د. حلمي محمد القاعود

 

حاولت بقدر الإمكان أن أنأى بنفسي عن الدخول في المعركة المفتعلة بين السنة والشيعة؛ لأني تعوّدت أن أُركِّز على ما هو أساسي وضروري وجوهري، ومن العبث أن يترك الناس قضاياهم الأساسية وينصرفوا إلى الأمور الهامشية التي يمكن احتمالها لسببٍ أو لآخر.. فحين تقوم طائرات القتلة النازيين اليهود بدك جنوب لبنان وبيروت بأحدث ما وصلت إليه الترسانة الاستعمارية الصليبية في الولايات المتحدة من قنابل وقذائف؛ لتهلك الحرث والنسل في بلد عربي مسلم شقيق، ثم أقف أنا لأهجو الشيعة وأتحدث عن انحرافاتهم ومخططاتهم؛ فالأمر يعني ساعتئذٍ أني قد أعطيت عقلي إجازة لحساب معركة وهمية لا طائلَ من ورائها، فالشيعة موجودون منذ ثلاثة عشر قرنًا، لهم معتقداتهم وأفكارهم وصراعاتهم، وأهل السنة أيضًا يمثلون أغلبية المسلمين ويعيشون انتصاراتهم وانكساراتهم منذ فجر الإسلام حتى اليوم، لم يختف الشيعة من العالم، ولم ينكسر أهل السنة إلى الأبد.

 

لقد كان تفجير الصراع الدعائي بين السنة والشيعة مع العدوان النازي اليهودي على لبنان عام 2006م، ثم تكراره مع العدوان النازي اليهودي على غزة 2009م، مؤذنًا بدلالاتٍ أخرى تصبُّ في سياقٍ آخر يُعبِّر عن هوان الأمة من ناحية، ووحشية القوة المهيمنة عليها من ناحيةٍ أخرى.

 

فالمفترض عند العدوان على الأشقاء أن نقفَ معهم في خندقٍ واحدٍ ندافع عنهم ونذود بكل ما نملك، ولا نقف بعيدًا؛ نهجوهم ونسبهم ونلعنهم، لأنهم شيعة أو يأتمرون بأوامر الشيعة، فالعدو الذي يقتلهم لا يوقرنا نحن، ولا يحبنا نحن، ولا يوالينا نحن.. إنه يقتل من أجل مصالحه هو، ويدمِّر من أجل منافعه هو، ويعيث في الأرض فسادًا من أجل أهدافه هو، ولا يمكن في يومٍ من الأيام أن يكون رءوفًا بنا أو حليمًا معنا.

 

العدو كتلة من الشرِّ تضرب بكل قوةٍ عندما ترى مسلمًا يقول: لا إله إلا الله محمد رسول الله، لا يعنيها إن كان سنيًّا أو شيعيًّا.. إنها تريد التخلص منه بدوافع عدوانية عميقة، فالروح الصليبية مركوزة في وجدان القتلة الاستعماريين الصليبيين، والروح النازية الحاقدة مغموسة بدماء اليهود الغزاة.. كتلة الشرّ الصليبية الصهيونية لا تعرف أخلاق المسيح ولا وصايا موسى؛ ولكنها تعرف وحشية بطرس الحافي ودموية جابتونيسكي، وما جرى في أفغانستان السنية والعراق السنية الشيعية يشيب لهوله الولدان: سمعتم عن عدد الأرامل واليتامى في العراق؟ علمتم بالجوع الذي يعمُّ أفغانستان؟ إنها وحشية بطرس الحافي التي لم تترك مسجدًا ولا بيتًا ولا مشفى إلا دمرته على مَن فيه؛ أما لبنان وفلسطين فما جرى فيهما أوضح من أن يُقال، والفضل في ذلك لدموية جابتونيسكي.

 

والآن يريد البعض أن يصرفنا إلى عراك مفتعل بين السنة والشيعة؛ بوصفه الميدان الذي يجب أن تتوجه إليه الحراب والأسلحة التي صدئت من تخزينها، وصارت أقرب إلى الخردة ويجب التخلص منها.

 

سأفترض أن الشيعة شياطين الإنس والجن جميعًا!

فماذا عن أهل السنة؟

أيّدوا الغزاة الصليبيين لضرب العراق وتدميره واحتلاله؛ ليتخلصوا من غريمهم "السني" وشقيقهم "البعثي" صدام حسين، وأتاحوا أراضيهم وممراتهم المائية وناقلاتهم؛ قواعد ومساعدات للقتلة المستعمرين، حتى ترسخت أقدامهم فوق عاصمة الرشيد، ثم سكتوا على جرائم الخونة الذين جاءوا على متون الدبابات لتصفية أشقائهم من أهل السنة العراقيين بحجة أنهم بعثيون، فدمرت أحياء بأكملها، وهجُرت أحياء أخرى، صار القتل على الهوية، ومع ذلك كان يستجير أهل السنة وهيئة علماء المسلمين في العراق بأشقائهم من أهل السنة خارج العراق فلا يجدون أدنى استجابة ولا أقل صدى، بل إن قنوات أهل السنة التي تنشر العري والانحلال، وتتبنى وجهة نظر العدو في الأخبار والتحليلات؛ كانت تنشر الإعلانات التي تصدر عن السفاح الشيعي "صولاج" وتصوِّر المقاومة العراقية للغزاة القتلة بالإرهاب ومعاداة السلام.

