شهداء الحق اليوم كثير؛ لأنهم جند نزال ورجال صراع يواجهون الباطل ليقهروه، ويجاهدون الضلالَ ليدحروه؛ ولذلك يظلون أحياء في واقع الحياة لهم قانون فيها يخالف الآخرين، ومكانة تسمو عليهم، قال تعالى: ﴿وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ (169) فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمْ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلاَّ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (170)﴾ (آل عمران).

 

وحياتهم في الدنيا حياة كريمة ترخص فيها الأرواح والتضحيات، ولهذا تكتب الأمم والشعوب لهم المجد والخلود على صفحات التاريخ، ويظل ذكرهم بين الناس أبد الآبدين بالفخار والمجد والعرفان، ولهم في الآخرة حياةٌ عند ربهم مليئة بالجلال والثواب؛ لأنهم عاشوا للكرامة والطهارة وناصروا المبادئ والأهداف العظيمة، وعاشوا لها وقاتلوا في سبيلها، واستشهدوا دفاعًا عنها، سواء سادت هذه المبادئ في حياتهم أو بعد مماتهم: ﴿فَلْيُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللهِ الَّذِينَ يَشْرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالآخِرَةِ وَمَنْ يُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللهِ فَيُقْتَلْ أَوْ يَغْلِبْ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا (74)﴾ (النساء).

 

هكذا عاش أهل الإيمان أبرارًا، ويحيون إما كرامًا وإما جهادًا، أما القعود والهروب أمام الباطل فلا يعرفه المؤمن الذي ارتضى الإسلام دينًا بعكس المتخاذل والمتعلل بالأكاذيب والمتبع للأهواء، وتارك العنان لاختراع التعلات، فهو في فسوقٍ وضلال، وينبغي أن يتخلَّص منه الصف المسلم؛ لأن القلبَ البشري حين يصل إلى حدٍّ معينٍ من الفساد لا يصلح أن يعول عليه، والضلال حين ينتهي إلى أمدٍ معينٍ لا يُرجى بعده اهتداء، وتنقلب النفوس إلى العكس تمامًا ليفرحوا بمكرهم وأهوائهم.. ﴿فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلافَ رَسُولِ اللهِ وَكَرِهُوا أَنْ يُجَاهِدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللهِ وَقَالُوا لا تَنفِرُوا فِي الْحَرِّ قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا لَوْ كَانُوا يَفْقَهُونَ (81) فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلاً وَلْيَبْكُوا كَثِيرًا جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (82) فَإِنْ رَجَعَكَ اللهُ إِلَى طَائِفَةٍ مِنْهُمْ فَاسْتَأْذَنُوكَ لِلْخُرُوجِ فَقُلْ لَنْ تَخْرُجُوا مَعِي أَبَدًا وَلَنْ تُقَاتِلُوا مَعِي عَدُوًّا إِنَّكُمْ رَضِيتُمْ بِالْقُعُودِ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَاقْعُدُوا مَعَ الْخَالِفِينَ (83) وَلا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا وَلا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَمَاتُوا وَهُمْ فَاسِقُونَ (84) وَلا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَأَوْلادُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللهُ أَنْ يُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ (85)﴾ (التوبة).

 

هؤلاء المخلفون الذين فرحوا بالسلامة والراحة ﴿خِلافَ رَسُولِ اللهِ﴾، وتركوا المجاهدين يلاقون الحرَّ والجهد، وحسبوا أن السلام غاية يحرص عليها الرجال، هؤلاء هم نموذج لضعف الهمة وطراوة الإرادة، وكثيرون هم الذين يُشفقون من المتاعب وينفرون من الجهد، ويؤثرون الراحة الرخيصة على الكدح الكريم، ويُفضلون السلامةَ الذليلةَ على الخطر العزيز، وهم يتساقطون إعياءً خلف الصفوف الجادة الزاحفة العارفة بتكاليف الدعوات، فيتقاصرون عن منازل الشهداء الأبرار.

 

إذا المجد لم يترك وراءك صيحة

                           مدوية، فالمجد وهمُ كاذبِ

يخوض السهام العبقري بعزمه

                          ظلام الفيافي ظلام الغياهبِ

وكم بطلٍ في الأرض غاب وذكره

                          يُحلِّق في الأفق ليس بغائبِ

وكم يتحرق الأبطال للنزال، ويندمون إذا فاتتهم جولة من جولاته وموقعة من مواقعه.

وكم يحكي لنا تاريخنا الناصع نفحاتٍ من رجالنا العظام على مرِّ التاريخ الذي سيظل يُعلِّم أجيالنا وشبابنا الإباء والشمم.

