نشرت الصحف في 31/7/2008م خبرًا يقول: إن الدكتور نصر فريد واصل مفتي الجمهورية السابق طالب بتطبيق الشريعة الإسلامية، معتبرًا أنها "الحل الجذري لكل مشاكل الخليقة على وجه الإطلاق"، كما قال: "لو تم تطبيقها لما وُجد جائع ولا عاطل ولا لص، ولأنصف الناس فيما بينهم ولساد مبدأ العدل والإنصاف كما يقول المثل الدارج: لو أنصف الناس لاستراح القاضي ولأصبح الأخ عن أخيه راضيًا" وتابع: "هناك حيْلولة كبرى دون تطبيق الشريعة الإسلامية في مصر بالذات".

 

ونشر موقع (إخوان أون لاين): إن أحد المراكز المتخصصة في قياس الرأي العام في الولايات المتحدة أجرى استبيانًا في ثلاث دول إسلامية؛ هي: مصر وإيران وتركيا لقياس مدى رغبة الناس في تطبيق الشريعة الإسلامية وحاجتهم إليها، فتبيَّن أن أكثر الدول رغبةً في ذلك هي مصر؛ وذلك بنسبة 90% من جملة عدد عينة البحث، تليها إيران ثم تركيا.

 

وذلك يعطي مؤشرًا وتأكيدًا أن الشعوب الإسلامية ما زالت حيَّة، وأنها متشوقة لتطبيق أحكام الشريعة الإسلامية، وأن ذلك يجري في نفوسهم مجرى الدم في الشرايين، وأن ما يجري من تسارع تغريب حياة الناس وصبغ حياتهم بلون الحضارة الغربية وقسرهم على إيقاع وتيرةِ هذه الحياة وَفْقَ مرئيات هذه الحضارة وقوالبها الفكرية وتجلياتها الثقافية وانفلاتها من قيود الدين والضوابط الأخلاقية.. بعد ما طرحت الدين جانبًا، وجعلت القيم الأخلاقية نسبية ينشؤها الناس بحسب حاجتهم إليها، ويتم تبديلها وتغييرها كما يبدل الناس ملابسهم وأزياءهم وفق "الموضة" ومتغيرات الأحوال والمناخ.

 

وهكذا صدَّر إلينا أهل الغرب ونقلت إلينا وسائل الإعلام المختلفة- مرئيةً ومسموعةً ومقروءةً- وساعد على ذلك الاتجاه العلماني الحثيث في مختلف بلادنا، وكان لدور مؤسسات المجتمع المدني المدعوم بخبرة ومال ودعم المؤسسات الغربية والدولية، وكذلك الجامعات والمؤسسات التعليمية الأجنبية كان لها الدور الكبير والرائد في نقل نموذج الحياة الغربي كنمط مدني ومعاصر وحديث لينجذب إليه المسلمون في أغلب بلادهم.

 

* لذلك كان من المفارقات العجيبة أن تعلن نتيجة هذا الاستبيان الذي يُوضِّح مدى تمسك أغلب المسلمين في مناطق شتى من العالم الإسلامي بالشريعة الإسلامية ونزولهم على أحكامها والتسليم بمقتضياتها وشوقهم إلى ذلك.

 

* وفي قناة (الحوار) الفضائية استمعتُ إلى مناقشة حول الشريعة الإسلامية، وكانت هناك "مداخلات" من جمهور المشاهدين حول هذا الموضوع، وكان التعبير سهلاً وسلسًا وتلقائيًا عن مكنون ما في نفوس المسلمين في شوقٍ ولهفةٍ بل واعتزاز وترحيب بتطبيق الشريعة الإسلامية، وأنهم يطالبون بذلك ومستعدون للنزول الفوري على أحكامها دون تردد أو تلكؤ.

 

* وربما نلمس بعض الحماسة لدى جمهور المداخلات، وربما كان السبب في هذا الشوق هو ما تعانيه بلدان المسلمين من ضياع كل شيء؛ فقد ضاعت الدنيا وضاعت الشريعة بعدما توجَّهت أغلب نظم الحكم إلى الأخذ بالنمط الغربي في القوانين والأحكام، ونحُّوا أو أقْصوا الشريعة جانبًا في الأخلاق والقيم والسلوك قبل الحكم في المحاكم المختلفة في الدماء والأعراض والأموال.

 

ونُشير هنا بإيجازٍ إلى عينة من هذه المداخلات لننظر بساطتها وصدقها:

1- الشريعة ليست حدودًا فقط؛ إذْ يخطئ مَن يظن أن تطبيق الشريعة يقتصر على إقامة الحدود والتعازير؛ فليست مقصورةً على رجم الزاني وقطع يد السارق وجلد الشارب.. إلخ، إنما الشريعة تتناول الحياة كلها في جوانبها الاقتصادية والسياسية والاجتماعية، وسائر مناشط الناس واهتماماتهم؛ فهي منظومة متكاملة متشابكة، تخضع كل جوانبها لمنهج الله وشرعه في أمور الدنيا والآخرة، مع تسليم كل شيء لله؛ فهي عقيدة في القلب ينعكس أثرها على الجوارح والأفعال والحركة في واقع الحياة.

