لم يكد مداد الرثاء الذي انسكب من قلوبنا في وداع توفيق الشاوي يجفّ؛ حتى فاجأنا القدر بمصاب جديد، حُمل إلينا، مع نبأ نعي المرحوم الدكتور حسان حتحوت.

 

والدكتور حسان حتحوت رحمه الله تعالى رجل تتبدَّى في شخصه صورة النُّبل المتجسِّد المعجون بتسامح عجيب ونادر، وهذا التسامح النبيل الذي أظهر ما عرف عند الراحل الكريم نتاج طبيعي ومنطقي لرجل غُذِّي على الفكرة الإسلامية الصافية، التي تربَّى عليها، ونشأ في أحضانها، ومارسها في حله وترحاله، وعمتها وزاد من خصوبتها اشتغاله بمهنة الطب التي عشقها، وهي المهنة الإنسانية التي تُطلع عشاقها على الصفاء الإنساني المتبدِّي من خلف الضعف الذي يتلبَّس الأبدان من آثار المرض.

 

وحسان حتحوت معروف منذ فترة طويلة لهذا الجيل برائعته التي نشرها له أولاً: كتاب (الهلال)، ثم نشرها له ثانية مركز الإعلام العربي، وهي كتابه (في ذكرى النكبة.. يوميات طبيب مصري في فلسطين)، وهو الكتاب الذي تجلَّى من ورائه حسان حتحوت الأديب والإنسان، وهو بعض ما ينسرب إلى الفؤاد من لغة خطابه البديع الخلاَّب إلى خطيبته التي صارت زوجه فيما بعد: سالوناس.

 

وحسان حتحوت قيمة نفيسة في هذا العصر الذي نعيشه بآلامه ونكباته، يتبقَّى منه شيء كثير في حاجة ملحَّة إلى الفحص والتأمل والاستثمار.

 

البحث عن ورثة

في مفتاح كتابه (بهذا ألقى الله.. رسالة إلى العقل العربي المسلم)- طبعة مؤسسة فهد المرزوق بالكويت سنة 1998م- يقرر حسَّان حتحوت وهو على مشارف نهاية العمر؛ أي نحو قبل عشر سنوات أنه مهمومٌ بالبحث عن وريث، يقول: أبحث عن ورثة.. وليست تركتي مالاً أو عقارًا أو صناعةً أو تجارةً أو غير ذلك من حطام الدنيا!!، ولست أنعى على من عنده من ذلك نصيب، فالله يرزق من يشاء بغير حساب، ونعم المال الصالح للعبد الصالح، لكن الذي أهمني بشأن تركتي أنها ليست من التركات التي تبقى بعد صاحبها؛ لأنها تموت بموتي، وتنقضي بانقضائي، فلا يعود إلى الانتفاع بها في سبيل تركتي أفكار وخبرات وتجارب نضجت بهدوء على مدى حياة حافلة، أحمد الله سبحانه وتعالى عليها، لم يكن فيها مجال للملل، ولم يكن للعبث فيها مجال".

 

في هذه الدعوة التي افتتح بها خلاصة تجربته التي صاغها من عمره وآلامه، في هذا الكتاب يحدِّد سمات الجيل الذي يرجوه ليرث تركته، وهو جيل يُرجى أن يتسلح بالسمات التالية:

1- حمد الله ورضاه، واليقين فيما عنده، والتسليم بقدره وقضائه.

2- الجد والبعد عن منازل العبث.

3- البذل والعطاء لهذا الدين، ولهذه الأوطان الإسلامية.

 

ملامح التكوين.. درس للمستقبل

ويلحُّ حسَّان حتحوت رحمه الله فيما تركه لنا من أعمال تحكي تجربته الدعوية والإنسانية، بدءًا من سنة 1942م إلى الآن 2009م، وهي على الترتيب التاريخي.

1- في ذكرى النكبة.. يوميات طبيب مصري في فلسطين.

2- بهذا ألقى الله.. رسالة إلى العقل العربي المسلم.

3- العقد الفريد (1942- 1952).. عشر سنوات مع الإمام حسن البنا.

 

أقول: يلحُّ حسان حتحوت على الآثار الجبَّارة التي زرعتها فيه مؤسسة الأسرة، وتجليات المكان في طابعه الريفي الآسر في حضن الماء أو النيل والأشجار أو الأراضي الزراعية، مركِّزًا على الملامح التالية:

1- الولادة والنشأة في شبين الكوم، في دلتا نيل مصر، نشأة الريفي وسماحته وطيبته.

2- الأب الرقيق الهادئ الذي لا تشغله الدنيا بأكبر من حجمها.

3- الأم التي كانت شعلةً لاهبةً من الوطنية.

4- الأثر الجبَّار لتربية مدرسة الإخوان المسلمين، من خلال تأثير قسم الطلاب، ولا سيما ذلك التأثير المذهل الذي تركه الأستاذ محمد فريد عبد الخالق فيه وفي جيله؛ بسبب من إخلاصه وثقافته وفكره.

 

وهذه الرباعية التي هي خلاصة تجربة هذا الجبل الضخم في تسامحه النبيل؛ تدعو أبناء الفكرة الإسلامية المعاصرين للعضِّ عليها ولاستثمارها والنماء بها ورعايتها.

