تحدثنا في عدة حلقات سابقة عن جهود الإخوان في حرب فلسطين عام 1948م، وتعرفنا على هذا المجهود الكبير الذي حاول بعض المشككين أن يضفوا عليه لونًا من عدم الوجود، وأنهم لم يكن لهم دور بهذه الصورة، وقد أظهرنا شهادات ورؤى كثير من الذين عاصروا الحرب وشاهدوها رأي العين من غير الإخوان وشهدوا للإخوان بذلك.

 

وفي هذه الحلقات أيضًا نتعرف جهودَهم في حرب القنال خاصةً أنها كانت موجهةً إلى الإنجليز، وأثير حولها كثير من ردود الأفعال الغربية والمصرية.

 

لقد تعرّض الإخوان المسلمون لحملة شرسة من قبل النظام الحاكم والدوائر الغربية أيضًا؛ بسبب ظهورهم بمظهر القوة في حرب فلسطين، مما أدى ذلك إلى حلّ جماعتهم، واعتقال قادتهم، واغتيال مرشدهم والزجّ بالمجاهدين في غياهب السجون، وما كاد الإخوان يخرجون حتى شمَّروا عن سواعدهم، وبدءوا إعادة جماعتهم وهياكلهم، فأقاموا دعوة، وحكمت لهم محكمة القضاء الإداري حكمًا صدر في 17 سبتمبر 1951م، بتمكين الجماعة من مركزها العام وعودة نشاطها.

 

وفي 17 أكتوبر 1951م، اختير المستشار حسن الهضيبي مرشدًا عامًّا للجماعة، وقبل ذلك أجريت الانتخابات، ووقف الإخوان بجانب الوفد حتى تحقق له النصر وشكّل الحكومة.

 

لقد وقّع مصطفى النحاس باشا معاهدة الصداقة والتحالف بين مصر وبريطانيا عام 1936م, حيث حددت المعاهدة انسحاب القوات البريطانية من أراضي مصر كلها وتمركزها في منطقة قناة السويس وحدها, وفي المقابل فرضت على مصر عدة التزامات تجاه بريطانيا إذا تعرض القنال للخطر.

 

وقامت الحرب العالمية الثانية وأصبح روميل على أبواب مصر, فتمّ تفعيل شروط المعاهدة التي فرضت على مصر أعباء باهظة أثناء الحرب, وقد وعدت بريطانيا مصطفى النحاس بالجلاء الكامل عن مصر بعد الحرب مكافأةً لها على الالتزام بتعهداتها.

 

وانتهت الحرب وتلكأت بريطانيا كالعادة في الانسحاب من القناة, وقامت حرب فلسطين فاضطرّ المصريون إلى تأجيل مطالبهم للإنجليز بالانسحاب لحين نهاية الحرب.

 

انتهت الحرب بكارثة عسكرية للجيش المصري, وزاد التوتر السياسي في مصر فاضطر الملك فاروق إلى الدعوة لانتخابات برلمانية اكتسحها حزب الوفد, وتولى مصطفى النحاس رئاسة الوزراء مرة أخرى, وحاول التفاوض مع الإنجليز في البداية لكنهم رفضوا الانسحاب من القناة.

 

فأعلن مصطفى النحاس يوم 8 أكتوبر 1951 إلغاء معاهدة 1936م, وقال: "من أجل مصر وقعتها ومن أجل مصر ألغيها" وأعلن عن أن وجود القوات البريطانية في منطقة القناة أصبح غير شرعي وأن الحكومة المصرية لم تعد مسئولةً عن حمايتهم, وأعلن عن دعم الحكومة للفدائيين في منطقة القناة, وبذلك اندلعت الحرب لتحرير منطقة القناة من الإنجليز.

 

بدأ المسلحون من الضباط والإخوان وغيرهم شن حرب عصابات ضد الإنجليز في منطقة القناة, وكانت الخسائر البريطانية- نتيجة العمليات الفدائية- فادحة، خاصة في الفترة الأولى، وكذلك فإن انسحاب العمال المصريين من العمل في معسكرات الإنجليز أدى إلى وضع القوات البريطانية في منطقة القناة في حرج شديد، وحينما أعلنت الحكومة عن فتح مكاتب لتسجيل أسماء عمال المعسكرات الراغبين في ترك عملهم؛ مساهمة في الكفاح الوطني سجل 90000 عامل أسماءهم في الفترة من 16 أكتوبر 1951م، وحتى 30 نوفمبر 1951م.

 

انطلق الإخوان يكبّدون الإنجليز الخسائر، وكان على رأسهم الشيخ محمد فرغلي، والشهيد يوسف طلعت، وكامل الشريف، وعبد الرحمن البنان، وعمر شاهين، وغيرهم من المجاهدين حتى أن تشرشل أعلن في لندن أن عنصرًا جديدًا قد نزل إلى ساحة المعركة.

