ستون عامًا مضت على استشهاده، ولا زالت قضية فلسطين تشغل الجانب الأكبر من فكر أبنائه وتلاميذه، بل إن رواد المقاومة التي أثبتت أن صمودها وثباتها أمام العالم أجمع لم يكن إلا وليد عقيدتها وفكرتها التي استمدت من انتمائها واعتناقها لفكر الشهيد حسن البنا.

 

لقد كانت الأحداث الجسام التي واكبت السنين الأخيرة من العقد الرابع والخامس في القرن الماضي شاهدًا على تلك الملحمة التي وإن تناستها كتب التاريخ المزيف إلا أنها ثابتة في سجلات التاريخ الإنساني بأحرفٍ من نور وبجلاءٍ لا يمحوه الزيف.

 

لقد كان للشهيد البنا دوره في إحياء فريضة الجهاد عملاً وقولاً.. فما أن نادى مناديه عام 36، 48 حتى قام يشحذ الهمم ويُذكِّر بالواجب، وبحث في أمهات الكتب ليستخرج فضل الجهاد وقيمة الشهادة ليقدمها لأبنائه ليكونوا وقودًا لمعركة الشرف والكرامة.

 

ولا زلت أذكرها واقعًا لا يغيب عني رغم مرور السنين؛ حيث كنت في بلدي سوهاج عام 48 وذهبت لصلاة الجمعة في أكبر مساجدها.. لأرى (مندهشًا) خطيب المسجد الأخ أنور محروس- رحمه الله- يعتلي المنبر مرتديًا لباسه العسكري، وتحدث عن فضل الجهاد وعلو منزلة الشهيد فأفاض وشد الحضور بأسلوب عميق المعنى جزل اللفظ، وما أن انتهت الصلاة إلا والتفَّ الناس حوله يكبرون ويهللون (الله أكبر ولله الحمد)، وإذا بالتبرعات العينة والنقدية تُقدَّم إليه في تجردٍ ورغبةٍ صادقةٍ للمساهمة في الجهاد.

 

ونزل صاحبنا عن المنبر ليستعرض المتطوعين.. الذين نطقت وجوههم بحب الجهاد والرغبة في الشهادة (بعضهم باع بيته وآخر باع جاموسته ليشارك في الجهاد).. يا له من مشهدٍ محفور في الذاكرة رغم مرور السنين.

 

ولم تمض أيام إلا وأستاذنا مدرس التربية الرياضية صاحب الرجولة والفتوة والنقاء.. (المرحوم صلاح البنا) يُعلن سفره للمشاركة في حرب فلسطين وحملناه على الأكتاف مودعين إلى محطة القطار، وهناك دوَّى الهتاف الحبيب (الله أكبر ولله الحمد)، وعرفنا عندئذٍ أنه من الإخوان المسلمين.

 

حدثتني نفسي أن أكون مع هذا الركب الأمين وحال دون ذلك أني كنتُ في الثالثة عشرة من عمري، ولكن كانت هذه هي بوابتي إلى جماعة الإخوان، ومدخلي إلى هذه الفئة المجاهدة حتى يومنا هذا.

 

ونذكر هنا ويذكر التاريخ أن الإخوان في فلسطين أدوا دورهم وأبلوا بلاءً شهد له قواد الجيش في فلسطين "اللواء صادق واللواء المواوي وغيرهما)، ويكفي أن نقول إن الإخوان في تقدمهم كانوا على بُعد أميالٍ من تل أبيب.. ويا للأسف.. كالعادة خذلتهم أمتنا العربية.. ولما حوصرت قوات الجيش في الفالوجا.. كان لأخينا الكريم رحمة الله عليه الفارس الصاغ معروف الحضري الفضلُ في كسر الحصار وتوصيل المدد إلى الجيش (كان أحد أفراده جمال عبد الناصر)، ويكفي في هذا شهادة قائد القوات المحاصرة (الضبع الأسود سيد طه).

 

وهنا أحسَّ أعداءُ الإسلام أن هذه الجماعة تُمثِّل الخطر الأعظم على مصالحها في المنطقة، وأن الصحوة الإسلامية التي تقودها الجماعة سوف تُدمِّر مخططاتها الاستعمارية.

 

فدُبِّرت المؤامرة، وحيكت خيوطها بليلٍ، واجتمع سفراء أقطاب الشر إنجلترا وفرنسا وأمريكا في فايد وباتفاق وتخطيط مع رئيس وزراء مصر حينئذ (محمود فهمي النقراشي) تم الاتفاق على حلِّ الجماعة ومصادرة أموالها (تصورا بذلك أنهم سيقضون عليها).

 

وعاد المتطوعون من الإخوان من فلسطين إلى معتقل الطور، وكللت مساعي المتآمرين باغتيال الشهيد حسن البنا في 11/2/1949م، وفاضت روحه إلى بارئها تشكو ظلم الظالمين.

 

لم يكن يدري هؤلاء الشياطين أن دعوة الله باقية، وأن الحق لا بد منتصر، وأن أبناء حسن البنا الذين ربَّاهم على قيم الجهاد في سبيل الله سوف يرفعون الراية من بعده مهما صادفهم من عقبات ومهما حيكت لهم المؤامرات، بل هذا يزيدهم إيمانًا بدعوتهم وتوكلهم على ربهم.. ﴿الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُواْ حَسْبُنَا اللّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ (173)﴾ (آل عمران).

 

وها هي صفحات التاريخ تتوالى، ويدور الزمن دورته، وتتكالب قوى الشر على أبناء فلسطين البواسل، ويُحال بينهم وبين أدنى متطلبات الحياة.. ويخرج من بين ظهرانيهم الشهيد أحمد ياسين وعبد العزيز الرنتيسي (تلاميذ حسن البنا)، ويسلموا الراية لإسماعيل هنية وإخوانه من الفصائل المقاومة.. وتعلو كلمة الله، ويتحقق بهم الثبات والصمود والنصر.. وتتحقق معهم الآمال.

 

ونعود لنذكر شهيدنا العظيم حسن البنا.. فلا نملك له إلا الاعتراف بالفضل والدعاء الخالص أن يُلحقنا به في الشهداء أو الصالحين، وحسن أولئك رفيقًا.

------------

* عضو مكتب الإرشاد