رحمك الله يا دكتور توفيق رحمةً واسعةً، وأسكنك فسيح الجنات، وغفر لنا تقصيرنا في حقوقك.

 

لقد أقعده المرض سنوات طوال قاربت العشر، وكان آخر أشقائه رحيلاً عن هذه الدنيا الفانية، ولم يترك إلا د. كريمة، ولكنه ترك تراثاً هائلاً من الجهاد والعلم والخير؛ الذي نسأل الله تعالى أن يجعله في ميزان حسناته، وأن يؤنس به وحشته في قبره، وأن يخفِّف عنه بذلك العمل الصالح الحسابَ، ويثقِّلَ له به الميزان.. إنه حسيبه وهو الذي يتقبَّل عباده الصالحين.

 

رحل الدكتور توفيق الشاوي عن عمر فوق التسعين عامًا؛ حيث وُلد عام 1918م، ولم يعرف خلاله الكسل ولا القعود، وتعرَّض فيه لآلام المرض، وقسوة الغربة، وجحود الوطن، وشدة التعذيب في غياهب السجون.

 

كان الشاوي أستاذًا في القانون الجنائي بجامعة القاهرة، وعضوًا بالهيئة التأسيسية للإخوان المسلمين، ومسئولاً عن الاتصالات الخارجية بشمال إفريقيا عندما أُلقي القبض عليه في محنة 1954م، وتعرَّض لتعذيب شديد.. يقول إخوانه الذين عاصروا تلك الفترة إنه تحوَّل إلى كتلة من اللحم والدم المختلطة؛ نتيجة التعذيب الشديد أثناء التحقيقات وفي فترات المعيشة العادية في العنابر؛ بسبب أنه متميز و"دكتور" في القانون!!.

 

 الصورة غير متاحة

 د. عصام العريان

خرج الشاوي من السجن بطلب شخصي من الزعيم الجزائري الشاب "أحمد بن بيللا"؛ ليكون عونًا لجبهة التحرير الجزائرية في جهادها لتحرير الجزائر؛ ولذلك قصة حكاها لي د. سيد دسوقي؛ حيث طلب حسن البنا من الشاوي تغيير مكان البعثة العلمية من أمريكا إلى فرنسا ليكون قريبًا من الطلاب المغاربة والجزائريين، ويرعاهم ويوجِّهَهم في جهادهم.

 

توجَّه الشاوي إلى المغرب ليدرِّس في جامعاتها، ويشارك قيادة الجبهة في رسم سياستها، وبعد الاستقلال رحل إلى الجزائر مع المنتصرين، وكان معهم حتى تم اغتيال محمد خيضر، ودبَّ الخلاف، فرحل بدعوة من د. أحمد زكي يماني إلى السعودية؛ ليصبح مستشارًا لوزارة البترول، ويؤسس- مع الأمير محمد الفيصل- سلسلة مدارس المنارات.

 

لم ينسَ الدكتور تخصصه، فألَّف في الفقه الجنائي، وقرَّر في نهاية حياته أن يشرح كتاب الشهيد عبد القادر عودة "التشريع الجنائي في الإسلام" ولكن لم يسعفه المرض.

 

ورحل الدكتور توفيق وهو لم يكمل إلا جزءًا أو جزءين من الموسوعة، وكان يتمني أن يكملها، ولعل تلاميذه الأوفياء يقومون بهذه المهمة حتى تستقر روحه التي لم تهدأ طوال تسعين سنةً إلا في سنوات المرض الطويل.

 

رحل الدكتور توفيق الشاوي عن دنيانا الفانية يوم الأربعاء 8/4، وكانت زياراتنا له في بيته بالمعادي قد تباعدت نظرًا لتقصيرنا ومشاغلنا، إلا فضيلة المرشد محمد مهدي عاكف؛ الذي لم يتوقف عن زيارته رغم ما يصيبه من ألم نفسي شديد بسبب الحالة المقعدة للفقيد الراحل.

