هو فريدٌ من نوعه؛ ومتميزٌ في شخصيته، وصلبٌ في عقيدته، وراسخٌ في يقينه بالله وإيمانه.

 

لا نتحدث عن شخص، بل نتحدث عن نتاج قلب تربَّى على كتابِ الله، ورسخت معانيه في قلبه، وبلغ اليقين فيه ذروته، وكأنه يرى وعد ربه رأي العين، نتحدث عن رجلٍ تربَّى على الجهاد، وتتلمذ على أطهر العلوم وأشرفها، العلم الشرعي، وبالأخص علمُ الحديث، فكان قلبه ووجدانه مُتصلاً برسول الله- صلى الله عليه وسلم- وكيف لا؟؟ وهو يحيا بين كلامه- صلى الله وسلم- ويعيش بين سيرته وأومره وإرشاداته؟!

 

بحقٍّ أمام ظاهرة جديرة بالوقوف أمامها؛ لأنها قليلة في الميدان، ونادرة في الساحة، وعزيزة في مجالها، أن ترى عالمًا أصوليًّا وصل إلى درجة الأُستاذية (بروفيسور) في تخصص الحديث، وعمره أربعين عامًا، وهو كذلك مُجاهد في الميدان، يُرابط مع المرابطين ويُجاهد مع المجاهدين، يقف على الثغور، ويصد الاجتياحات، فجمع بين التأصيل الشرعي للجهاد والمقاومة (التنظير للعمل) وبين العمل ذاته، الجهاد في سبيل الله، وما ذلك إلا علامة صدق وإخلاص قلبٍ آمن بالله ووعده.

 

إن مثل الدكتور نزار ريان يُعد من سلالة الفاروق عُمر بن الخطاب- رضي الله عنه-، إذ كان قويًّا في الحق، شُجاعًا ومقدامًا، وهو يتحدث تلمس من حديثه الصدق واليقين بنصر الله، يتحدث كأنه زئير أسد، كان كالجبل الشامخ.

 

هيئتك وصورتك في القلوب نزار، فأنت من الرجال الأعزاء القلائل في زمن بخست وقلت فيه بضاعة الرجال، ومثلك لا يُنسى.

 

أتذكر يوم أن كان- رحمه الله- في نقابة الأطباء المصرية بالقاهرة بدار الحكمة في مؤتمر أقامه اتحاد الأطباء العرب مُنذ ما يقرب من عامين، وتحدث رحمه الله عن الحصار، وكان حديثه يُجلجل في أنحاء القاعة بصوته الذي يمتلأ باليقين وهو يقول (لن نتنازل ولن نسلم ولن نُفرط في دماء شهدائنا، وأنا لن أُفرط في دماء ابني (إبراهيم) وأخي (أسعد) وعمي وجدي، لن نُفرط في دمائهم مهما حاصرونا)، ثُم بعد ذلك ذهبت إليه وكان جالسًا في المقعد الأمامي هو وابنته (طفلته الصغيرة) فسلمت عليه وقبلت يده ورأسه، وكان معي أحد الإخوة فداعب طفلته الصغيرة وسلم عليها.

 

تلك الطفلة الصغيرة التي تهشمت جمجمتها وتكسرت عظامها نتيجة طن المتفجرات التي دكت به طائرات الصهاينة بيتها، فارتقت إلى الله تعالى مع أبيها- العالم الرباني الجليل المجاهد- نزار ريان، ومع أُمها وإخوتها وجميع العائلة بكل مَن فيها، ليرتقوا إلى الله ربِّ العالمين نحو العُلا في جنان الخلود مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين.

 

إنك بحقٍّ مدرسة يا أُستاذنا، مدرسة تأسست على النهج النبوي المُحمدي، تفعل ما تقول؛ وتطبق ما تتحدث به، لم تكن يومًا من علماء السطان كُنت عالمًا حُرًّا أبيًّا مُجاهدًا، وليس حديثي هذا من ضرب الرثاء، فإن التاريخ سجل لك المفاخر، وكتابك بإذن الله زاخر.

 

إنك علَّمت الأُمة بأسرها كيف يكون حُب الله تعالى وحب رسوله في القلوب، كيف يكون حُب الله في الأنفس أغلى من أي شيء وكُل شيء حتى الأبناء والأولاد وفلذة الأكباد، علَّمت الأمة درس التضحية في سبيل الله وفي سبيل الحق والجهاد، حينما ودعت ابنك وفلذة كبدك إبراهيم للقيام بعمليةٍ استشهادية، وأنت تعلم أنه لن يعود إليك وستراه مُكفنًا بعد ذلك في ثيابه، ومع ذلك ودعته ليقوم بواجبه الذي أوجبه الله عليه.

