إن فهم المسلم لطريقه وتحديد غياته وهدفه، وعمله على إحياء قلبه من لأهم الأشياء في حياته، وهذا ما دفعه للعمل منذ الوهلة الأولى على أن يكون "قوي الجسم, متين الخُلُق, مثقَّف الفكر, قادرًا على الكسب, سليم العقيدة, صحيح العبادة, مجاهدًا لنفسه, حريصًا على وقته, منظَّمًا في شئونه, نافعًا لغيره".

 

يقول الإمام الشهيد حسن البنا: "إذا لامست معرفة الله قلب الإنسان تحوَّل من حالٍ إلى حال، وإذا تحوَّل القلب تحوَّل الفرد، وإذا تحوَّل الفرد تحوَّلت الأسرة، وإذا تحوَّلت الأسرة تحوَّلت الأمة، وما الأمة إلا مجموعة من أسر وأفراد".

 

والدكتور حسان حتحوت نموذج للمسلم الذي حدد هدفه، واستطاع بفضل الله تحقيقه، فقد برع في بداية حياته ونهايتها فكان بحق نموذجًا فريدًا.

 

نشأته

ولد حسان حتحوت في مدينة شبين الكوم بمحافظة المنوفية بمصر، في 23 ديسمبر 1924، الثلاثاء 26 جمادى الأول 1343 هـ، وقد نشأ في بيت تحركه المشاعر الوطنية، فوالدته هي أول امرأة ريفية تقود مظاهرة نسائية في مدينة شبين الكوم ضد الإنجليز أثناء ثورة 1919م، وخطبت في المتظاهرات تحمسهن للجهاد ضد الإنجليز، وبعد زواجها كانت تهدهد طفلها بقولها: "لقد نذرت يوم ولادتك أن أسميك حسانًا، وأن أهبك لطرد الإنجليز".

 

وعندما رأت البوليس السياسي يعتقل ابنها لاشتراكه في العمل الوطني أشارت للقيد الحديدي باكية وقالت: "اللي في إيدك دُول وسام يا حسان".

 

ووالده كان مدرسًا للغة الإنجليزية، وكان شاعرًا جيدًا، وكان قد أنشد في ابنه عند سفره إلى فلسطين عام 1948م أبيات قال فيها:

اهبط على أرض السلام جُعِلْتُ يا ولدي فداك

ضَمِّدْ جراحاتِ العروبة سَدَّدَ المولى خُطاك

وامسحْ دموع الثاكلات عساك تُسعدها عساك

واذكر فلسطين الجريحة وانسَ أمك أو أباك

إني وهبتك للجهاد وأين لي سيف سواك

بعد أن أنهى دراسة الابتدائية في شبين الكوم انتقل إلى القاهرة مع أسرته كلها للجلوس مع خاله، وهناك حصل على الثانوية منها ثم التحق بكلية الطب جامعة فؤاد الأول (جامعة القاهرة حاليًّا)، وبعدما أنهى دراسته للطب، تخصص في مجال طب النساء والولادة، وحصل على دبلوم التخصص عام 1952م.

 

حصل على درجة الدكتوراه ثم الزمالة من إنجلترا في علم الأجنة، وعمل في مستشفى الدمرداش بالقاهرة لمدة سنة، ثم بالقسم الريفي في بعض ضواحي مدينة المنصورة بمصر.

 

انتقل إلى العمل في عدة دول عربية منها السعودية لمدة ثلاث سنوات ثم انتقل للعمل بالكويت، وهناك مكث ما يقرب من عشرين عامًا، شارك خلالها في تأسيس كلية الطب ورئاسة قسم أمراض النساء والولادة.

 

تزوج من زميلة دراسته "سلوناس" قبيل ثورة يوليو 1952م والتي ملأ كتابه العقد الفريد بالخطابات لها.

 

يعرف نفسه فيقول: "أنا إنسان محب، وأحب الحب. وأعتقد أنه إذا كانت المسيحية الحقة ترتكز على القول "إن الله محبة"؛ فأنا كذلك أرى أن الله أوجز الإسلام كله في كلمتين عندما خاطب نبيه عليه الصلاة والسلام فقال له: (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ) (الأنبياء: 107)".

 

الداعية المبكر

اشترك في الحركة الوطنية بمصر منذ عام 34-1935م، وكان يخطب في طلاب مدرسته ويقود مظاهراتهم، انضم إلى حزب الوفد في بداية حياته.

