ظلَّ العمل الإسلامي يعاني من تجزئته وانتقاصه وغموضه ومن ثَمَّ كانت المعاناة والآلام؛ حيث كان العمل الإسلامي في حاجةٍ إلى مَن يُجلِّيه ويُحدد معالمه ويرسم طريقه لينتظم فيه تيار الصلاح المتدفق الباحث عن هويته، الراغب في نصرة دينه.

 

وظلَّ العمل الإسلامي مفتقرًا إلى مَن يُحدد الأهداف العليا التي ينبغي على المسلمين أن يعملوا من أجلها، ويُحدد مراحل العمل الإسلامي لتحقيق هذه الأهداف العليا، ويُخط بعمله وجهاده وبذله وعطائه سبيل الوصول للهدف المأمول.

 

نعم كان على الساحة الإسلامية جماعات وطرق, وأفكار وتصورات للعمل الإسلامي ورايات تُرفع بين الحين والآخر، تعلو أحيانًا وتخفت أخرى, كثير منها يفتقر إلى الظهير الشعبي الجماهيري، فهي أفكار ومحاولات في إطار النخبة والصفوة، لا تتجه إلى العامة ولا تتشابك مع الواقع الإسلامي، محصورة في ديوانات وأندية فكرية قليلة العددو محدودة التأثير، لا يكاد يسمع لها صوت أو يرى لها فعل أو رد فعل حتى شاء الله تعالى لأمة الإسلام أن يبعث فيها مَن يجدد لها أمر دينها ويُزيل عنها تراكمات الغفلة والانحرافات والانتكاسات.

 

شاء الله تعالى لأمة الإسلام أن تنهض من كبوتها وتصحو من غفوتها وتقوم من عثرتها وتستعيد وعيها وتدبُّ فيها رُوح العمل والنشاط لنصرةِ دين الله والتمكين له من جديد حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله رب العالمين.. شاء الله تعالى أن يبث في الأمة روحًا جديدة.

 

 الصورة غير متاحة

 الإمام الشهيد حسن البنا

فكان حسن البنا واضع نظريات العمل الإسلامي المتكامل الشامل في العصر الحديث، وكانت عبقرية البناء والتأسيس من أجل نهضة الأمة والتمكين للدين ورفع شأنه وجمع الأمة تحت رايته وتحويل العمل للإسلام من ميدان القول إلى ميدان العمل وتقديم التجارب الناجحة والنماذج العملية التي تؤكد جدارة المشروع الإسلامي الحضاري، وصدق رسول الله- صلى الله عليه وسلم- حين قال: "إنَّ الله يبعثُ لهذه الأمةِ على رأسِ كلِّ مائةِ سنة مَن يُجدد لها دينَها" (رواه أبو داود والحاكم والبيهقي).

 

وإذا كان الإمام البنا- رحمه الله- باعث النهضة الإسلامية في العصر الحالي، وتحقق على يديه المباركة يقظة الأمة من سُباتها ونهضتها من غفوتها ونهوضها من كبوتها فهو كذلك واضع نظرية العمل الإسلامي.

 

"حدد الإمام البنا الأهداف التي يفترض على كلِّ مسلمٍ أن يعمل من أجلها، وبين مضامينها، وهي ليست أهدافًا مخترعة، ولكنها أهداف مستقرأة، وحدد معالم الشخصية الإسلامية من خلال أركان البيعة والواجبات التي تحتاجها الحركة لتحقيق الأهداف على ضوء المراحل.

 

وحدد الأصول التي تضبط الفهم وتضبط العلاقات، وتضبط السير فلا غلو ولا تفريط ولا اندفاع وراء السراب ولا تعطيل للسنن، وكل ذلك ضمن فقرتي رسالة التعاليم أركان البيعة وواجبات الأخ المجاهد" (سعيد حوي- في آفاق التعاليم ص5 و6 وما بعدهما).

 

وبفضل الله تعالى ورحمته أصبح للأمة الإسلامية برنامجٌ متكاملٌ للعمل الإسلامي، وفكرٌ متكاملٌ قابلٌ للتطبيق، يحدد بداية السير ونهاية الشوط ويُشكِّل المرجعية العملية للعاملين في الدعوة الإسلامية سواء في مجال الفكر أو الحركة، سواء في مجال التنظير أو التطبيق، سواء في مجال المثال أو الواقع.

 

وسأكتفي هنا بعرض نموذجين من فرائد وجواهر نظريات العمل الإسلامي للإمام البنا، يكشفان بوضوحٍ جانب العبقرية والتوفيق في حياةِ الإمام الشهيد.