 

وعن أنس- رضي الله عنه- قال: غاب عمي أنس بن النضر عن قتال بدر فقال: "يا رسول الله غبتُ عن أول قتالٍ قاتلتَ المشركين، لئن الله أشهدني قتال المشركين ليرين الله ما أصنع"، فلما كان يوم أحد وانكشف المسلمون قال: "اللهم أني أعتذر إليكَ مما صنع هؤلاء، وأبرأ إليك مما صنع هؤلاء- يعني المشركين-، ثم تقدَّم فاستقبله سعد بن معاذ فقال يا سعد بن معاذ الجنةَ ورب النضر، إني أجد ريحها دون أحد، قال سعد: "فما استطعت يا رسول الله ما صنع".

 

قال أنس: فوجدنا به بضعًا وثمانين ضربةً بالسيف أو طعنةً بالرمح أو رميةً بسهم، ووجدناه قد قُتل وقد مثَّل به المشركون، فما عرفه أحدٌ إلا أخته ببنانه، قال أنس: "كنا نرى أو نظن أن هذه الآية نزلت فيه وفي أشباهه ﴿مِنْ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً (23)﴾ (الأحزاب) (رواه البخاري).

 

وكم يرثى كل مخلصٍ لكثيرٍ من أممنا بل وزعمائنا المتخاذلين الذين يصانعون العدو ويدلونه على عوراتِ المسلمين، ويخذلون إخوانهم، ولهذا يجد المجاهد نفسه في بحرٍ لُجي من العمالات والخيانات الفجَّة التي يعيش في جنباتها مثل اليتيم.

 

شهيد الحق قم تره يتيمًا

                    بأرض ضُيِّعت فيها اليتاما

أقام على الشفاء بها غريبًا

                 ومرِّ على القلوب فما أقاما

سقمت فلم تبتْ نفسٌ بخير

                 كان بمهجة الوطن السقاما

ولكن لأن الخيرَ لا ينقطع في الأمةِ وجدنا رجالاً في فلسطين نصبوا للبطولاتِ ميادين أقاموا لها رايات، وعاد شهداء الحقِّ إلى الميدان يرفرفون بأجنحةِ الملائكة في سماءِ الأمة، ويلوحون بأوسمةِ البطولة.

 

نعم عاد شهداء الحقِّ إلى رحاب غزة يحملون الأملَ ويعيدون للأمةِ عبق النصر المؤزر بعد يُتمٍ طال وهوانٍ ساد وضياعٍ امتدَّ زمنًا طويلاً، وظن الناس أن الليلَ ليس له نهار فإذا بالفجر يبزغ من جديدٍ والإصباح يشقُّ العتمةَ ويطل الأبطالَ على الجيل الصاعد الذي يحمل الأمانة وهو يردد:

 

طلع البدر علينا من ثنيات الوداع

                 وجب الشكر علينا ما دعا لله داع

فتهدف الجموع المؤمنة ﴿وَقَالُوا الْحَمْدُ للهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ (34)﴾ (فاطر)، ﴿وَقَالُوا الْحَمْدُ للهِ الَّذِي صَدَقَنَا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنْ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشَاءُ فَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ (74)﴾ (الزمر).

 

يظل المؤمن يحمد ربَّه في السراءِ والضراءِ، ويحمد ربَّه إن أصابه عسر أو ضر، ولئن كانت الحرب اليوم في غزة قد أوقعت الكثير من الشهداء، وهي وإن كانت مؤلمة وصعبة، إلا أن الله قد حباهم بالشهادة، ورزقهم رضوانه، وجعل لهم حياةً في الجنة تحت رضوانه.

 

عن ابن عباس- رضي الله عنهما- قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لما أُصيب إخوانكم بأحد جعل الله أرواحهم في جوف طيرٍ خُضر ترد أنهار الجنة وتأكل من ثمارها وتأوي إلى قناديل من ذهبٍ في ظلِّ العرش، فلما وجدوا طيب مشربهم ومأكلهم وحسن مقيلهم قالوا يا ليت إخواننا يعلمون ما صنع الله بنا لئلا يزهدوا في الجهاد، ولا ينكلوا عن الحرب"، فقال الله عز وجل: أنا أُبلغهم عنكم"، فأنزل الله على رسوله- صلى الله عليه وسلم- ﴿وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ﴾ (آل عمران).

 

فهنيئًا لمَن نال الشهادة في ساحةِ الجهاد والشرف والكرامة، هنيئًا، ونسأل الله النصر للمجاهدين.. آمين.