في كتابه "الأرض الموعودة" الذي نشره تيودور هيرتزل مؤسس الحركة الصهيونية في العالم، في العام 1902م، قال: "فعلاً سيكون هذا مشهدًا رائعًا.. رائعًا للغاية، مع انسياب المياه بوفرةٍ إلى أسفل على التروس البرونزية العملاقة للتوربينات التي تتحرك بسرعةٍ فائقةٍ وصاخبة، ومنها تخرج قوة الطبيعة الهمجية التي تم وقفها والسيطرة عليها لتنقل إلى مولدات التيار الكهربائي، ومن ثَمَّ وبسرعة إلى الأسلاك الممدودة في كل أنحاء البلاد".

 

هكذا تحدَّث هيرتزل في مطلع القرن العشرين عن مشروع قناة لوصل البحر المتوسط بالبحر الميت.. واليوم- في أواخر العقد الأول من القرن الحادي والعشرين- وبعد حوالي مائة عام من حديث هيرتزل، تطالعنا وسائل الإعلام خبر جديد غير جيد بالنسبة لمصر وللأمن القومي العربي في حقيقة الأمر؛ حيث كشفت الحكومة الأردنية عن مراحل بدء العمل في مشروع "قناة البحرين"، المتعلق بنقل مياه البحر الأحمر إلى البحر المتوسط، عبر البحر الميت.

 

وقالت الحكومة الأردنية إنَّ المرحلة الأولى من هذا المشروع المثير للجدل سوف تكون في الفترة ما بين عامَيْ ٢٠١٠م و٢٠١٤م.

 

الآن.. وبعد نحو ما يقرب من عقدَيْن تقريبًا من بدء عملية مدريد في أكتوبر من العام 1991م، أُعيد فتح هذا الملف مجدَّدًا، على خلفية المتغيرات الراهنة التي تشهدها المنطقة، مع عودة رئيس الوزراء الصهيوني بنيامين نتنياهو لمنصبه هذا الذي تركه منذ 10 سنوات، وكان نتنياهو أيضًا هو الذي طُرِحَ هذا المشروع لأول مرة في عهده، في العام 1996م.

 

تاريخ المشروع

في دراسة مهمة له صدرت في العام 2007م، عرض الخبير الإستراتيجي المصري اللواء متقاعد حسام سويلم ملامح من تاريخ هذا المشروع، والتي توضح أن الأمر ليس بجديدٍ، وأنه يقع في صميم مكونات المشروع الصهيوني وأركانه في فلسطين وما حولها من بلادٍ عربيةٍ وإسلاميةٍ.

 

فيعد سنواتٍ مما نشره هيرتزل، وقبل قيام الكيان الصهيوني في فلسطين، وضع عدد من المهندسين البريطانيين والألمان مخططات مشروعات لمد قناة من البحر المتوسط إلى البحر الميت، بغرض توليد الكهرباء، وتمَّت مناقشة هذه المشروعات في المؤتمرات الصهيونية التي قبل قيام الكيان.

 

وفي الخمسينيات الماضية، قام الأكاديمي الصهيوني البروفيسور والتر لودرميلك، وهو خبيرٌ في التربة الزراعية، بتقديم اقتراحٍ لإنشاء مسارٍ ثانٍ مختلف على البحر المتوسط يصل ما بين حيفا والبحر الميت، وفي العام 1977م قامت الحكومة الصهيونية بتشكيل لجنة تخطيط لدراسة ثلاثة اقتراحات لربط البحرين الميت والمتوسط، واقتراح آخر بربط البحر الأحمر بالبحر الميت عند إيلات.

 

وكانت النتيجة النهائية لتوصيات هذه اللجنة تأكيد أفضلية مشروع توصيل البحر الميت بغزة التي كانت تحت الاحتلال الصهيوني في ذلك الوقت، باعتبارها الأكثر جدوى اقتصاديًّا، أما اقتراح توصيل البحر الميت بإيلات، فقد اعتبرته اللجنة الأسوأ والأقل من حيث الجدوى الاقتصادية من بين هذه المقترحات جميعًا.

 

وفي الثمانينيات تولت شركة أمريكية تُسمَّى "هارزا"، بتمويل من البنك الدولي للإنشاء والتعمير، بدراسة المشروع بمختلف مقترحاته، واستمرَّت هذه الشركة في إجراء دراساتها حتى العام 1996م، بهدف البحث عن بدائل لتوليد الطاقة للكيان الصهيوني.

 

وفي العام 1996م، تم تغيير اتجاه المشروع برمته؛ حيث استبدلت قناة تربط البحر الميت بالبحر الأحمر بقناة لربط البحر الميت بالبحر المتوسط، كما تم تغيير الهدف من المشروع ليتحول إلى استهداف تحلية مياه البحر بواسطة الطاقة الكهربائية المنتجة من المشروع.