 

أما النموذج الأول فهو من المقالات العامة التي اعتاد الإمام البنا- رحمه الله- أن يُسطِّرها في رسائله أو يتحدث بها في خطبه، وهي تجيب على سؤالٍ ضخمٍ جاشت به صدور الآلاف من الغيورين على الدين، الذين انتصبوا معبرين عن رجولتهم الكاملة، راغبين في العمل لنصرة الإسلام والتمكين له في الأرض.. لقد استجابوا لنداء الحق والتفوا حول الإمام وسألوا مَن أين نبدأ؟ فأجاب الإمام البنا- رحمه الله تعالى- في رسالة "إلى أي شيء ندعو الناس؟" فقال: "إن تكوين الأمم وتربية الشعوب وتحقيق الآمال ومناصرة المبادئ تحتاج من الأمة التي تحاول هذا أو من الفئة التي تدعو إليه على الأقل إلى قوةٍ نفسيةٍ عظيمة تتمثل في عدة أمور:

- إرادة قوية لا يتطرق إليها ضعف.

- ووفاء ثابت لا يعدو عليه تلون ولا غدر.

- وتضحية عزيزة لا يحول دونها طمع ولا بخل.

- ومعرفة بالمبدأ وإيمان به وتقديرٌ له يعصم من الخطأ فيه والانحراف عنه والمساومة عليه والخديعة بغيره.

 

على هذه الأركان الأولية التي هي من خصوص النفوس وحدها، وعلى هذه القوة الروحية الهائلة تُبنى المبادئ وتتربى الأمم الناهضة وتتكون الشعوب الفتية وتتجدد الحياة فيمن حُرموا الحياة زمنًا طويلاً.

 

وكل شعبٍ فَقَدَ هذه الصفات الأربع أو على الأقل فقدها قواده ودعاة الإصلاح فيه فهو شعب عابث مسكين لا يصل إلى خير ولا يحقق أملاً، وحسبه أن يعيش في جوٍّ من الأحلام والظنون والأوهام، ﴿إِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنْ الْحَقِّ شَيْئًا﴾ (يونس: من الآية 36)، هذا هو قانون الله تبارك وتعالى وسنته في خلقه ولن تجد لسنة الله تبديلاً، ﴿إِنَّ اللهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ﴾ (الرعد: من الآية 11).

 

وهو أيضًا القانون الذي عبَّر عنه النبي- صلى الله عليه وسلم- في الحديث الشريف الذي رواه أبو داود: "يوشك الأمم أن تتداعي عليكم كما تتداعي الأكلة إلى قصعتها، فقال قائلٌ: ومن قلة نحن يومئذ؟ قال: بل أنتم يومئذ كثير، ولكنكم غثاء كغثاء السيل، ولينزعن الله من صدور عدوكم المهابة منكم، وليقذفن في قلوبكم الوهن..فقال قائلٌ: يا رسول الله، وما الوهن؟ قال: حب الدنيا وكراهية الموت" (مجموعة الرسائل صــ54).

 

أما النموذج الثاني فهو بيانٌ شافي وإيضاح كافي لمسيرة العمل الإسلامي المعاصر، بدءًا من تكوين الفرد المسلم ذي الشخصية الإسلامية المتكاملة، وانتهاءً بأستاذية العالم وريادة الكون.

 

وقد عالج الإمام البنا- رحمه الله- هذا الموضوع كثيرًا، فمرة يعرض لها على سبيل الإجمال فيقول: "والخلاصة نحن نريد الفرد المسلم والبيت المسلم والحكومة المسلمة...".

 

ومرةً أخرى يذكر "أن غاية الإخوان تنحصر في تكوين جيل جديد من المؤمنين بتعاليم الإسلام الصحيح يعمل على صبغ الأمة بالصبغة الإسلامية الكاملة في كل مظاهر حياتها" (مجموعة الرسائل صـ 188 المؤتمر الخامس).

 

ويُفصِّل الإمام البنا ذلك كله في رسالة التعاليم حين يذكر ركن العمل فيرسم الخطوات ويحدد المعالم ويوضح الواجبات بأسلوبه الذي امتاز به وهو السهل الممتنع الذي يسهل علي الجميع فهمه واستيعابه دون حاجةٍ إلى شرح معانٍ غامضة أو كلمات مبهمة.