 

وانضم حسان حتحوت لجماعة الإخوان المسلمين عام 1941م على يد مؤسسها الإمام حسن البنا، وكان شديد التأثر به، وشارك من خلال قسم الطلبة في الحركات الطلابية.

 

يقول: طوال المرحلة الثانوية كان لي اتجاه إسلامي، فبدأت أقرأ في الإسلام من نفسي، حتى خطبي المدرسية أخذت السمت الإسلامي حتى دخلت كلية الطب وزرت حسن البنا، ذهبت عام 41 أو 42 وزرته في المركز العام وأعجبت به جدًّا، أعجبت به وناقشته وتحدثنا سويًّا فوجدته شخصية معقولة، ثانيًا جذابة جدًّا.

 

اشترك في حرب فلسطين، وذلك بصفته طبيبًا، واشترك مع آخرين في إدارة مستشفى الرحلة أثناء المعارك، وكان له موقف مشهود عندما جاءت الجيوش العربية ببعض الأسرى اليهود من المعارك للمستشفى، وكان أكثرهم جرحى، وقد أرادت القيادة العسكرية إعدامهم بالرصاص فقال لهم "على جثتي" وخطب فيهم موضحًا موقف الإسلام من الأسرى، وكان نجاة هؤلاء الأسرى بسبب هذا الموقف، وقام بعلاج الجرحى منهم حتى عادوا، وقد عرف اليهود بهذا الموقف، وأشادوا به في صحفهم، وكان شفيعًا لدى اليهود لفك أسر طبيب صديق للدكتور حسان هو الدكتور أحمد  خطاب، كما أعاد اليهود غرفة العمليات من مستشفى الرحالة بعد استيلائهم على المنطقة.

 

وبعد عودته من فلسطين تم اعتقاله في "الهايكستب" قرابة العام، وقد تعرض خلالها للتعذيب، يقول عن سجن الهايكستب في كتابه: "معسكر الهايكستب عنابر واسعة من البناء سابق التجهيز، كل منها محاط بالأسلاك الشائكة، فلا منفذَ منه ولا إليه، كان المبنى الذي ذهبت إليه يسمى عنبر الإدارة لأن به مكتب قومندان المعسكر والضابط، وبعد إجراء التسجيل والتسليم دخلت دهليزًا طويلاً فوجدت الأخ إبراهيم الشربيني (رحمه الله.. كان رجلاً شهمًا ووطنيًّا مخلصًا) يهش للقائي.. كانت هناك غرفة وحيدة صغيرة يشغلها مع عدد عبد المجيد وفتحي البرعي (وكان طالبًا بكلية الزراعة ولا أدري أين هو الآن). كان كل منهم يشغل ركنًا، فدعوني لأشغل الركن الرابع، وكان سائر الإخوان في العنبر المجاور.

 

كان في جناح الإدارة كذلك المعتقلون من اليهود والشيوعيين والوفديين، ولكن في طرف آخر غير منفصل إلا معنويًّا، وكان الفناء واسعًا من دون السلك الشائك، فترك مجالاً للتمشية والرياضة".

 

 الصورة غير متاحة

حسن الهضيبي

ويصف موقفه من المستشار حسن الهضيبي بقوله: "عندما اختير المستشار الهضيبي مرشد لم أكن أعرفه إطلاقًا، قلت أذهب لأري المرشد الجديد (وكنت لا زلت في مصر لم أمشِ من مصر، وكنت طبيبًا حديثًا) فسلمتُ عليه وقلت له اسمي فلان، وأنا دكتور في مستشفى الدمرداش، وطلبتُ أن أتعرف بالمرشد الجديد لأني لا أعرفك، فقال لي: أنا أعرفك. فقلت له:

والله لا أذكر أنه حدث لي الشرف. قال: سأذكرك،  فذكرني باليوم الذي كان الإخوان عملوا حفل شاي لأساتذة الجامعة على السطح  في المركز العام، وكان بينهم المستشار الهضيبي غير أنه لم يكن أستاذ جامعة، وكان الموعد الساعة الخامسة، وجاء حسن البنا الساعة الخامسة وعشر دقائق، فقمت أقدمه فقلت: أيها السادة لا بد أن أعتذر لكم أولاً عن  تأخُّر الأستاذ البنا مدة عشر دقائق، وكان الأولى به وهو المرشد العام للإخوان المسلمين أن يكون أحرص الناس على الموعد، لكن لعل له عذرًا فنستغفر الله لنا وله، والآن أقدم لكم الأخ حسن البنا المرشد العام للإخوان المسلمين".