 

2- هناك محوران لمجال الشريعة الإسلامية:

- محور عقدي: يتمثل في أن النزول على شريعة الله عز وجل دَافِعه ومُحركه مرضاة الله واستمطار رحمته وفضله، ومُنْطَلَق من الإيمان القلبي بأن تطبيق الشريعة والنزول على مقتضاها إنما هو استجابة لأمر الله- عزَّ وجل- واستكمال جوانب الإيمان في القلب ﴿فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا﴾ (النساء: 65)، ﴿وَأَنْ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنزَلَ اللهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنزَلَ اللهُ إِلَيْكَ﴾ (المائدة: من الآية 49).

 

- ومحور عملي: إذ المعروف أن المسلمين عاشوا أكثر من أربعةَ عشر قرنًا ينعمون بأحكام الشريعة ولا يعرفون غيرها، وسعدوا بذلك، واستقرَّت حياتهم هانئة وادعة؛ يجنون ثمار ذلك مرضاةً للرب، وأمْنًا وسلامًا وبركةً ونماءً في حياتهم ومعيشتهم، ويوم دخل الاستعمارُ أغلبَ بلاد المسلمين منذ ما يقرب من قرنين كان أول شيء يفعله هو تنحية الشريعة جانبًا واستبدالها بأحكام وقوانين الغرب المأخوذة من القانون الروماني الوثني، وعمل على ترجمة هذه القوانين، وألزم المحاكم والقضاة بالنزول عليها وتنفيذ أحكامها، وسمَّاها بالمحاكم الأهلية تمييزًا لها عن "المحاكم الشرعية" التي أراد لها أن تختص فقط بالأحوال الشخصية من زواجٍ وطلاقٍ وأحكامِ الرضاعة والعُدَّة والحضانة، وغير ذلك من الأمور.

 

3- المسلم يؤمن ويوقن بأن الدنيا دار فانية، وأنها دار ممر وليست دار مقر، وأنه يضع نصب عينه الآية الكريمة ﴿وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللهُ الدَّارَ الآخِرَةَ وَلا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللهُ إِلَيْكَ وَلا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الأَرْضِ﴾ (القصص: من الآية 77)، ويترتب على ذلك أنه لا بد أن يقيم شرع الله في هذه الدنيا؛ ليسعد بالنعيم الذي لا ينفد هناك في الآخرة، وأنَّ الله عزَّ وجل طالما أمرنا بذلك فإنه يكون قطعًا لمصلحتنا ونفعنا وسعادتنا؛ فهو خالقنا، وهو العليم بخلقه ويعلم ما يصلحنا ﴿أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ (14)﴾ (الملك).

 

ونحن- بني البشر- خلق من خلق الله، وصنعة من صنعته، وهو سبحانه أنزل شريعته ومنهجه كدستور حياة، ومَعْلَم طريق، ودليل سير؛ فليس لنا أن نحيد عن هذه الشريعة وهذا المنهج، وإلا تنتظرنا هذه النتيجة القاسية: ﴿وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى (124) قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنتُ بَصِيرًا (125) قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنسَى (126)﴾ (طه).

 

* هذا الجانب المتمثل في عقيدة الإيمان باليوم الآخر والثواب والعقاب والجنة والنار ليس موجودًا في مواريث أهل الغرب ولا مستقرة في وجدانهم؛ فهم من سلالة الدهريين الذي جاء ذكرهم في القرآن الكريم ﴿وَقَالُوا مَا هِيَ إِلاَّ حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلاَّ الدَّهْرُ﴾ (الجاثـية: من الآية 24).

 

4- هل تكون الشريعة قبل العقيدة؟، أو بالعكس: العقيدة أولاً ثم الشريعة؟ والحقيقة أن كلاهما متلازمان؛. لا يغني أحدهما عن الآخر، ولا يقبل أحدهما بغير الآخر، وما عرف المسلمون ذلك الفضل أو الفصام النكد، كما يردد دائمًا الأستاذ سيد قطب رحمه الله، ما عرف المسلمون ذلك إلا في عصور الانتكاسة الأخيرة بعد ما صاروا دُمى أو ألعوبة في يد الاستعمار.

 

5- والذي لا شك فيه أن المسلمين الآن في حاجةٍ إلى الإيمان بالشريعة وفهمها وإدراك حاجتهم إلى نورها وهدايتها؛ فقضية تطبيق الشريعة تكون على قاعدة صلبة من الإيمان والفهم والرغبة الأكيدة والحاجة الماسة ولا تكون مفروضةً فرضًا، حتى يكون هناك تشبث بها ومحافظة عليها.

 

وهذا هو دور الإخوان المسلمين وكل المحبين للشريعة؛ أن يقودوا الأمة إلى حب الشريعة والمطالبة بها، والحفاظ عليها وعدم التفريط فيه بعد ذلك.

 

6- ولقد كان على الساحة حوار طريف بين أساتذة ورواد في العمل الإسلامي: هل الشريعة قبل الحرية؟ أم الحرية أولاً ثم الشريعة ثانيًا؟

 

وواقع الأمر أن أحدهما لا يُغني عن الآخر، وليس بديلاً له، وكلا الرأيين صواب، والسعي إلى الوصول إلى الشريعة والحرية واجب لازم لاستقامة الحياة واستقرارها على النهج السليم؛ فالحرية من ثمارها الناضجة إقامة الشريعة، والشريعة من ثمراتها المباركة تعبيد الطريق للحرية والحياة الكريمة التي تليق بالإنسان كإنسان.

 

وبعد.. فهل ما زال المسلمون والناس أجمعون في حاجةٍ إلى شريعة الإسلام، ونقاء المنهج، وصدق العقيدة التي تُخرج الجميعَ من الظلمات إلى النور، ومن الموت إلى الحياة؟!