تابعت منذ عدة أشهر- بشيءٍ من الاهتمام والدهشة- الاتهام الذي وُجِّه إلى أستاذٍ في أصول الدين في جامعة الأزهر؛ وهو من جماعة الإخوان "المحظورة"، بأنه قد شارك في صنع طائرة حربية تطير بدون طيار!!، وقلتُ هذا هو مربط الفرس في الحكم على هذه الجماعة، ومعرفة القول الفصل فيها، فوجودهم مشهور، ونشاطهم محظور، والناس حولهم ما بين مؤيدٍ ومعارض، أو ما بين مساندٍ ومعاند، أو بين معاضدٍ ومحايد، كما أن إلحاق صفة "المحظورة" بها في كل وسائل الإعلام جعل البعض يتصور أنَّ مُنشئَها قد سمَّاها ابتداءً بهذا الاسم.

 

والآن معنا اتهامٌ ماديٌّ واضح، بخلاف الاتهامات المكرورة دائمًا، من انتهاج العنف، والرغبة في قلب نظام الحكم، والحض على كراهية النظام، "أو أظن ازدراء النظام"؛ فتابعتُ ما يصدر عن هذه التحقيقات، فهناك جسمٌ للجريمة، ودليلٌ على الحرص على السرية، حتى أخفوْا الطيار من الطائرة التي تطير، وقلتُ إذا كان أستاذ الأزهر منهم يصنع طائرة، فماذا عساه أن يفعل أستاذ العلوم أو أستاذ الهندسة؟ ثم فوجئت بعد أشهر قلائل بإخلاء سبيل الرجل، وما من أحدٍ من جهات الضبط أو الادِّعاء قام يعتذر للناس أو يوضح لهم سبب هذا البوْن الكبير، بين الاتهام الخطير، وبين الحبس اليسير، ثم إخلاء السبيل.

 

وقبلها كان هناك اتهامٌ بوجود سكين في منزل أحدهم حين مداهمته ليلاً، وقالوا هو دليلٌ ماديٌّ على القيام بالعنف والبلطجة، ثم أُخلي سبيل صاحب السكين أيضًا بعدها بعدة أشهر؛ بعد التأكد من أنه سكين مطبخ، ولكن يبدو أنه كان غير مُرخَّص، ثم فوجئْتُ هذه الأيام بالإعلان عن القبض على بعض أفرادٍ من هذه الجماعة، مع اتهامٍ بجريمةٍ ماديةٍ أخرى، وهي أغرب وأفظع، وهي وجود قطعة حشيش في حوزة أحدهم!!..

 

فقلت في نفسي ألا تحترمون عقول الناس؟! ومن ذا الذي يصدَّق عنهم هذا الاختلاق؟ أم أن هناك وكرًا في جهازٍ ما، يُعيَّن فيه بعض أصحاب الأدمغة العالية؛ مهمتهم صناعة وتوليف التهم الزائفة؟!.

 

لا أكاد أشك أن المتهمين سوف يأخذون نصيبهم من التحقيقات ومن الاعتقالات ثم يُخلى سبيلهم بعد ذلك؛ بعد أن يكونوا قد استوفوا عقوبة الحبس في شكل تحقيقات وهمية.

 

إنني أناشد المنصفين من أصحاب الأقلام الذين تعودوا أن ينتصروا للمظلوم، ويتنادوا بحقوق المرأة حين تبدو مظاهر ظلمٍ لامرأة، ويتنادوا بالوحدة الوطنية حين تبدو مظاهر انتقاص للوحدة الوطنية.. أناشدهم ألا يخافوا أن يُنسبوا إلى الجماعة "المحظورة"، إذا تنادوْا بإعطائهم حقوقهم كمواطنين، بموجب الوحدة الوطنية للأسرة المصرية كلها، أو حتى بموجب حقوق الإنسان لمن يتنادى بحقوق الإنسان.

 

إن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما اشتد العذاب على المؤمنين في مكة؛ طلب من أصحابه الهجرة إلى الحبشة، وقال لهم "إن فيها ملكًا لا يُظلمُ عنده أحد"، فكونوا أنتم بأقلامكم ممن لا يُظلم عندكم أحد، وأظن أن الحظر إن كان بحقٍ أو بباطل فهو ليس حظرًا على حقوقهم كمواطنين، وإنما قد يكون حظرًا على الأنشطة، وليس حظرًا على الحقوق أو المواطنة.

 

إن الاتهام إذا تكرر، ثم تكرر إخلاء السبيل مرةً واثنتين وأكثر، وبُرِّئ المتهم من نفس التهمة، أو من شبيهتها في كل مرة؛ فإن أصابع الاتهام يجب أن تُشير إلى جهات الضبط أو الادعاء وليس لهذا المتهم.

 

إن غرابة الاتهام هذه المرة بيَّنت لي أن الكذب هو درجة من درجات تغيير الكلام، ولكن يبدو أن هناك درجاتٍ أكبر من الكذب؛ منها الزور، والافتراء، والبهتان؛ وهي صور نربأ بمعادن أبناء وطننا الحبيب أن يتلبسوا بها.

 

إن حبسَ قطةٍ بعضًا من الوقت قد يُعرِّضُ الحابس للعقاب من الله تعالى؛ فما بالُ من يستهين بحبس البشر عدة أشهر، بتهمة التحقيقات في ادعاءات خالية من أية أدلة منطقية، بل ومليئة بالافتراءات الواضحة، هذا فضلاً عن الإيذاء المادي والمعنوي لهذا المتهم المفترض براءته حتى تثبت إدانته؟!

 

إن العالم من حولنا أصبح يئنُّ من تبعة المظالم في كل مجال؛ فها هو العدوان على العراق بدأ يأتي بثماره المشئومة على المعتدين، في مجالات لم يكن لها عندهم حسبان.. ﴿وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنقَلَبٍ يَنقَلِبُونَ﴾ (الشعراء: من الآية 227). فهلاّ رجعنا إلى الإنصاف، ورفْع الظلم عن أبناء الشعب جميعًا، والاحتياط لكرامة المواطنين؛ عسى الله أن يتداركنا برحمته ويصلح أحوالنا أجمعين؟! آمين.

--------------

* [email protected]