أقبل رمضان يوقظ الغفلان ويشحذ الأذهان ويزكي النفوس ويحلِّق بالأرواح ويربي الإنسان، فهنيئًا للمرحِّبين به المقبلين عليه.

 

* أقبل يذكِّر الناس بأن الأفلاك تدور والأزمان تمر، والمسافرون إلى الله- وكل الناس مسافرون- أوشكوا أن يقطعوا مسافة السفر ويبلغوا الغاية ويلاقوا ربهم فيحاسبهم على ما قدَّمت أيديهم في هذه الحياة، فهل نحن مستعدون لهذا الحساب؟

 

* وأقبل يُذكِّرهم بما خصَّه الله به من مضاعفة الجزاء والثواب على الصالحات، وغفران الذنوب ومحو السيئات، وتطهير الإنسان من الأوزار والأدران، لينتبهوا إلى رحمة الله بهم وفضله عليهم ونعمه المعنوية والمادية التي تنهمر عليهم بغير حساب، فتنفجر في قلوبهم مشاعر الحب له والرجاء فيه والحياء منه.

 

* وأقبل يذكِّرهم بأنه كان نقطة تحول في مسار البشرية، التي كانت قد ضلَّت السبيل وأظلمت عليها المسالك، فإذا بالسماء تتصل بالأرض بعد أكثر من خمسة قرون من الانقطاع فتومض الأرض ومضةً يستضيء بها الكون بنور الوحي وإلى قيام الساعة: ﴿قَدْ جَاءَكُمْ مِنْ اللهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ (15) يَهْدِي بِهِ اللهُ مَنْ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنْ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (16)﴾ (المائدة: الآية 15-16)، فهل هم بالوحي مستمسكون؟

 

* وأقبل يذكِّر الإنسان بأنه ليس قبضةً من طين الأرض فقط، ولكنه أيضًا نفخة من روح الله، وبها نال مقام التكريم الإلهي، وسما على مَن عداه من المخلوقات، ومن ثَمَّ ينبغي ألا ينطلق حياته في صراع المادة كما تفعل السوائم، ولكن عليه أن يوازن بين الروح والمادة ويعدل بين ضرورات الأرض وأشواق السماء فيلتزم بمنهج الله الذي يحقق السلام النفسي والاجتماعي ويعيد الإنسان إلى مقامه الكريم.

 

* وأقبل يؤكد للمسلم ويرسخ عنده قضية الإخلاص لله تعالى في كل ما يأتي، وما يذر وينأى به عن حظوظ النفس ورياء الناس والتطلع إلى الثناء والمحمدة؛ وذلك كله في فريضة الصوم التي ليست لها مظاهر خارجية يمكن أن يطلع عليها الناس، ومن ثَمَّ تبقى عبادة سرية بين العبد وربه؛ ولذلك جاء في الحديث القدسي: "كل عمل ابن آدم له إلا الصوم فإنه لي وأنا أجزي به"؛ فالإخلاص هو أساس حياة المسلم وحجر الزاوية في تربيته.

 

* وأقبل ينصر المسلم على نفسه فيجعل زمامها في يده يقودها إلى الخير، ولا يتركها تقوده إلى السوء، فيقوي عزيمته ويدعم إرادته، فيستغني طوعًا وطاعةً لله عن ضرورات حياته إضافةً إلى شهواته، ومن هنا يكون أقدر على الابتعاد عن المحرمات؛ وليس ذلك في مجال الماديات فحسب، ولكن أيضًا في مجال الأخلاقيات والسلوك، فيأمر الإسلامُ الصائمَ أن ينتصر على طبعه البشري وغريزته في الثأر لنفسه بأن يُعرض عمن يسيء إليه أو يجهل عليه "فإذا كان يوم صوم أحدكم فلا يرفث ولا يفسق ولا يصخب وإن سابَّه أحد أو قاتله فليقل إني صائم.. إني صائم"، ويتحكم في لسانه وتصرفاته "مَن لم يدع قول الزور والعمل به فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه"، وهذا كله فيه إرغام للنفس على ما تكرهن وهذا هو معنى الصبر الذي هو من أهم مقومات التربية ووسائلها؛ ولذلك جاء في الحديث: "وهو شهر الصبر"، وهذا هو المدخل الطبيعي للنصر، "وأن النصر مع الصبر"؛ فمن أراد أن يجاهد وينتصر فليبدأ بنفسه، فإن قدر عليها كان على غيرها أقدر.

