لست أبالغ حين أقرر أنني لم أفهم كيف جاز للنفر الكرام من صحابة رسول الله صلى الله عليه سلم أن يتركوه مسجًّى في بيت عائشة يوم انتقل إلى الرفيق الأعلى، وأن يتركوا أمر تجهيزه للدفن لبعضٍ من آل البيت، وأن يُسرعوا إلى سقيفة بني ساعدة؛ منعًا لفتنة تقود إلى أن ينفرط عقد وحدة الأمة لو لم ينتصب إمام ليخلف رسول الله صلى الله عليه وسلم في قيادة الأمة؛ طلبًا لوحدة الصف.

 

لم أفهم هذا الذي حدث قديمًا عن أبي بكر وعمر، وهما من هما حبًّا وتعلُّقًا بالنبي الكريم صلى الله عليه وسلم، إلا بعد أن قرأت توفيق الشاوي وعكفت على جهوده العلمية والحركية لخدمة فريضة الوقت الغائبة في هذا العصر؛ ألا وهي فريضة الوحدة الإسلامية.

 

وتوفيق الشاوي الذي نودِّعه اليوم بعد أن عاش زمانًا مديدًا من الربع الأول من القرن العشرين الميلادي إلى عام وفاته 2009م؛ إذ لقي ربه في أول أبريل من هذه السنة الجارية.. رجلٌ فريدٌ في يقينه بمستقبل هذه الأمة، وهو اليقين الذي ظهر وصبغ أعماله كلها.

 

ولست أبالغ حين أقرر أننا سوف نمكث زمنًا طويلاً- بعد هذا الوداع لهذه القامة العلمية والحركية الرائدة- حتى تظهر قامة تقترب من توفيق الشاوي في وعيه وجهاده العلمي والحركي؛ توجُّهًا إلى خدمة قضية الوحدة الإسلامية بحسبانها فريضةً أكثر من كل الفرائض، وبحسبانها ضرورةً يعلو شأنُها باعتبار الوقت المعاصر.

 

أنت لا يمكنك أن تخلي ذهنك من مشهد قرآني بديع، يرقى بقيمة النظر إلى الوحدة وتقديمها على غيرها في مقام تربية الشعوب، وقيادة الأمة، وتقدير أمرها حق التقدير، وتثمين جهاد توفيق الشاوي في هذا الصدد وهذا المشهد هو ما يواجهك في هذا الحوار بين موسى وهارون عليهما السلام؛ بعد ما رجع من لقاء ربه ووجد بني إسرائيل قد وقعوا في خطيئة عبادة العجل، يقول رب العزة تبارك وتعالى: ﴿قَالَ يَا هَارُونُ مَا مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا (92) أَلاَّ تَتَّبِعَنِي أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي (93) قَالَ يَبْنَؤُمَّ لا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلا بِرَأْسِي إِنِّي خَشِيتُ أَنْ تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي (94)﴾ (سورة طه).

 

وهذا الذي تلوته عليك في هذه الآيات الكريمة لا تجد من يجسِّده في العصر الحديث تجسيدًا كأنما صار ترجمةً صاغت كيان شخص وملكت عليه نفسه؛ كما يمكن أن تجده في شخص توفيق الشاوي رحمه الله تعالى.

 

ولقد توزَّع جهاد توفيق الشاوي في خدمته لهذه الفريضة الغائبة على محورين أساسيين؛ هما:

1- المحور الحركي.

2- المحور العلمي.

1- توفيق الشاوي.. مفاوضًا ومنسِّقًا من أجل الوحدة

إن الذين أتيح لهم أن يعرفوا جهاد الشاوي في ميدان خدمة قضية وحدة الأمة يلمحون عددًا مهمًّا من العلامات يمكن إجمالها مبدئيًّا فيما يلي:

أ- التفاوض مع كثير من وفود البلدان العربية والإسلامية منذ زمن طويل في جهادها ضد الاحتلال الأجنبي مفوَّضًا من قِبَل جماعة الإخوان المسلمين، وهو ما تجلَّى بأعلى صورة في خدمة قضايا التحرير لبلدان المغرب العربي، ولا سيما المغرب والجزائر من أيام دراسته للدكتوراه في فرنسا من خمسينيات القرن الماضي، وعلى التعيين منذ 1945م سنة إيفاده مبعوثًا لدراسة القانون في باريس.

 

 الصورة غير متاحة

 د. توفيق الشاوي

ب- التعاون مع المؤسسات والأحزاب والتكتلات المختلفة، وأيًّا ما كان توجهها، وهو ما تجلَّى في المنزلة الراقية التي شغلها بجوار قيادة الجامعة العربية إبَّان بداياتها الأولى، ولا سيما بجوار عبد الرحمن عزام الأمين العام الأول لها.