 

وكان لتوقيع منظمة التحرير الفلسطينية والحكومة الأردنية لاتفاقات أوسلو ووادي عربة مع الكيان الصهيوني دورٌ في هذا التحويل الكبير للمشروع، كما كان لانطلاق عملية كوبنهاجن في ذلك الحين، والتي وضعت 35 مشروعًا لتحسين مستوى العلاقات ما بين الفلسطينيين والأردنيين من جهة وبين الصهاينة من جهةٍ أخرى، ويتم تنفيذها من خلال لجنةٍ اقتصاديةٍ تشارك في عضويتها الولايات المتحدة والأردن والكيان الصهيوني والسلطة الفلسطينية.

 

وأصبح المشروع جزءًا من عملية الدار البيضاء التي انطلقت في أعقاب التوقيع على اتفاقيات أوسلو، واعتمدت على أساس عقد مؤتمر سنوي للتعاون الاقتصادي ما بين العرب والكيان الصهيوني تحضره الدول المانحة؛ لتحسين مستوى التطبيع الاقتصادي العربي- الصهيوني.

 

وتندرج خطة مشروع قناة البحرين ضمن مشروع أكبر، وهو مشروع أو خطة تطوير وادي الأردن، وفي العام 2002م، أعلن رسميًّا إعادة إحياء هذا المشروع في القمة العالمية للتنمية المستدامة التي عقدت في جنوب إفريقيا في ذلك العام.

 

 الصورة غير متاحة

بيريز يشرف على المشروع بنفسه

وفي جلسات مؤتمر منتدى دافوس الاقتصادي العالمي الذي عُقد في الأردن في العام 2003م، تمت مناقشة المشروع مجددًا، وفي مايو من العام 2005م عُقدت عدة اجتماعات تنسيقية بين الأردن والصهاينة؛ لمناقشة ثلاث نقاط رئيسية، هي: هل يمكن تنفيذ المشروع من الناحية التقنية، والتكلفة المالية للمشروع، والجوانب السلبية له؟

 

ويشرف على هذا المشروع الرئيس الصهيوني شيمون بيريز شخصيًّا، بصفته القديمة، وهو المسئول عن برامج التسلح، وخصوصًا غير التقليدي للجيش الصهيوني، وهو ما يفتح المجال أما الكثير من الخلفيات التي سوف نراها لهذا المشروع.

 

أمن قومي صهيوني

هناك مجموعة من الاعتبارات التي تدفع الكيان الصهيوني إلى الاهتمام بهذا المشروع، والعمل على الدفع لإنجازه، ومن بينها اعتبارات اقتصادية وأخرى سياسية وعسكرية.

 

الاعتبارات الاقتصادية:

- إنقاذ البحر الميت من الجفاف، ومع انخفاض منسوبه ارتفعت نسبة الملوحة فيه إلى مستوياتٍ قياسيةٍ تفوق نسبة الملوحة في المحيطات؛ وذلك بسبب جفاف مصادر المياه العذبة التي كانت تصبُّ فيه؛ حيث حوَّل الكيان الصهيوني 29% من المياه التي كانت تذهب إليه من الأنهار لاستخداماتها الزراعية، خاصةً نهر الأردن، ويهدف الكيان من وراء مشروع قناة البحرين هذا إلى عودة منسوب المياه في البحر الميت إلى المستوى الذي كانت عليه في بداية القرن العشرين، في غضون 20 عامًا من بدء تشغيل قناة البحرين.

 

- يدخل الكيان الصهيوني عن طريق المشروع الجديد إلى مجال صناعة تحلية مياه البحر المالحة، ومع معاناة الأردن مع شح مصادر المياه المتاحة، كواحدةٍ من أسوأ بلدان العالم في مجال الفقر المائي، فإن الكيان سوف يضمن عن طريق استثماراته في هذا المجال، ووجود عميل دائم له- الأردن ومناطق السلطة الفلسطينية في الضفة الغربية المحتلة أيضًا- يعتمد عليه في الحصول على احتياجاته من مياه البحر المحلاة، في مقابل الحصول على مياه أنهار الأردن واليرموك ومياه الضفة الغربية العذبة.

 

وهو ما يضمن المزيد من التأثير السياسي للكيان الصهيوني، بالإضافةِ إلى المزيد من الموارد المالية نتيجة هذا العمل.

 

- استغلال فارق الارتفاع بين البحر الأحمر والبحر المتوسط؛ لتوليد الكهرباء وزيادة قدرة الكيان الصهيوني على إنتاج الكهرباء بحوالي 25% من قدرتها حاليًّا على ذلك، مع توفير كميةٍ من المياه المحلاة تساوي 57% من استهلاك الكيان من المياه.