 

مواهب الدكتور الشاوي متعددة؛ فقد عمل في مجالات متنوعة لا يستطيع الوفاء بحقوقها إلا شخصية فذة، وكان مجال تخصصه الرئيسي القانون الجنائي، وقام بتدريسه في جامعات عربية وإسلامية، من القاهرة إلى المغرب والجزائر والباكستان والشرق الأقصى، وله فيه مؤلفات معروفة، وكان آخر اهتماماته أن يُخرج موسوعةً في الفقه الجنائي الإسلامي بمثابة شرح على كتاب "عودة".

 

ومجال جهاده كان في شمال إفريقيا بعد خروجه من سجون العهد الناصري إلى فضاء الحرية وأرض الله الواسعة، لقد اختار دعم الجهاد المغربي، في حين اختار غيره من الإخوان الاتجاه شرقًا للعمل والكسب وتنمية الثروات، واختار آخرون الاتجاه شمالاً لاكتساب العلم في مختلف جوانب الحياة، واختارت القلة النادرة الاتجاه جنوبًا إلى إفريقيا جنوب الصحراء، مثل محمد عبد المعطي بهجت رحمه الله؛ الذي استقر في إفريقيا، وصدق الله العظيم.. ﴿فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ﴾ (البقرة: من الآية 148).

 

ميدان الجهاد في السعودية كان جهاد العلم والتنمية البشرية، لقد أنشأ الدكتور رحمه الله منارات العلم؛ مدارس المنارات التي انتشرت في معظم المدن الكبرى بالسعودية، ثم انتقلت إلى مصر مع قدومه واستقراره بها، ثم أنشأ الدكتور الاتحاد العالمي للمدارس الإسلامية؛ ليكون إطارًا للتنسيق والتدريب والتشاور بين جميع المهتمين بهذا اللون من الجهاد التعليمي لتنشئة الأجيال الشابة، وتخرَّج من هذه المنارات آلاف الشباب الذين تشرَّبوا بواجب الإسلام وحب الله وحب رسوله صلى الله عليه وسلم، على أساس منهج معتدل وسطي، يمزج بين الإسلام والوطنية.. بين العلم والتنمية.. بين الاعتزاز بالإسلام والتسامح مع الآخرين.

 

تغيَّرت الظروف السياسية في مصر بعد تولِّي السادات، وبدأت مرحلة جديدة، بدأها السادات بإطلاق سراح آلاف المعتقلين الذين مثَّل الإخوان غالبيتهم، وعاد الطير المسافر المهاجر دومًا ليبدأ رحلةً جديدةً من الجهاد في وطنه، بل ليواصل جهاده الذي لم يتوقف منذ غادر مصر في نهاية الخمسينيات.

 

بدأ الشاوي جهاده بإقامة دعوى قضائية، يطالب فيها بعودة الإخوان المسلمين كهيئة إسلامية وجماعة قانونية؛ بوصفه أحد أعضاء آخر هيئة تأسيسية قانونية، وكان الدكتور يستحضر في ذاكرته القضية الشهيرة في نهاية الأربعينيات وبداية الخمسينيات، عندما عادت جماعة الإخوان بحكم تاريخي من مجلس الدولة في بداياته الواعدة، ولكن العهد الجمهوري قضى على آمال الشعب في الاحتماء بمجلس الدولة عندما سخر ونظَّم عصابة من رجال الثورة للاعتداء على مفخرة القانون في مصر وأحد أساطينه وكبار رجاله في العالم العربي بل والعالم كله "المرحوم د. عبد الرزاق السنهوري عام 1954م"، ويا للمفارقة بعد سنوات طويلة وبعد انفصال بنت السنهوري "نادية" عن زوجها الأول المرحوم د. سعيد النجار أحد أقطاب الليبرالية تزوَّجها د. الشاوي وتعاونا معًا في إصدار صفحات مجهولة ومهجورة كتبها د. السنهوري مع تحقيق وتعليق لها.

