ساعات قليلة تلك التي استغرقتها رحلتنا إلى منزل طلعت فهمي صاحب مدرسة "الجزيرة" بالإسكندرية، لم ندرِ ونحن نقطعها من القاهرة إليه أنها تمر كسنواتٍ عجافٍ على زوجة فهمي وأسرته؛ الذين كانوا أول ضحايا أحداث مدرسة "الجزيرة" الخاصة التي شغلت ذهن الرأي العام خلال الأسبوعين الماضيين.

 

باب يحمل كسورًا وآثارَ ضرب همجية هو أول ما قابلنا من بيت طلعت فهمي المطلّ على شاطئ المتوسط، إلا أن الانطباعات الحزينة التي تركها بنفوسنا تلاشت سريعًا مع خطوتنا الأولى إلى داخله بفعل الألم الذي سيطر على بنيان المنزل وغلَّف وجوه وكلمات سكانه.

 

* سؤال ملحٌّ يطرح نفسه بقوة: لماذا يحدث كل هذا مع مدرسة "الجزيرة" بالذات؟ أجَّلته على أن أعود إليه بعد أن أسأل زوجة طلعت فهمي هلاَّ ذكرتِ لنا بدايةَ أحداث المدرسة وكيف تطورت إلى هذا الحد!!.

** كانت البداية في عام 2005م عندما صدر قرارٌ إداريٌّ بهدم مدرسة "الجزيرة"، وبالفعل تمَّ الهدم بصورة عاجلة قبل أن نعترض بالسبل القانونية، ومن ثم تقدمنا بالعديد من الشكاوى ضد القرار، وتحدثنا مع العديد من وسائل الإعلام حول القضية، وأقمنا قضيةً تطالب بإعادة فتح المدرسة، في الوقت نفسه قام زوجي بتأجير فيلا بمنطقة العجمي وافتتح المدرسة فيها من جديد؛ مما مكَّن من استمرار العمل في المدرسة الجديدة لمدة ثلاثة أعوام إلى أن فوجئنا هذا العام بصدور قرار بإغلاق المدرسة من جديد!.

 

وبالرغم من صدور حكم محكمة يقضي بإعادة فتح المدرسة إلا أن الإدارة التعليمية رفضت الانصياع للقضاء تحت ضغط من جهاز أمن الدولة، وعندما ذهب زوجي إلى مسئولي الجهاز لمعرفة سبب إغلاق المدرسة قالوا له نحن ننفذ الأوامر والموضوع جاي من فوق!.

 

السفارة الأمريكية

 الصورة غير متاحة

أحد التلاميذ يبكي لحصار مدرسة "الجزيرة"

* ولماذ "الجزيرة" بالذات؟!

** هذا هو نفس السؤال الذي نسأله منذ فترة دون أن نجد له إجابة.. أحد الصحفيين قال لزوجي من قبل إن السفارة الأمريكية هي السبب وراء ما يحدث، وإنها اتهمت المدرسة بتخريج إرهابيين، وقال الصحفي إن ثمة جمعيةً قبطيةً مجاورةً للمدرسة متخصصة في رعاية المعاقين؛ هي من قدَّمت تلك الشكوى للسفارة الأمريكية، وبناءً عليه طلبت السفارة إغلاق المدرسة، لكننا لا نملك لدينا دليلاً ماديًّا على هذه القصة.

 

وهناك قول آخر يتردَّد بأن هناك أصحاب نفوذ في جهاز مباحث أمن الدولة لهم مدرسة مجاورة لمدرستنا في المنطقة نفسها، وأن ما يحدث مع مدرستنا بسبب أنها جذبت عددًا أكبر من تلاميذ المدرسة؛ ففي العام الأول جذبت المدرسة أكثر من 400 طالب، بالرغم من أننا لم نفتتح إلا ثلاثة صفوف فقط؛ اثنين رياض أطفال والصف الأول الابتدائي؛ إلا أن هذه الرواية أيضًا ليس لدينا دليلٌ ماديٌّ عليها، وحتى الآن لا يوجد لدينا سبب واحد منطقي وراء كل ما يحدث للمدرسة.

 

* هل تم اعتقال زوجك قبل هذه المرة؟

** نعم.. فقد اعتقل قبل ذلك ثماني مرات؛ ليس فقط لطبع زوجي المتدين والملتزم، وهي تهمة كافية وحدها للاعتقال!!، ولكن للأحداث الكبيرة التي ارتبطت بالمدرسة، والتي كان زوجي المتهم الأول فيها، فكما قالت عنه التحريات بأنه مواطن مصري، خريج كلية التربية قسم طبيعة وكيمياء، وحاصل على أكثر من دبلومة في التربية وتربية الأطفال والإدارة والدراسات الإسلامية، بالإضافة إلى أنه حاليًّا يجهز رسالة دكتوراه في الدراسات الإسلامية، إلا أنه استخدم ذلك كله للعمل على تربية نشء صالح يفيد نفسه ومجتمعه والأمة الإسلامية بأسرها.

 

زفاف أمني!

* كيف تمت عملية الاعتقال؟ ولماذا كانت متوقَّعة كما ذكرتِ؟

** منذ أن تم إغلاق المدرسة ونحن ننتظر عملية القبض على زوجي؛ بل إننا عجبنا من تأخرها؛ فقد كانوا يراقبونه بصفة مستمرة، وعندما كان يغادر المنزل كانت تتبعه سيارة أو درَّاجة بخارية، وحتى في حفل عقد زواج ابنتي الصغرى قبل أيام؛ تبعت زفة العروس درَّاجتان بخاريتان تابعتان للأمن، كما تم استدعا زوجي أكثر من مرة لمقر أمن الدولة وتم تهديده بالاعتقال؛ فكان ردّ زوجي أنه لا يهاب المعتقلات، وأنه لا يرتكب شيئًا خطأً يخاف منه، وقال لهم أنا لا أفعل شيئًا خطأً في المدرسة؛ فأنا أربي جيلاً مسلمًا.