 

الاعتبارات السياسية والعسكرية:

هناك حزمةٌ من الأهداف السياسية والعسكرية التي يغطيها الكيان بحديثه عن التعاون الاقتصادي مع الجيران العرب، ومن بين هذه الأهداف:

- يعتبر البحر الميت أحد أهم مصادر الكيان الصهيوني في الحصول على نوعيات معينةٍ من الأملاح والمعادن النفيسة والنَّظائر النَّادرة، مثل البوتاس و"المغنيسيوم- 3" والفوسفات الغني بشوائب اليورانيوم الطبيعي 238، وكلها مواد يستخدمها الكيان الصهيوني في "تموين" مصانعه العسكرية العاملة في مجال إنتاج الأسلحة الكيماوية والنووية، بمثل هذه المواد الشديدة الندرة في الأسواق العالمية، ويخضع انتقالها عبر العالم لعيونٍ كثيرةٍ.

 

- سوف يحصل الكيان من خلال مشروع مياه البحرين على نوعيةٍ معينةٍ من المياه اللازمة لتبريد المفاعلات النووية، وتُعَرف بالمياه الثقيلة، التي لا توجد إلا في أعماق بعيدة في البحرين الأحمر والمتوسط، وسوف يحصل عليها الكيان مجانًا.

 

وهو أمر شديد الإلحاح بالنسبة للكيان الصهيوني الذي ينوي إقامة عددٍ من المفاعلات النووية في صحراء النقب، لاستبداله بمفاعل ديمونة الذي بلغ عمره الافتراضي منذ عقود، فديمونة الفرنسي الأصل عمره الافتراضي هو 20 عامًا فقط، بينما بدأ تشغيله في العام 1963م، وطيلة العقود الماضية، وقعت فيه تشققات وتسربات إشعاعية أصابت أكثر من 120 عاملاً في المفاعل بأمراض سرطانية.

 

وفي هذا فإنه من المقرر إقامة مفاعلَيْن نوويَّيْن إضافيين في النقب، بما سوف يؤدي إلى مضاعفة حجم الوقود النووي الذي يحصل عليه الكيان الصهيوني، سواءً أكان "يورانيوم- 235" المخصب بنسبة تزيد على 90% أو "بلوتونيوم- 239"، وكلاهما يستخدم في إنتاج الأسلحة النووية.

 

كما أن ذلك سوف يزيد من حجم النفايات النووية لدى الكيان، والتي تُدفَن الآن في الأراضي الفلسطينية المحتلة في العام 1967م، وخصوصًا في مناطق جبال الخليل، وسوف يزيد تلوث البيئة بطبيعة الحال في إقليم البحر الأحمر كلها.

 

- توفير المياه العذبة اللازمة لإقامة مغتصبات جديدة تجذب ما بين مليون إلى مليونَيْ مهاجر يهودي جديد، وإعادة توزيع الموجودين بالفعل لتقليل المخاطر المترتبة على أي هجوم صاروخي من إيران وغيرها على الكيان الصهيوني.

 

- إقامة حزمةٍ من المشروعات الزراعية والسياحية ذات الأهمية السياسية، ولبيست الاقتصادية فحسب؛ حيث سوف تدعم من مشروعات التطبيع الصهيوني- العربي، وتربط الاقتصادَيْن الأردني والفلسطيني بالاقتصاد الصهيوني، وجعلهما يدوران في فلكه، باعتباره أقوى منهما.

 

أمن قومي عربي

 الصورة غير متاحة

المشروع يهدد الأمن القومي العربي

في المقابل، تبدو اعتبارات الأمن القومي العربي والمصري مهددة من وراء هذا المشروع، فبجانبٍ من ذُكِرَ عن جوانب القوة التي سوف يضيفها هذا المشروع لعوامل القوة الشاملة الصهيونية، والتي هي بالتالي خصم من معادلة القوة العربية، فإن هناك مجموعةً من المخاطر التي تتهدد الأمن القومي العربي، والمصري على وجه الخصوص من جرَّاء هذا المشروع.

 

فبالنسبة للأردن وفلسطين أولاً، فبجانب مخاطر ربطها وربط مواردها المائية بالكيان الصهيوني ومصالحه، فإنَّ المشروع- اقتصاديًّا- يقوم على أساس الاعتماد على التمويل الأجنبي لاستثمارات كثيفة وذات عائدات بعيدة المدى، وبعض هذه العائدات، غير ربحيَّة، بما يجعل لها بعدًا اجتماعيًّا، وبالتالي المزيد من التأثير الأجنبي على الأردن والأراضي الفلسطينية.

 

كما أن بعض الخبراء الأردنيين يقولون إن تمويل المشروع عن طريق القروض، سوف يضخم من مشكلة المديونية العامة, وهو ما سيؤدي إلى إضافة المزيد من الأعباء على الميزانية العامة الأردنية، ككلفة خدمة هذه القروض.