 

سافر للسعودية للعمل بها في أبريل عام 1952م، وفي عام 1955م انتقل إلى إنجلترا ثم إلى الكويت  وبعد أن استقرَّ في عمله هناك أرسل إلى المباحث العامة المصرية يطلب العودة والمشاركة بجهده وعلمه في خدمة مصر، فرحبت به السلطات المصرية، وعاد مدرسًا بطب عين شمس عام 1961م ثم بجامعة أسيوط الجديدة عام 1963 وخلال هذه الفترة عمل على دعم العلاقة الودية بين المسلمين والأقباط خلال محاضراته ودروسه حتى أحبه الجميع، ولكن كل هذا لم يكن شفيعًا له، إذ تم اعتقاله عام 1965م في ظلال أغرب قرار اعتقال لجماعة الإخوان المسلمين، وهو "اعتقال كل من سبق اعتقاله"، واستمر الاعتقال عدة أشهر، ورغم عدم تعرض آلة التعذيب لشخصه، لكنه عايش، وسمع، ورأى بعينيه عمليات التعذيب الرهيبة والتي عرفت باسم "المحرقة"، وخرج بعدها ليسافر إلى الكويت مرةً أخرى، مقررًا عدم العودة إلى مصر ثانية.

 

اهتم الدكتور حسان بالإسلام ونشر تعاليمه منذ فترة طويلة، واعتبر أن ساعة التحول للعمل الإسلامي بصورة منظمة جاءته عندما ذهب في إحدى الإجازات الصيفية إلى الولايات المتحدة، وكان مقيمًا في الكويت، وهناك تعرف إلى المركز الإسلامي بجنوب كاليفورنيا، ووجدها فرصة للإعلان عن دوره، خاصةً بعد أن تولد لديه اقتناع بأن للإسلام في الولايات المتحدة فرصة تاريخية مؤكدة، قال عنها: إذا أهملناها فطبعنا وشيمتنا وإذا اغتنمناها فقد يكون من ورائها خير كثير لأمريكا وللعالم كله وللإسلام.. فأخذت أقلب الرأي وترددت فترة طويلة.. ووفق الله أن أقدم استقالتي من عملي بالكويت وذهبت إلى أمريكا عام 1988، ثم أصبحت مواطنًا أمريكيًّا؛ لأن الأجنبي لن يخدم الإسلام هناك.

 

وهب وقته وعمله للدعوة الإسلامية، ومفتاحه العمل والتعاون من أجل خدمة المجتمع الأمريكي ذاته، بغرض تحويل نظر الأمريكيين نحو المسلمين وإقناعهم بأنهم بشر لهم جميع الحقوق ويتمتعون بأعلى درجات التسامح؛ لذلك قام بإلقاء العديد من المحاضرات لتقديم الدين الإسلامي في شكله الصحيح، ونجح في عقد تحالفات مع تنظيمات اجتماعية ودينية مختلفة، مما ساعده على وقف حملات كثيرة ضد المسلمين.

 

وفي عام 1999م احتفل مع بقية المسلمين بعيد الفطر في حديقة البيت الأبيض يقول عن ذلك: "احتفلنا بعيد الفطر مع السيدة هيلاري كلينتون، وأنا قلت كلمة، وهي قالت كلمة، وكانت ابنتها في المرحلة الثانوية أخذت "دورة" في الإسلام فقرأتُ معها، وبدأوا يعرفون وبدأوا يسألون عن الإسلام لأنه دين السلام".

 

نشط في العمل الدعوي بين الأمريكيين حتى أسلم على يديه الكثيرون، يقول في ذلك: "لقد ذهبت لأمريكا بعد قدمت استقالتي من جامعة الكويت، ووهبت بقية حياته لنشر الإسلام، وأخذت أوضح للناس الإسلام وطبيعته حتى أسلم الكثيرون، وتركت مهنة الطب وتفرغت للدعوة".

 

الطبيب الماهر

 

غلاف كتاب العقد الفريد

تميَّز الدكتور حسان حتحوت كطبيب في النساء والولادة وعلم الأجنة، ونُشِرَ له أبحاث كثيرة، وقد برع في هذا المجال.

 

ومما كتبه في هذا المجال تحت عنوان الإجهاض في الدين والطب والقانون في مجلة المسلم المعاصر، العدد (35) عام 1403هـ، وأيضًا بحث بعنوان "استخدام الأجنة في البحث والعلاج" في دورة مؤتمر مجمع الفقه الإسلامي السادسة.