 

ما زالت تلك القضية في أدراج هيئات مجلس الدولة، وقد تحدَّى الإخوان الحكومة أن تقدم قرارًا بحلِّ الإخوان حلاًّ قانونيًّا، ولكن القضية في حقيقتها سياسية!.

 

كان الشاوي عليه رحمة الله محلَّ احترامِ وتقديرِ كل قيادات الإخوان؛ ولكنه لم ينخرط في التشكيلات التنظيمية القيادية كمكتب الإرشاد، ولكن كل المرشدين- بدءًا من الأستاذ عمر التلمساني رحمه الله وغفر له- كانوا يقرِّبونه ويستشيرونه ويستنصحونه، وعندما تم انتخاب أول مجلس للشورى تم تعيين الدكتور الشاوي عضوًا به، وكان هذا أول احتكاك لي مع الدكتور في شئون تنظيمية تخص الإخوان المسلمين في ذلك اليوم الذي تم اعتقالي بعده بساعات.

 

تم في هذا الاجتماع انتخاب مكتب إرشاد جديد والاستماع إلى تعليقات ومناقشات الحضور حول السياسة العامة للإخوان في تلك الظروف بدايةً من عام 1995م، وكان لحديث الدكتور طعم مختلف عندما تحدث؛ حيث ركَّز في كلماته الموجزة على معنى عام جديد على أسماعنا في ذلك الوقت؛ وهو ضرورة أن تبقى الجماعة هيئةً إسلاميةً شاملةً عامةً، تهتم بالسياسة ولا تنغمس في النشاط الحزبي أو المنافسات السياسية، وتقوم الجماعة برعاية ودعم كل القوى السياسية التي تستند إلى الإسلام كمرجعية للأمة، وتطالب بتطبيق الشريعة الإسلامية دون أن تتبنَّى حزبًا بعينه أو قوةً سياسيةً معينة.

 

عندما استحضرت مع أخي د. عبد المنعم أبو الفتوح هذه الذكريات ونحن نعزِّي بعضنا بعضًا في الفقيد الراحل؛ تذكَّر أن هذا الرأي قديم منذ عام 1985م أو قبله؛ عندما شرع الأستاذ عمر التلمساني رحمه الله في كتابة برنامج لحزب "الشورى"، وكلَّف المغفور له بإذن الله الأستاذ صلاح شادي بتلك المهمة؛ كان رأي الدكتور الشاوي وقتها ألا تتحوَّل الجماعة إلى حزب، وألا يكون لها حزب سياسي كجناح، وأن تبقى على مسافة واحدة من كل الأحزاب والقوى السياسية، ولا تؤيد أيًّا منها إلا بقدر التزامها بالإسلام كمرجعية وشريعة.

 

كان الدكتور توفيق الشاوي معلمًا للأجيال في مجال العمل السياسي، وخبيرًا بتوجُّهات القوى العظمى بحكم تجربته الطويلة، وقُربه من صانعي القرار في أكثر من بلد، وثقافته الواسعة، وإلمامه بعدة لغات أجنبية، وقد كتب كتابًا شهيرًا تعليقًا على كتاب (لعبة الأمم) لمايلز كوبلاند الشهير (لعبة الأمم) باسم د. محمد صادق.

 

كان المرحوم الشاوي يريد أن تبقى الجماعة ملكًا لكل الأمة الإسلامية، وكانت مقاربته هي التمييز بين ما هو دعويٌّ وما هو حزبيٌّ، وليس كما يتردد الآن التمييز بين ما هو دعويٌّ وما هو سياسيٌّ؛ لأن الجماعة لا يمكن أن تتخلى عن جزء من الإسلام، والسياسة هي جزء من الإسلام، وعلى الإخوان أن يهتموا بالسياسة ويعملوا بها، لكن ليس في مجال التنافس الحزبي، ولكن في مجال المواقف السياسية، وهو مع ذلك يؤيد التعددية الحزبية والنظام النيابي، وقد فصَّل ذلك في كتابه المهم (فقه الشورى والاستشارة).

---------

* [email protected]