 

وحين بدأ الإنجليز التحرّش بأهالي منطقة القناة، والتعدّي على الناس، عمّت المظاهرات الشعبية المنطقة كلها، وانعقد مؤتمر كبير بالإسماعيلية برئاسة الشيخ محمد فرغلي؛ حيث تقرر فيه التصدِّي للإنجليز بالقوة ومقاومتهم وضربهم في أوكارهم ومعسكراتهم، وقد حمل الشيخ فرغلي هذا القرار- بوصفه رئيس المؤتمر- إلى مكتب الإرشاد العام للإخوان المسلمين بالقاهرة، وقد أُعلن إضرابٌ عام للعمال العاملين في قناة السويس، وأضرب التجار عن إمداد الجيش الإنجليزي بالمواد التموينية، واندفع الشعب يساند مجاهدي الإخوان المسلمين، لمناجزة الإنجليز ومحاربتهم، وقد قتل الإخوان الكثير من جنود الإنجليز، وجرحوهم ودمّروا الكثير من المنشآت العسكرية، والجسور والدبابات والمصفحات، فخاف الجنود، وأعلنت حالة الطوارئ عندهم ومنعوا الخروج من معسكراتهم بعد الغروب، وانكسرت هيبتهم أمام الناس، وصار الأطفال يرمونهم بالحجارة، وتحمّس بعض ضباط الجيش المصري واندفعوا مع الإخوان يدربون الشباب على أنواع الأسلحة وفنون القتال.

 

لقد كان ردُّ الإنجليز عنيفًا للغاية؛ فقاموا بإعادة احتلال مدن القناة, وفي صباح يوم الجمعة 25 يناير 1952 استدعى القائد البريطاني بمنطقة القناة البريجادير أكسهام ضابط الاتصال المصري, وسلمه إنذارًا بأن تسلم قوات البوليس المصرية بالإسماعيلية أسلحتها للقوات البريطانية, ورفضت المحافظة الإنذار البريطاني، وأبلغته إلى وزير الداخلية فؤاد سراج الدين الذي أقر موقفها, وطلب منها الصمود وعدم الاستسلام, فقام الإنجليز باقتحام مدينة الإسماعيلية, وحاصرت الدبابات والمصفحات البريطانية مبنى المحافظة بسبعة آلاف جندي بريطاني مزودين بالأسلحة ومدافع الميدان, بينما كان عدد الجنود المصريين المحاصرين لا يزيدون على 800 في الثكنات و80 في المحافظة لا يحملون غير البنادق، واستخدم البريطانيون كل ما معهم من الأسلحة في قصف مبنى المحافظة, وقاوم الجنود المصريون حتى نفدت آخر طلقة معهم بعد ساعتين من القتال, وسقط منهم خمسون شهيدًا وأصيب نحو ثمانين آخرين وتم أسر الآخرين, وقد أدى القائد الإنجليزي التحية العسكرية لهم تقديرًا لصمودهم.

 

وأثناء ذلك تدخّل الإخوان، ويذكر المستشار عبد الله العقيل في كتابه- عن مقالة نقلها من مجلة الدعوة العدد الثالث, السنة الخامسة والعشرون، رمضان 1396هـ، سبتمبر1976م- أنه أثناء توجيه قائد قوات الاحتلال الإنذار للمحافظ وإنزاله إلى الشوارع جنوده ومصفحاته، توجّه الشيخ محمد فرغلي إلى المحافظ في عربة جيب، وفي زيه الأزهري ومعه سلاحه؛ لينذر المنذرين بضرورة الانسحاب، وليساند رجال الحكومة في موقفهم، وليشدّ من أزرهم، وانسحب الإنجليز بالفعل من شوارع الإسماعيلية، وسحبوا إنذارهم.

 

ويقول الأستاذ كامل الشريف: وفي الإسماعيلية كانت تقوم أقوى تشكيلاتنا السرية، كما توجد القيادة الإدارية الرئيسة لمنطقة القناة، ويرأسها داعية محنك عظيم الخبرة، هو المرحوم الشيخ (محمد فرغلي) كما يساعده مغامر جسور، هو (يوسف طلعت)، وعدد كبير من الشباب الواعي المنبث في مختلف الفئات، والطوائف المهنية.

 

ويقول الأستاذ أبو الفتوح عفيفي: "لقد تم استدعائي للجهاد من قِبَل إخوانٍ، شاركتهم هذا الأمر، مثل علي نعمان، وحسن الجمل، وعبد الرحمن البنان، ومحمد علي سليم، وغيرهم، واجتمعنا في منزل جمال فوزي؛ حيث التقى بنا كامل الشريف، وأخبرنا بالمهام الموكلة إلينا، ثم اتجهنا إلى أبي حماد بالشرقية، وما إن وصلنا حتى كُلفنا بعمل استكشاف حول معسكر العباسة، وتمت المهمة على خير وجه، ثم انتقلنا إلى القنطرة، حيث شاركنا في صيد الدبابات الإنجليزية.