 

ماذا تبقى من حسان حتحوت؟!

إن الذين عرفوا حسان حتحوت، سواء أكان ذلك عن لقاء ومعايشة أو خبرة واقعية أم كان ذلك عن قراءة ومعايشة لما كتب، يلمَح أمورًا في غاية الخطر والأهمية، هي بحق الإجابة عن هذا السؤال الموجز.

 

ولعل الذين عرفوا رجالات هذا الجيل الأول لا يخطئون في قراءة شيء ليس لنا إليه اليوم من سبيل، إلا أن يتداركنا الله برحمة منه وغفران، ألا وهو صفاء المربِّين الأُوَل، وعلى رأسهم الأستاذ الشهيد الإمام حسن البنا، وهو بعض الذي تقرأ في عنوان كتاب حسان حتحوت (العقد الفريد.. عشر سنوات مع الإمام حسن البنا).

 

وأنا أحب أن أجمل هذا الذي تركه حسان حتحوت ميراثًا للأجيال فيما يلي:

أولاً: الإيمان بأن الإسلام وعيٌ داخليٌ يصون صاحبه، وبصيرةٌ نيِّرةٌ تحكم سلوكه، على حدِّ تعبير الدكتور مصطفى محمود في تقديمه كتاب حسان حتحوت (بهذا ألقى الله).

 

ثانيًا: الإيمان بأن عمر جهادك هو عمر استمرار النبض في فؤادك، إن الحياة مستمرة والجهاد قائم؛ إذ لا يصح أن تقرر أن تموت قبل أن تموت، وهو صوت ينبغي أن يُصغي إليه جيدًا أولئك الذين يدعون بين الحين والآخر إلى استراحة محارب.

 

ثالثًا: الإقرار الجازم بأننا نعيش عصر الصحوة الإسلامية، لكن مع هذا الإقرار ينبغي الإيمان الحاسم بحاجة هذه الصحوة وجماهيرها إلى الترشيد في التعليم، ولا يصح أن يبخل أحد على هذه الصحوة بهذين العطاءين.

 

رابعًا: الإيمان المطلق بالحاجة الملحَّة إلى الإفادة من تجارب الماضي وأخطائه، ومن أجل ذلك تراه يقول: إن النظرة الخلفية في مقام قد تكون هي النظرة المستقبلية في مقام آخر.

 

خامسًا: الطريق الحقيقي هو طريق تربية الشعب المصري على الإيمان، لقد ظل حسان حتحوت إلى آخر لحظة ينادي بملء صوته- رضي الله عنه- قائلاً: لنترك العظمة للكلاب، ولنتفرغ لتحويل شعب مصر كله إلى شعب يؤمن بربه ويطيعه، لا في العبادات فقط؛ بل في المعاملات جميعًا، وبخاصة الأخلاق والعمل الروحي.

 

سادسًا: الإيمان الحقيقي بأن الدعوة تسبق قانونها، بمعنى أن الناس ينبغي أن يكونوا في حالة إسلام؛ لكي نتوقع أن تنجح فيهم قوانين الإسلام، ولعل ذلك يلخِّصه قوله: ينبغي تطبيق الشريعة من أولها لآخرها.

 

سابعًا: الدعوة الملحَّة إلى التفاؤل في إمكان إحراز وتقدم ونصر، وهذا التقدم المشروط بصدق النية في تدارك التقصير، والنية في عدم السكوت عليه، وعدم المكابرة فيه، والإسراع في الاعتذار العملي عنه، والاستغفار عليه، مع إدراك أن حضارة الغرب الضخمة ليست معجزة، ولكنها خامات وعقول وأموال عندنا منها الفائض الوفير.

 

ثامنًا: الإيمان المطلق واليقين الراسخ بأن أية نهضة ينبغي أن تكون انطلاقتها من إقامة البراهين البسيطة على واجب الوجود سبحانه، من غير تفريط بين طرفي القسمة (العاطفة والعقل)، والذي يميز النفس السوية هو الميزان الذي تتعادل فيه كفتا العقل والعاطفة، من غير طغيان لأحدهما على الآخر، وبإدراك واعٍ لتربية الناس على أن يكونوا مسلمين عاملين يتعاملون مع القرآن، وكأنه عليهم أنزل.

 

تاسعًا: ضرورة الالتفات إلى صناعة الشخصية السويَّة، بدءًا من الطفل الذي ينبغي أن يُجتهد معه، ويتنبَّه له الانتباه الدائم.

 

عاشرًا: العودة إلى النبع الصافي الحقيقي المتمثل في الاقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم مع تمام اليقين أن التأسي لا يكون بسطحية، لا في زي ولا في طعام أحبه أو تركه صلى الله عليه وسلم، مع الإيمان بأن طريق التغيير هو المحبة.

 

هذه عشرة ملامح، تبدَّت لي من خلال صحبة عرفت فيها حسان حتحوت داعيًا إلى الله سبحانه بسلاح، هو مزيج عجيب من محبة الناس والرفق بهم والتسامح معهم.. رحم الله الدكتور حسان حتحوت جبلاً من تسامح نبيل.

---------

* كلية الآداب- جامعة المنوفية.