 

تقول صحيفة الشرق الوسط: أكد الدكتور حتحوت في ورقة علمية عن الجينوم البشري أعدها بناءً على طلب المنظمة الإسلامية للعلوم الطبية "ضرورة إيجاد ضوابط وتشريعات أخلاقية تنظم المنجزات الآتية في مجال الهندسة الوراثية".

 

وحذَّر من مغبة العبث واستغلال التقدم العلمي في هذا المجال ضد الطبيعة، وبشكل مخالف للثوابت الدينية.

 

وقال الدكتور حتحوت "رغم أن العلماء والأطباء والمفكرين والأخلاقيين والمشرعين في حال انشغال دائم من الآن إلاّ أنه مهما اشتدت الحيرة والقلق عند الجميع فلن يحاول أحد أو يقدر على إيقاف التقدم العلمي في مجال الهندسة الوراثية".

 

وأشار الدكتور حتحوت في ورقته التي بحثت في الجينوم البشري وفق رؤية إسلامية إلى أن هناك مخاوف ومحاذير تفرض نفسها عند التعرض لقضية الهندسة الوراثية على أساس أن قراءة الجين في حد ذاته حاضر معلوم ينبئ بقادم محتوى، لافتًا إلى أنه هل في صالح الإنسان معرفة أمور عن نفسه تعتبر الآن في حوزة المستقبل؟.

 

الشاعرالمبدع

كان الدكتور حسان شاعرًا؛ حيث ورث الشعر عن والده وله ديوان تحت عنوان جراح وأفراح نقتطف منه بعض رياحين الشعر.

يقول في قصيدة عن القرآن والسياسة:

هـذا الكتاب، وإن فـيه سياسـةً         أتراه أمرًا في الكتاب عجيبا

إن كـان تغضبكم سياسته دعــوه       ونقبوا عـن غـيره تنقيبا

أو ما عرضوه على الرقيب، فربما            أفتى فـغادر نصفه مشطوبا!

يا قـوم سُحقًّا للرقـيب وأمـره             فكـفى برب العـالمين رقيبا

 

وقال في قصيدة تحت عنوان (في عشة الدجاج):

في عشـة شرقيـة عاليـة السيـاج        وخلف باب مغلـق ومحكـم الرتـاج

كانت تعيش في نعيـم أمـة الدجـاج      في فيض رزق غدق وظل أمن سـاج

شعب يقضي العمر في أنس وفي ابتهاج       خلف زعامات له منفوخة الأوداج

من كل ديك عُرفه يزري بألف تاج        يصيح بينهم بمثل خطبة الحجاج

وينطلق الزور بلا خوف ولا إحراج       فتصب الأمة بالتصفيق والهياج

وتزدهي الديوك في عالية الأبراج        كأنها من زهوها الكباش في النعاج

ليس الشجاع عادةً مـن قومـه بنـاجٍ    وقد يكون الصـدق سلعـةً بـلا رواج

جزاؤه وقع العصـا ولسعـة الكربـاج    والعمر فى غياهب السجن بلا إخراج

الموت للمخلـص والإطفاء للسـراج    تكررت بين الدجـاج قصـة الحـلاج

 

وتصفه زوجته سالوناس بقصيدة تقول فيها:

إن الثمانين قـد جـاءت                   تذكّرنا بأنعم من عطاء الله تغمرنا

تلك السنين بها فرح بها شجن            مرت كطيف حبيب ظل يذكرنا

قد التقينا على قدر يُقدره                 مدبر الكون يرعانا وينصرنا

خضنا العباب فما ضلت سفينتنا         وطاب عيش لنا أيام مهجرنا

مصر الحبيبة لا ننسى أمومتها            بالشوق نذكرها والشوق يعصرنا

--------

* للمزيد

1- حسان حتحوت: العقد الفريد (1942-1952).. عشر سنوات مع الإمام حسن البنا، دار الشروق، القاهرة، الطبعة الأولى، 1421?- 2000م.

2- موقع إسلام أون لاين: 10/3/2001م.

3- جريدة الخليج: الإمارات، 8/ 11/2004م.

4- صحيفة اليمامة العدد 1853 - 23/4/2005م.

5- صحيفة الشرق الأوسط العدد 8071، الثلاثـاء 6 شـوال 1421 هـ الموافق 2 يناير2001م.

6- جريدة الوطن الكويتية:   27/4/2009م.

------------------

باحث في التاريخ الحديث- [email protected]