 

يقول الإمام الشهيد وأريد بالعمل: ثمرة العلم والإخلاص ﴿وَقُلْ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ (105)﴾ (التوبة).

 

ومراتب العمل المطلوبة من الأخ الصادق:

1) إصلاح نفسه حتى يكون: قوي الجسم، متين الخلق، مثقف الفكر، قادرًا على الكسب، سليم العقيدة، صحيح العبادة، مجاهدًا لنفسه، حريصًا على وقته، منظمًا في شئونه، نافعًا لغيره؛ وذلك واجب كل أخ على حدته.

 

2) وتكوين بيت مسلم، بأن يحمل أهله على احترام فكرته، والمحافظة على آداب الإسلام في مظاهر الحياة المنزلية وحسن اختيار الزوجة، وتوقيفها على حقها وواجبها، وحسن تربية الأولاد والخدم وتنشئتهم على مبادئ الإسلام؛ وذلك واجب كل أخ على حدته كذلك.

 

3) وإرشاد المجتمع، بنشر دعوة الخير فيه، ومحاربة الرذائل والمنكرات، وتشجيع الفضائل والأمر بالمعروف والمبادرة إلى فعل الخير وكسب الرأي العام إلى جانب الفكرة الإسلامية وصبغ مظاهر الحياة العامة بها دائمًا؛ وذلك واجب كل أخ على حدته، وواجب الجماعة كهيئة عاملة.

 

4) وتحرير الوطن بتخليصه من كل سلطان أجنبي- غير إسلامي- سياسي أو اقتصادي أو روحي.

 

5) وإصلاح الحكومة حتى تكون إسلامية بحق؛ وبذلك تؤدي مهمتها كخادم وأجير عندها وعامل على مصلحتها والحكومة الإسلامية ما كان أعضاؤها مسلمين مؤدين لفرائض الإسلام غير متجاهرين بعصيان، وكانت منفذة لأحكام الإسلام وتعاليمه.

 

ولا بأسَ بأن نستعين بغير المسلمين عند الضرورة في غير مناصب الولاية العامة ولا عبرة بالشكل الذي تتخذخ ولا بالنوع، ما دام موافقًا للقواعد العامة في نظام الحكم الإسلامي.

 

ومن صفاتها: الشعور بالتبعة، والشفقة على الرعية، والعدالة بين الناس، والعفة عن المال العام والاقتصاد فيه.

 

ومن واجباتها: صيانة الأمن، وإنفاذ القانون، ونشر التعليم، وإعداد القوة وحفظ الصحة، ورعاية المنافع العامة، وتنمية الثروة وحراسة المال، وتقوية الأخلاق، ونشر الدعوة.

 

ومن حقها- متى أدَّت واجبها- الولاء والطاعة، والمساعدة بالنفس والأموال.

فإذا قصرت، فالنصح والإرشاد، ثم الخلع والإبعاد، ولا طاعةَ لمخلوق في معصية الخالق.

6) وإعادة الكيان الدولي للأمة الإسلامية، بتحرير أوطانها وإحياء مجدها وتقريب ثقافتها وجمع كلمتها، حتى يؤدي ذلك كله إلى إعادة الخلافة المفقودة والوحدة المنشودة.

 

7) وأستاذية العالم بنشر دعوة الإسلام في ربوعه ﴿حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله﴾ ، ﴿ويأبى الله إلا أن يتم نوره﴾.

 

وهذه المراتب الأربعة الأخيرة تجب على الجماعة متحدة، وعلى كل أخٍ باعتباره عضوًا في الجماعة، وما أثقلها تبعات وما أعظمها مهمات، يراها الناس خيالاً ويراها الأخ المسلم حقيقةً، ولن نيأس أبدًا، ولنا في الله أعظم الأمل ﴿وَاللهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ﴾ (يوسف: من الآية 21).

 

ومضت سنوات وعقود وتحوَّلت هذه القواعد والمبادئ العامة والواجبات العملية إلى واقعٍ حقيقي يعيش به وله ملايين المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها وأصبح تهتف بها جماهير الأمة العربية والإسلامية وهي توقن أنها المستقبل والحل والمنعة.

 

مات الإمام البنا شهيدًا وبقيت دعوته حياةً في وجدان الأمة وضميرها، قوية متجذرة في القلوب وأعماق النفوس، تُبذل من أجل نصرتها الأرواح والمهج، ويُضحي في سبيلها بالغالي والنفيس.

-------------------

* عضو الكتلة البرلمانية للإخوان المسلمين بمجلس الشعب