 

ما زالت كلماتك تتردد في أذهان الأُمة ومسامعها وأنت في محراب الجهاد الذي انتقلت إليه من محراب العلم، وأنت ترتدي بدلتك القتالية، وتقول: (لن يدخلوا معسكرنا يعني لن يدخلوا معسكرنا، لقد تركنا زوجاتنا وأولادنا وأهلينا ووقفنا هُنا لنُجاهد العدو ونقهره)، وبين الحين والحين كُنت تظهر مع المُجاهدين (رجال الله في الميدان) تُشاركهم الجهاد وتتقدم الصفوف، وكُنت تقول: (أتقدمكم في صفوف الصلاة، فعلي أن أكون معكم في صفوف الجهاد)، ومثلك دومًا في المقدمة.

 

إنك يا أُستاذنا، من العلماء الربانيين، من أحفاد العز بن عبد السلام، إنك سُلطان من سلاطين علماء القرن الحادي والعشرين، فإن كان العز بن عبد السلام ينزل وسط جيوش المسلمين يُحرضهم على القتال والجهاد ويُذكرهم بآيات الله، فأنت في القرن الحادي والعشرين مثله تمامًا تُجدد البطولات وتُعيد المفاخر، وتُجاهد في ميداني العلم والجهاد (المقاومة)، وترفض أن تترك بيتك، وتظل مُقاومًا ومُرابطًا في بيتك مع أهل مُخيمك لتكونوا دروعًا بشرية حفاظًا على أرض الرباط، الأرض المقدسة.

 

إن رحيلك يا أستاذنا فاجعة أصابت قلوبنا، وهزت مشاعرنا، وأوجد جُرحًا ليس باليسير بداخلنا، ولكن مثلك يا أُستاذ وبروفيسور الشهادة يستحقها، شهادة خالصة بإذن الله.

 

مثلك يتحقق فيهم قول الله: ﴿مِنْ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً (23)﴾ (الأحزاب)، ومثلك ممن يتحقق فيهم قول الله: ﴿وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ (207)﴾ (البقرة).

 

إنك قد بعت لله نفسك وروحك، ومضيت على الطريق مُجاهدًا في ميداني العلم والمقاومة ونلت الأُستاذية في كليهما، وبعت لله نفسك لله فيهما، فصدق عليك قول الله جل وعلا: ﴿إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنْ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمْ الْجَنَّةَ﴾ (التوبة: من الآية 111).

 

لقد نلت العديد من الشهادات والأوسمة وأعلى الدرجات العلمية في حياتك، وأراد الله عز وجل يا دكتور أن يختم لك حياتك بأغلى الأوسمة وأرفع الشهادات وأسمى الدرجات، بالشهادة في سبيله، لتلتقي مع شيخك الياسين، وإخوانك من سلاطين العلماء، وبإذن الله سينتظرك على أبواب الجنان، أبو حنيفة وابن حنبل وابن تيمية، وقبلهم بإذن الله من كُنت تُدرس كلامه الذي هو (وحي من الله) وسيرته للطلاب وللناس، مُحمد رسول الله.

 

سيدي.. إن مقولة ابن تيمية تنطبق عليك وتتحقق فيك، ابن تيمية قال: (إن قتلوني فقتلي شهادة، وإن سجنوني فسجني خلوة، وإن نفوني فنفيي سياحة)، فلقد سجنك الظالمون، فصبرت، ورحلت سائحًا في أرض الله طالبًا للعلم، (من السعودية، إلى الأردن، إلى السودان).

 

ستظل درسًا محفورًا في ذاكرة العُلماء وقلوبهم ومثالاً وقدوةً لطلبة العلم ورواده ومُريديه، ألا فائدة للعلم إن لم يُستخدم ويُرشد للعمل، في وقت يتخاذل فيه المتخاذلون ويصمت الصامتون، تنطلق دماؤك صارخة في وجوههم، أن العمل واجب العلم، وأن العلماء واجب عليهم أن يكونوا في الميدان، وفي مقدمة الصفوف، متوسمين بوسام الحق، مستعدين دومًا لدفع ضريبة الإصلاح والبناء.

 

سلامٌ عليك يا صاحب القلب النقي، والإيمان القوي، والهمة العالية.. سلامٌ عليك وروحك في جنان الخُلد مُحلقة في حواصل طُيورٍ خُضر في أنحاء الجنان، فاللهم تقبله من الشهداء وأسكنه في أعالي الفراديس.