 

وفي يوم الاعتقال استيقظنا على طرقٍ شديد وضربات رهيبة على باب المنزل حوالي الساعة الثانية وخمس وأربعين دقيقة فجرًا؛ فتوقَّعنا أن الطارق قوات الأمن، فتأخرنا في الفتح حتى ترتدي بناتي الحجاب؛ فاستمر الضابط في الطرق بشدة بقدمه على الباب حتى إنه كسر جزءًا من الباب، وعندما فتحنا له الباب أخذ في رفع صوته عاليًا، فقال له زوجي: لِمَ كل هذه الضوضاء؛ فأنت حضرت بصورة مفاجئة في منتصف الليل، وأنا تأخرت في الفتح حتى تتمكَّن البنات من ارتداء الحجاب.

 

ثم قام الضابط بعد ذلك، ومعه مجموعة كبيرة من الجنود، بالتفتيش، واستولوا على أسطوانات كمبيوتر وكتب وأوراق خاصة بزوجي، ثم اصطحبوه معهم، وغادروا المنزل، ومن وقتها لم أشاهده حتى الآن.

 

وفاء

* عندما قابلت أولياء أمور الطلاب بالمدرسة لاحظتُ تمسُّكهم الشديد بالمدرسة، بالرغم من كل ما حدث، وتجسَّد هذا التمسك عندما قابلت أسرة حمادة عبد اللطيف الذي أُصيب بشلل رباعي في الأحداث التي جرت أمام المدرسة يوم الأربعاء 24/9 الماضي.. من وجهة نظرك ما سبب كل هذا التمسك؟!

** سبب تمسك الأهالي بالمدرسة أنهم وجدوا في مدرستنا ما لم يجدوه في أي مدرسة أخرى.. وجدوا قيمًا ومبادئ وأخلاقًا، بالإضافة إلى التعليم الحقيقي؛ فأولادنا في مراحل التعليم المختلفة ونعلم جيدًا الفرق بين مدرسة "الجزيرة" وغيرها من المدارس؛ حتى إن بعض أولياء الأمور قالوا لزوجي قبل اعتقاله: نحن معك حتى لو ضاع العام الدراسي على أبنائنا.

 الصورة غير متاحة

طلاب مدرسة الجزيرة وأسرهم يعترضون على موقف الأمن

 

وأحب أن أضيف أن هذا الموقف متوقَّع جدًّا من قِبَل أولياء الأمور، ولم يكن مفاجئًا لي أو لزوجي؛ لأن المدرسة بالمبادئ التي كانت تعلمها للأطفال زرعت بذرةً طيبة تحصد ثمارها الآن.

 

* ما تعليقك على ما حدث؟

** أنا مذهولة مما حدث معه، ولا أصدق أن هذا حدث في وطننا، لست أعجب فقط مما حدث مع حمادة، ولكن من كل ما مر بنا وشهدناه!! فكيف يتم ضرب الناس وخلع حجاب زوجاتهم وبناتهم واعتقال الرجال والتنكيل بهم؟! ولم أصدق ما رُوي لي عما حدث مع حمادة وعن طريقة ضربه وخطف ابنته الصغرى من حضنه وإلقائها على الأرض، فما حدث لم أكن أتخيَّل يومًا أن يجري على أرض مصر.

 

* أين كان زوجك وقت وقوع أحداث 24/9 أمام المدرسة؟ وكيف تلقى الأخبار؟

** كان زوجي في القاهرة لحضور أحد المؤتمرات التي تنظمها لجنة الحريات بنقابة الصحفيين، وبلغه ما حدث عبر الهاتف، وكان في قمة الذهول والصدمة مما حدث، والغريب في الأمر أن المحامي قال لي اليوم إن زوجي وُضِعَ في نفس القضية مع حمادة عبد اللطيف وأولياء الأمور بالمدرسة، بالرغم من أنه لم يكن موجودًا في الإسكندرية كلها هذا اليوم!!.

 الصورة غير متاحة

 

وكانت صدمة زوجي الكبرى مما حدث مع حمادة عبد اللطيف، وبلغ قمة الحزن والتأثر بعدما زاره بالمستشفى وقال له: "أنا لو كنت أعلم أن كل هذا سيحدث معك ما كنت فتحت المدرسة"، فكان رد حمادة على زوجي رائعًا؛ حيث قال: "أنا رقبتي فداء للمدرسة".

 

* ما توقعاتك لمصير قضية المدرسة بعد كل هذه الأحداث؟

** إن كان في بلادنا بقية من حق وعدل فأنا متأكدة من أننا سنحصل على حقنا، فوق كل هذا فإن يقيني في الله كبيرٌ بأن زوجي سيعود سالمًا غانمًا، وسوف تعود المدرسة إلى العمل مرةً أخرى، كذلك فسوف ينتقم الله من الضابط الذي أصاب حمادة عبد اللطيف بالشلل.

 

* واجهت أسرتك الكثير من المصاعب بسبب هذه المدرسة واعتُقل زوجك فهل ما زلتِ متمسكةً بها؟

** بالتأكيد.. ما زلت متمسكةً بالمدرسة؛ لأني مؤمنة بأن الله يدافع عن الذين آمنوا، وزوجي صاحب رسالة ولا بد أن أقف بجواره حتى يوصل رسالته إلى متلقيها.

شاهد صور اغتيال براءة تلاميذ مدرسة الجزيرة بالإسكندرية