 

ج- ومخطئٌ من يتصور أن حركة الشاوي- رحمه الله- في هذا الميدان كانت حركة رجل هاوٍ، انتدب نفسه لخدمة قضية وحدة أمته؛ إحساسًا من ذات نفسه بخطر التمزق والتشرذم فقط، وإنما كان يتحرك مدفوعًا بوعي تدعمه آليات التنظيم، ووفق خطط إستراتيجية حاكمة، انطلاقًا من التحاقه بالعمل في قسم الاتصال بالعالم الخارجي الإسلامي منذ 1937م على ما يقرر هو قائلاً (ص 15): "منذ عام 1937 عملت في قسم الاتصال بالعالم الإسلامي"، وهو النص الذي جاء محددًا التوقيت، بعد النص العام الذي قال فيه (ص12): "ولقد أيقنت- منذ بدأت كفاحي مع الإخوان المسلمين والعمل في قسم الاتصال بالعالم الإسلامي- أن أبناء أقطار إفريقيا الشمالية هم أقرب الشعوب العربية إلى فكرة الوحدة الشاملة، كما يؤمن بها الإخوان، ويعتبرونها هو هدفهم الإستراتيجي الذي يعني وحدةً تضم المسلمين عامةً دون تفرقة بين العربي وغير العربي".

 

وفضلاً عما في هذه الفقرة المنقولة من مفتتح مذاكراته من إجمال الإشارة إلى حركته المنضبطة بتصورات الحركة الإسلامية.. تراه يواجهك بقضية حياته التي ملكت عليه وجدانه ووجَّهت تفكيره وحركته، وهي قضية الوحدة الإسلامية بما هي فريضة شرعية وضرورة واقعية.

 

د- التوجه إلى دعم الاقتصاد الإسلامي، وهو ما ظهر في اشتراكه وإسهامه في تأسيس بنك فيصل الإسلامي المصري، والتعريف بنظامه الأساسي، ثم تأسيس البنك الإسلامي بجدة.

 

هـ- التوجه إلى خدمة التعليم الإسلامي الدولي، وهو ما انعكس بالإسهام في إنشاء مدارس المنارات في المملكة السعودية، ابتداءً من 1971، ثم الإسهام في الاتحاد العالمي للمدارس الإسلامية الدولية الذي أنشئ بإشراف منظمة المؤتمر الإسلامي سنة 1976م.

 

وهذه المحاور الحركية تصبُّ جميعًا في خدمة قضية العصر وكل عصر، وهي قضية اعتبار الوحدة الإسلامية فريضةً بل أمَّ الفرائض.

 

2- توفيق الشاوي.. منظِّرًا لقضايا الوحدة الإسلامية

إن الفاحص لأعمال الشاوي العلمية يلمح سيطرة فكرة الوحدة الإسلامية على كثير من أعماله الفكرية (مقالات أو كتب كاملة)، وهو ما ظهر في توقيت مبكر، في صورة مقالات تبشِّر بأمة العرب باعتبارها أمة المستقبل في ارتباطها بالفكرة الإسلامية، وهو ما تجد أثرًا له في كتاباته حول فكرة الوحدة العربية الإسلامية الشاملة في مجلة (الرسالة) منذ أربعينيات القرن الماضي، وفي (الأهرام)، وفي جريدة (الشرق الأوسط) متابعةً وتعليقًا على الكتابات المتعاطية مع هذه القضية، لكن أهم الأدلة على هذه العناية المتواترة عنده بهذه القضية يتمثل في:

أ- ترجمته وعنايته بكتاب الوحدة الإسلامية من منظور جديد، وهو المشروع الذي صاغه الدكتور عبد الرزاق السنهوري- رحمه الله- في كتاب (الخلافة) الذي كان في أصله أطروحةً للدكتوراه بفرنسا سنة 1936م، ثم مصاهرة للرجل، وهي المصاهرة التي تمَّت بزواجه من ابنة الدكتور السنهوري، الدكتورة نادية، وهي الترجمة التي أنجزها ونشرها أولاً 1989م بمشاركة زوجه الكريمة.

 

ب- عنايته بالتأليف في قضايا هذه الوحدة من الناحية الدستورية فيما كتبه في سِفْرِه الفذّ (فقه الشورى والاستشارة) 1992م، وفي كتابه (سيادة الشريعة الإسلامية) 1986م.