 

أهل السنة، أقصد الحكومات، فرضوا حصارًا على أهل السنة في العراق وتعتيمًا على أهل السنة في أفغانستان، وأهل السنة في فلسطين؛ إرضاءً للعدوِّ الصليبي الصهيوني الذي لا يحب المقاومة، ولا يريد أن يُعكِّر عليه أحد صفو احتلاله الإجرامي لبلاد أهل السنة.

 

لقد نفذ أهل السنة أوامر الغزاة الصليبيين، فأيدوا حكومة الطائفي المتعصب جواد المالكي، وأرسلوا إليه بعثات دبلوماسية، وفتحوا سفارات كانت مغلقة، وذهبت إليه الجامعة العربية، وأحاطوه بالتأييد، ولم يتحدثوا معه في أمر أهل السنة العراقيين الذين يعانون الأمرين على يديه وعلى يدي قوات الصحوة التي تأتمر بأمره، ولم يقولوا خفف قليلاً من جرائمك ضدهم.

 

في شريعة مََن يصمت أهل السنة على قتل الأفغان والعراقيين والفلسطينيين؟ ولماذا الترويج لحملات ضارية ضد إيران كلما قام العدو بحملة إبادة ضد أهل السنة في أفغانستان والعراق وغزة؟

 

إنه أمر مريب حقًّا ومثير للتساؤل.. لا تعنيني الأبواق المأجورة ولا الطبول الجوفاء ولا السذج المساكين الذين يشاركون في المعركة الغلط، ولكن يعنيني الادّعاء بأن عدونا الحقيقي الدائم انتقل من الجبهة الصليبية الصهيونية إلى إيران الفارسية المجوسية.

 

سوف أفترض أيضًا أن حكومة طهران تمثل خطرًا أعظم على الأمة الإسلامية؟

 

فهل إيران تحتل فلسطين والعراق وأفغانستان؟ هل تحتفظ إيران بالثروات العربية والمدخرات العربية والأسهم العربية في بنوكها وخزائنها وبورصاتها؟ هل تهيمن إيران على بترول أهل السنة وبحارهم وممراتهم المائية؟ وهل تتحكم إيران في الحكومات العربية وتوجهها كما تريد، وتأمرها بالكلام فتتكلم وبالصمت فتصمت؟ هل يتساوى احتلال الجزر الثلاث والتحكم في الخليج، مع احتلال فلسطين والقدس والجولان والعراق وأفغانستان والتحكم في خليج العقبة والبحر الأحمر والمحيط الهندي، فضلاً عن البحر المتوسط؟ هل نسيتم أن أهل السنة لم يستطيعوا أن يضعوا حجر الأساس لجسر يربط بين مصر والسعودية على خليج العقبة؟

 

لقد حاصر الغزاة الصليبيون الصهاينة إيران؛ لأنها أرادت أن تكون دولة مستقلة بعد سقوط شاه إيران والسافاك الذي كان يديره الغزاة الصليبيون الصهاينة، وقد فرضوا عليها حربًا طويلة الأمد مع العراق البعثي الصدامي؛ شارك فيها أهل السنة بأموال وأسلحة ودعاية حرموا منها مصر، فاضطرت للاستسلام في عهد السادات للإرادة الصليبية الصهيونية.

 

واستمر الحصار حتى اليوم، ولكن إيران استطاعت أن تكتفي ذاتيًّا من القمح، وهو ما لم يستطعه أهل السنة الذين أُمروا أن يكفوا عن محاولات الاكتفاء الذاتي من القمح! واستطاع الفرس المجوس أن يبنوا قوتهم العسكرية، وأن يصنعوا صواريخ بحرية وجوية ورادارات كاشفة ومشروعًا نوويًّا، وأن يدافعوا عن فلسطين والقدس في المنتديات الدولية بأفصح لسان، وأن يهيمنوا على ما حولهم، ويفرضوا مصالحهم على الآخرين، وهو ما لم يستطعه أهل السنة الذين يستبيحهم الصليبيون الصهاينة استباحةً كاملة؟.

 

ما معنى العراك بين السنة والشيعة الآن؟ وما أهدافه؟

هل هو لمداراة القصور والخيبة الكبرى التي يعيشها أهل السنة؟ هل يعني ذلك غطاءً على التقصير في حق الإسلام والمسلمين، أم إبعادًا للجريمة التي تقترفها الأنظمة السنّية ضد شعوبها ومواطنيها بالكبت والقهر والاعتقالات والطغيان؟ ليت أهل السنة يجيبون أو يصمتون، فالله سيحاسبهم على جرائمهم ضد الإسلام والمسلمين!.

--------------

* [email protected]