 

ويقول أحد المجاهدين معهم: "اختير أبو الفتوح عفيفي، وفتحي البوز، والدكتور كمال حلمي؛ لتولي عملية صيد الدبابات على طريق المعاهدة، وذات ليلة حضر إسماعيل محمد إسماعيل، وأبو الفتوح عفيفي قرب الفجر، وهم يكادون يطيرون من الفرح؛ فقد نجحت أول عملياتهم في اصطياد دبابة للإنجليز، حيث ترصدوا لها على طريق المعاهدة".

 

ويقول الأستاذ على رزة: "في عام 1951 حضر إلى الإسماعيلية أحد ضباط المخابرات المصرية التابعين لعبد الناصر، لمقابلتي للتنسيق والعمل ضد القوات البريطانية في منطقة القناة، وطلب مني الاتصال بالشيخ محمد فرغلي، والشيخ يوسف طلعت، فوافقنا على ذلك بعد توصية الشيخ عبده أحمد قاسم سكرتير مساعد الجماعة في ذلك الوقت؛ لأن محاربة الإنجليز من صميم أهداف الإخوان وقدمنا مجموعة من فدائيي الإخوان المدربين على حرب العصابات وقاموا بأعمال فدائية أزعجت القوات البريطانية على طول القناة، وأبهرت رجال المخابرات".

 

لقد انطلقت جموع طلاب الجامعات وكثير من طوائف المجتمع للتدريب على قتال الإنجليز؛ فكانت جامعة عين شمس مكانًا رحبًا لتدريب الفدائيين، وكان يقوم على هذه المهمة الأستاذ محمد مهدي عاكف، كما تسابقت جامعة فؤاد الأول بتخريج دفعة من الفدائيين الإخوان، كان من شهدائهم الذين سقطوا أثناء المواجهة مع القوات الإنجليزية عمر شاهين وأحمد المنيسي، والتي تحرّكت مصر لتشهد جنازتهم، كما شارك جميع الإخوان في نسف القطار الإنجليزي ومخزن أبو سلطان للأسلحة.

 

بقول اليوزباشي سمير غانم: امتلأت مدن القناة وقراها، بالعديد من الجماعات الفدائية التي تنتمي لمختلف الأحزاب ولجماعة الإخوان المسلمين، وكان أكثر الفدائيين من طلبة الجامعات، وبدأت الجماعات الفدائية تشن غاراتها اليومية على المعسكرات والمستودعات البريطانية في منطقة القناة، وسقط الكثير من الشهداء في بورسعيد والإسماعيلية والسويس، وفي باقي منطقة القناة، ولكن هذا العمل كان يتطلب تنظيمًا وتنسيقًا معينًا من حكومة الوفد؛ الأمر الذي أدى إلى قيام القوات البريطانية بإجراءات فعالة لمواجهته، كالتفتيش الدقيق لقطارات السكة الحديدية والسيارات المتجهة برًّا إلى مدن القناة، ثم السيطرة الكاملة على المعابر والكباري المؤدية إلى سيناء، وزادت دورياتهم المسلحة في المدن، وانتشرت دشم الرمل على مداخل المعسكرات، وأضيئت أسوار المعسكرات بأضواء كاشفة قوية.

 

لم تكن تلك الحرب مقصورة على الطلبة والضباط فقط، ولكن شاركهم العديد من العمال والتجار وعدد كبير من أعضاء الإخوان المسلمين.

 

وأثناء حرب القنال عام 1951م، حاول الإنجليز الإيقاع بين الإخوان والأقباط بشتى الوسائل، فما كان من الأستاذ الهضيبي إلا أن التقى ببابا الأقباط وتفاهم معه على كل شيء حتى يفوِّت الفرصة على أعداء الله، وظهر المرشد العام للإخوان المسلمين في اليوم التالي في الجرائد المصرية يصافح زعيم الأقباط، ويعلن اتفاقهما على مصلحة مصر.

 

وفي الحلقة القادمة نتعرف نماذجَ من جهاد الإخوان في حرب القنال مثل نسف القطار الإنجليزي وتدمير معسكر أبو سلطان، وكيف تم ذلك، وما الأسباب التي أدت إلى اندلاع حريق القاهرة.

-------------------

للمزيد:

1- أحمد عادل كمال، النقاط فوق الحروف، الزهراء للإعلام العربي، 1989م.

2- كامل الشريف، المقاومة السرية في قناة السويس، دار الوفاء، الطبعة الثالثة، 1987.

3- عبد المنعم عبد الرءوف، أرغمت فاروق عن التنازل عن على العرش، الزهراء للإعلام العربي، 1988.

4- أبو الفتوح عفيفي، رحلتي مع الإخوان المسلمين، دار التوزيع والنشر الإسلامية، الطبعة الأولى، 1424هـ- 2003م.

5- المستشار عبد الله العقيل، من أعلام الحركة الإسلامية، دار التوزيع والنشر الإسلامية، 2000م.

..............................

باحث في التاريخ الحديث

[email protected]