إن هذا النشاط العلمي في هذا الميدان أنتج عددًا من الحقائق التي ترسَّخت بتضافر الأدلة عليها، ومنها:

1- المستقبل للوحدة الإسلامية.

2- المستقبل للشورى الإسلامية.

3- طريق الجهاد من أجل الوحدة الإسلامية طريق طويل متعدد المراحل.

4- طريق الوحدة الإسلامية يحتاج إلى تضحيات وتضامن شعبي في اتجاهات متنوعة، وهو ما قدَّم عليه الدليل تلو الدليل حركيًّا وعلميًّا، ودفع من أجله سنواتٍ من السجن في عهد عبد الناصر، وسنوات من الغربة الطويلة القاسية.

 

3- توفيق الشاوي.. وحصاد الختام

إن الوقوف أمام هذا الرحيل المحزن والمؤسي لتوفيق الشاوي يحتِّم على أبناء الحركة الإسلامية، ولا سيما الشباب منهم، أن يرصدوا ما يمكن أن يكون بمثابة الحساب الختامي لرحلة كفاح امتدَّت زمنًا طويلاً وطويلاً جدًّا، ويمكن أن نقف أمام ما يمكن أن يكون قد تبقى من هذه الرحلة العامرة الميمونة، وهو ما يصح أن نصوغه فيما يلي:

* أثبتت تجربة الشاوي أنه ليس أمام شعوبنا في المستقبل إلا أن تبني وحدتها ومستقبلها، على أساس الوحدة الشاملة التي تذوب معها الحدود القطرية.

 

* إن أية وحدة لا تقوم على أساسيات من العقيدة الإسلامية ومن التاريخ الإسلامي هي وحدة لن تكون، وإن قامت فلن تُكتب لها الحياة، ومن ثم فإن مستقبل الوحدة الإسلامية مرهون ومرتبط بوجود التيار الإسلامي وتنامي قوته، وازدياد مدِّه وعنفوانه.

 

* إن التعاطي مع أية قضية من القضايا الإسلامية هي في المحصلة الأخيرة فرع عن قضية النهضة الإسلامية الشاملة.

 

* أثبتت التجربة التاريخية أن العرب والمسلمين كلمتان مترادفتان، وهو ما يعكس ضرورة التحامها التحامًا حقيقيًّا، ولا سيما أن القوى الغربية لا تراهما إلا من منظور واحد.

 

* أثبتت تجربة الشاوي أن أخطر المكاسب الوقتية العاجلة تمثَّلت في إغراء بعض الوطنيين والقوميين بالاستقلال القُطري لضرب الوحدة الشاملة، وهو ما كان مخطَّطًا له من قِبَل القوة الأجنبية لاستبعاد الإسلام ذاته من تحقيق الوحدة الشاملة بعد أن عرفته القيادات القطرية بعد وَهْم الاستقلال والتحرر من نير الاحتلال.

 

* ألحَّ الدكتور الشاوي- رحمه الله- في كل ما تركه وخلفه من تاريخ تجربته العميقة الأصلية ومن كل ما خلفه من تراث فكري على حقيقة مهمة جدًّا؛ تقرر أنّ أمتنا أصيلة عريقة، ستظل صامدةً مجاهدةً، وأن التحرر الشامل والسيادة الكاملة سيتحققان يقينًا عَبْر بوابة التيارات الإسلامي.

 

إنني توّاقٌ لأن أختم هذه المقالة في وداع الشاوي بقوله: "لقد قضيت حياتي كلها عاملاً في ميادين الكفاح الوطني مثلاً للفكر الإسلامي، ساعيًا لتوثيق التعاون بين الإسلاميين وغيرهم من الوطنيين والقوميين، بل والاشتراكيين، ولم يتوقف تعاوني مع كثير منهم إلا أخيرًا، بعد أن كشفت لي الأحداث أن منهم مَن أصبح يتبرَّأ من الإسلام بل يعاديه بعد الاستقلال، ولا يتورَّع عن تنفيذ خطط أجنبية للقضاء على دعاته".

 

لقد بقي من توفيق الشاوي أن أيًّا من الدعوات والشعارات الوطنية والقومية والاشتراكية والديمقراطية، لا يمكن أن يكون بديلاً عن الانتماء الإسلامي بعقيدته وأصالته!.

 

رحم الله توفيق الشاوي، نموذجًا فذًّا للإيمان بتفرُّد التصور الإسلامي، ونموذجًا فريدًا على عمق الوعي واليقين بأن الوحدة شيء أكبر من خيال فقيه، بل أكبر من أي كلام.

------------

* كلية الآداب جامعة المنوفية.