتور المسيري يعاني وقتها من مرضه معاناةً شديدةً، ولكن معاناة الوطن كانت عليه أشد، فتغلَّب في قلبه الألم العام على الألم الخاص، وظل يعمل في حقل الإصلاح الوطني حتى يومه الأخير، متناسيًا آلام جسده، حتى كاد ينسينا جميعًا مرضه بنشاطه؛ فالمتابع نشاطَه في العام الماضي يصعب عليه تصديق الحالة الصحية التي كان يعاني منها؛ فقد وقف في وجه النظام وفساده، وشارك في إعادة تأسيس حركة كفاية وإعادة الشرعية الديمقراطية ومن ثَمَّ الجماهيرية إليها، وتعرَّض للضرب والاختطاف أكثر من مرة في المظاهرات.. كل ذلك ما بين رحلاتٍ علاجيةٍ شاقة كان يذهب إليها مضطرًا بين الحين والحين.
ولكن تلك الأدوار كانت فرعيةً في حياة الدكتور المسيري الذي نذر حياته للتأصيل المعرفي؛ فكانت إسهاماته الفكرية في هذا المجال- في ظني- هي الأهم على الإطلاق، من نقده العلمانية والنموذج الحضاري الغربي، وفهمه القيم الحضارية الإسلامية وشرحه إياها، وكتاباته في هذا المجال خالدة، ككتابه "العلمانية الجزئية والعلمانية الشاملة" بجزأيه، وكتاب: "إشكالية التحيز.. رؤية معرفية ودعوة للاجتهاد" بأجزائه، وكتاب "دفاع عن الإنسان"، بخلاف أشهر ما كتب، وهي الموسوعة، وأجمل ما كتب في رأيي وهي مذكراته "رحلتي الفكرية.. سيرة شبه ذاتية شبه موضوعية"، الكنز الثمين الذي يمثل رحلة حياة أحد عباقرة الأمة وأخلص وأنجب أبنائها.
تلقيت نبأ وفاة المسيري فتذكرت قول رسول الله: "إنَّ الله لا ينزع العلم انتزاعًا من صدور الرجال، وإنما ينتزعه بقبض العلماء"، وذاك عالم لم تعرف أمته قدره، وهذا هو قدر المفكرين في أوطاننا؛ لا يكاد أحد يعرفهم؛ لأننا أمة- وبكل أسف- لا تقف حدود مصيبتها عند عدم القدرة على إنتاج الأفكار، وإنما تمتد لتشمل عدم إدراك أهمية الأفكار.
ربما كان المسيري استثناءً بسبب موسوعته التي عُرف بها وعُرفت به، وربما يكون استثناءً بسبب عمله السياسي في سني عمره الأخيرة، ولكنه مع كل ذلك لم ينل في حياته ما يليق به من تكريم، فلعل الله قد ادخر له ذلك لآخرته.
والنظام المصري بكل تأكيد قد بخس المسيري حقَّه، مع أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- يقول: "ليس منا من لم يجل كبيرنا، ويرحم صغيرنا، ويعرف لعالمنا حقه"؛ فقد كان نزول المسيري من أبراج المفكرين إلى واقع المناضلين سببًا في غضب النظام، الذي قرر معاقبة المسيري برفض سفره للعلاج على نفقة الدولة، وكأن أموال الدولة أصبحت مملوكةً للنظام؛ يحركها وفق أهوائه السياسية، ولكنه أبدًا لن يستطيع أن يحرك مشاعر المصريين معه، وقرر النظام كذلك معاقبته بدنيًّا بضربه مرة وباختطافه وتركه في الصحراء مرة، ولا أعرف كيف يمكن لقلب أن يقسوَ لدرجة تمكُّنه من ضرب عالم مسنٍّ مريض؛ ما خرج من بيته إلا للدفاع عن مصالح شعب، ولا أدري أي سواد قلب سمح لضابط أن يترك ذلك العلم في الصحراء يبحث عمن يعود به إلى داره؛ خوفًا من مشاركته في مظاهرة.
تلقيتُ نبأ وفاة المسيري فامتلأ قلبي بالحزن لفراق ذلك الرجل العملاق، والمفكر الكبير، والإنسان الحنون.. حدثني مرةً عن شبابه وأنشطته، فأيقنت أن روح الأمل والشباب لم تتبدل لديه، كنت كلما التقيت أحدًا من تلامذته سألتُ عن أحوال الأستاذ العلامة فأجابني بأن حالته الصحية غير مبشِّرة، ولكن حالته النفسية رائعة، وأظنه ظل كذلك حتى لحظاته الأخيرة.
تلقيت نبأ وفاة المسيري فشعرت بقلقٍ حقيقي لفقدان المرجعية الفكرية؛ فالمسيري كان يمثل- في رأيي- المرجعية النهائية فيما يتعلق بالتأصيل الحضاري والمعرفي، وبفهم القيم الحضارية للنماذج الحضارية المختلفة؛ فهو في كتاباته يغوص في أصول المشروع الحضاري الإسلامي، وفي أصول المشروع الحضاري الغربي، ويرد فروع الأعمال والاتجاهات السياسية إلى أصول المشروع الفكري والحضاري، فيساهم في بقاء أصول المشروع الإسلامي نقيةً، مع إبقاء قدرتها على الاندماج في العالم، وتطويع ما ينفع من النماذج الحضارية الأخرى من غير الانحناء لها، ومع القدرة على رؤية الصورة الكلية ورؤية الجزئيات في إطارها، وبالتالي الحكم عليها في سياق منضبط، ولا أعرف من هو في مثل قدر المسيري أو حتى في منزلة قريبة منه في هذا المجال.
تلقيتُ نبأ وفاة المسيري، فاختلطت في ذهني الكلمات، وذرفت الدموع، وامتلأ القلب بالحزن، وتعمق الشعور؛ إذ لن أستطيع- لسفري- حتى أن أراه مرةً أخيرة، أو أن أوفيَ بعض حقه عليَّ وعلى الأمة بأن أشارك في جنازته.
لم يبقَ لتلامذة المسيري ومحبيه، ولمَن شعروا بفضله على الأمة، الذي هو كفضل القمر على سائر الكواكب، إلا المساهمة في استكمال الصرح الفكري الذي بناه، والمشاركة في طريق النضال السياسي الشريف الذي تبناه؛ عسى الله أن يجعل ذلك في ميزان حسناته، وأن يجزيَه عنا خير الجزاء، وأن يتقبل منه علمه وينفع به فيكون أجرًا يجري عليه في قبره.
والله ثم والله.. إن العين لتدمع، وإن القلب ليحزن، وإنا على فراقك يا أستاذنا لمحزونون، ولا نقول إلا ما يرضي ربنا عز وجل: فإنا لله، وإنا إليه راجعون.