 

من جهةٍ أخرى يرتبط المشروع الخاص بقناة البحرين بحزمةٍ من الأهداف والمشروعات الصهيونية الأخرى غير المعلن عنها، ومن بينها مشروع إنشاء خط سكة حديد يمتد من الكيان الصهيوني إلى العراق والخليج العربي، وإنشاء منظومة للنقل الإقليمي يكون محورها الأساسي الكيان، ويتضمن هذا المشروع جوانب متعلقة بالنقل البحري؛ حيث سيتم تحويل ميناءَيْ حيفا وأشدود إلى بوابة رئيسية للعبور التجاري والسياحي ونقل الأفراد إلى مناطق الشرق الأوسط المختلفة.

 

وبالفعل تم البدء في تطوير الميناءين المذكورَيْن، وإنشاء خط سكة حديد أكثر تطورًا بين حيفا والعفولة وبيسان؛ تمهيدًا لربطه بشبكة الخطوط الحديدية الأردنية من عند نقطة تقع عند معبر الشيخ حسن، ومن هناك إلى العراق ثم من العراق إلى دول الخليج العربية، ويتضمن الأمر أيضًا إحياء بعض أجزاء من الخط الحديدي الحجازي القديم.

 

كما أن هناك مشروعًا صهيونيًّا آخر لنقل نفط غرب سيبيريا الروسي عبر الكيان إلى شرق آسيا؛ وذلك باستخدام خط "تيب لاين" الصهيوني القديم، والذي سُمِّي بهذا الاسم توازيًا مع اسم خط الأنابيب السعودي القديم الذي كان يذهب إلى لبنان، وكان يُسمَّي بـ"تاب لاين".

 

 الصورة غير متاحة

المشروع يمثل تهديدًا مباشرًا لقناة السويس

ومن هنا تبرز خطورة منافسة المشروع لقناة السويس؛ حيث دأب المسئولون الأردنيون والصهاينة على القول إن المشروع مجرد أنبوب وأنه ليس مخصصًا للنقل البحري، وخلافه، ولكن الحقيقة غير ذلك، فارتباطات المشروع بمشروعات أخرى من هذا النوع، يجعل منه تهديدًا حقيقيًّا لقناة السويس كناقلٍ دولي مهم لحركة التجارة والنفط العالمية.

 

بالإضافة إلى ذلك يتهدد المشروع المصالح الاقتصادية المصرية في مجال النقل الجوي والبحري، خصوصًا فيما يختص بمشروعات الموانئ الكبرى على البحرين المتوسط والأحمر، مثل ميناء العين السخنة وغرب التفريعة، ومطارات سيناء وغرب القناة.

 

بجانب ذلك فإن المشروعات السياحية التي سوف تقام حول نقاط بدء وانتهاء فرعَيْ القناة، والتي سوف تتوازى مع إنشاء مناطق حرة أردنية وفلسطينية، من شأنها تهديد أعمدة تنمية الاقتصاد المصري الرئيسية.

 

وبشكلٍ عامٍ، فإنَّ شق قناة مائية تربط البحر الأحمر بالبحر الميت، وتوليد الكهرباء منها، وما يستتبع ذلك من إقامة مجتمعات عمرانية وخلافه، وجذب مزيدٍ من المهاجرين والسكان في منطقة النقب سيزيد من قدرات الكيان الصهيوني الجيوسياسية، وكذلك ستعالج الكثير من عوامل الضعف الديموغرافي التي يعاني منها، وكل ذلك بالتبعية يعني المزيد من التهديد للأمن القومي المصري.

 

على المستوى البيئي، يعتبر تدفق حوالي 2 مليار متر مكعب سنويًّا من مياه البحر الأحمر إلى البحر الميت، سيحدث تأثيرات عميقة على البيئة البحرية للبحر الأحمر، بما في ذلك المناطق التي توجد فيها ثروات مصر الطبيعية وأماكن جذبها السياحي الرئيسية، في جنوب سيناء وحتى سواحل الغردقة.

 

كما أن خبراء يؤكدون أن البيئة المحيطة بالبحر الأحمر غير متماسكة وغير مستقرة جيولوجيًّا، بما يعرضها للمزيد من عدم الاستقرار إذا ما تم حفر قناة "البحر الأحمر- البحر الميت"؛ مما قد يؤدي إلى حدوث المزيد من الزلازل والهزات الأرضية في المنطقة.

 

وفي النهاية، بقي سؤالٌ مهم: "هل يعرف صناع القرار في مصر بذلك كله؟!"، وإذا ما كانوا يعلمون، فماذا فعلوا؟ وماذا سوف يفعلون إذا ما تم البدء في هذا المشروع.. أم أن الأمر هذه المرة- أيضًا- عبارة عن "تخاريف" معارضة ترغب في هزِّ استقرار مصر؟!.