 

* وأقبل ليصب على الناس فيوض الله ورحماته التي تثبت حب الله لعباده وعلمه بضعفهم ورحمته بهم؛ فإقامة الركن الرابع من أركان الإسلام (الصوم) يجعله تبارك وتعالى سببًا في غفران الذنوب "من صام رمضان إيمانًا واحتسابًا غفر له ما تقدم من ذنبه" إيمانًا بالله وإيمانًا بالإسلام وإيمانًا بفرضيته، واحتسابًا- أي إخلاصًا- لله ورجاءً في فضله ومثوبته؛ ليس ذلك فحسب، ولكن من قام ليله أيضًا اقتداءً بالنبي صلى الله عليه وسلم كان حريًّا بغفران ذنوبه: "من قام رمضان إيمانًا واحتسابًا غفر له ما تقدم من ذنبه"؛ ذلك أن اصطفاف الأقدام في محاريب الصلاة وخشوع القلوب ومناجاة الله وتلاوة القرآن وتدبر آياته في جوف الليل كلها زاد الأرواح وغذاء النفوس وسمو الإنسان إلى الملأ الأعلى الكفيلة بتهذيب أخلاقه وارتقاء سلوكه وانتشار خيره، بل إن الله تعالى خصه- أي رمضان- بليلة القدر التي هي خير من ألف شهر؛ فما أحرانا بأن نتحرَّاها وأن نجتهد فيها وأن نقترب لنحظى من الله بالقرب ﴿كَلاَّ لا تُطِعْهُ وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ﴾ (العلق: 19).

 

* وأقبل ليعلمنا أن العبادات في الإسلام وإن كان جوهرها روحيًّا وأخلاقيًّا وفرديًّا إلا أن لها أبعادًا اجتماعية وسياسية؛ فاتحاد المسلمين في شعور واحد (الإحساس بالجوع والظمأ) من شأنه أن يُذكِّر أغنياءهم بواجبهم نحو إخوانهم الفقراء؛ ليس في هذا الشهر فقط وإنما في كلِّ حين؛ ولذلك جاء في الحديث "مَن تقرَّب فيه بخصلةٍ من الخير كان كمن أدَّى فريضةً فيما سواه"، ووُصف النبي- صلى الله عليه وسلم- بأنه كان أجود الناس، وكان أجود ما يكون في رمضان؛ فهو أجود بالخير من الريح المرسلة، كما فُرضت زكاة الفطر في آخره ليتكافل المسلمون فيما بينهم، كما أن اشتراك المسلمين جميعًا في كل أقطار الأرض في مباشرةِ هذه الفريضة تعمِّق عندهم مشاعر أخوة الإيمان ووحدة المسلمين ﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ﴾ (الحجرات: من الآية 10).. ﴿إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ﴾ (الأنبياء: 92)، فما أحرانا في هذه الظروف البائسة التي نرى فيها إخوانًا لنا يقتلهم الكافرون الذين يحتلون بلادهم ويحاصرون بعضهم حتى الموت.. ما أحرانا بأن نتوجَّه إلى حكامنا في كل بلاد الإسلام أن يتقوا الله في دينهم وفي إخوانهم، وأن يُدينوا طغيان الطغاة الجبارين، وأن يفكوا عرى الولاء والتبعية لهم، وأن يتعاونوا فيما بينهم مستعينين بعد الله بشعوبهم لكسر الحصار عن المحاصرين وتخفيف المعاناة عن المنكوبين، وليثقوا أن الله لن يخذلهم، وأن شعوبهم مستعدة للتضحية بالغالي والنفيس من أجل إعزاز دينها وعزة أمتها ونصرة إخوانها!

 

وما أحرانا كذلك أن نتضرع إلى الله تعالى أن يكشف الغمة عن هذه الأمة، وأن يزيح الظالمين عن أوطانها!

 

وعلينا أيها الأخوة الكرام أخيرًا أن ننتهز هذه الفرصة لنجتمع حول مائدة القرآن الكريم ونجمع قلوب الناس حول دعوة الخير، ونُعمِّر مساجد الله بالمسلمين؛ حتى يصلح الناس بالقرآن وينصلح المجتمع بالصالحين المتقين.. ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾ (البقرة: 183).

وفقنا الله جميعًا، وتقبَّل منا ومنكم، وغفر لنا ولكم، وأصلحنا وأصلح بنا.