رغم الحيوية الظاهرة التي أضفتها المناظرات الرئاسية الجديدة على المشهد الانتخابي في إيران، والتي شهدت سخونةً كبيرةً واتهاماتٍ خطيرة للرئيس الحالي الذي يتجه إلى الفوز الكاسح (ثلثي الأصوات حسب النتائج الأولية) وللرئيس السابق الذي لم يكن بعيدًا من التنافس (رفسنجاني) الذي اشتكى للمرشد الأعلى، وانصبَّت الاتهامات على الفساد الذي لا يخلو منه بلد في العالم، وحتى مع دعاوى الطهارة؛ سواءً أكانت الثورية أم الدينية، فلن يخلو منه بلد في العالم؛ لأن النفس البشرية هي النفس البشرية، ولذلك وضع الإسلام القواعد الصارمة لحساب المفسدين.

 

ورغم الإقبال الشديد الذي فاق- حسب الأرقام الرسمية- 75%، أي قرابة 30 مليون ناخب وناخبة، وهو ما شهدناه بالفعل على شاشات التلفاز، والذي صاحبه اتهامات من المرشح الإصلاحي "مير حسين موسوي" رئيس الوزراء الأسبق بعمليات تزوير بمنع بعض الناخبين أو المندوبين.

 

رغم كل ذلك وغيره من الظواهر الإيجابية التي صاحبت تلك الانتخابات؛ فإن نتيجتها في حقيقة الأمور لم تكن لِتُغير شيئًا يُذكر في سياسة إيران الخارجية، وقد تحدث تغيرًا طفيفًا في الشئون الداخلية، ولعل تجربة السيد "محمد خاتمي" لمدة 8 سنوات في سدة الرئاسة الإيرانية خير دليل على تلك الحقيقة.

 

إن موقع رئيس الجمهورية في الدستور الإيراني وضمن تركيبة معقدة أرساها الدستور الإيراني؛ ليس إلا رئيسًا للهيئة التنفيذية وسلطاته مقيدة وصلاحياته محدودة؛ لأن الدستور الإيراني يحتفظ بالسلطات الأهم والصلاحيات الأقوى لشخصية أخرى هي المرشد الأعلى أو "ولي الفقيه".

 

ووفق الدستور الإيراني؛ فإن هناك توزيعةً دقيقةً جدًّا تعكس مراكز القوى داخل المجتمع الإيراني، والقوى التي شاركت في الثورة الإسلامية منذ ثلاثين سنة، ويمكن الحديث ضمن تلك القوى عن "علماء الحوزات وآيات الله" الذين قادهم "الخميني"، وحشد معظمهم خلف نظريته الجديدة، "ولاية الفقيه"، ورجال البازار التجار الذين موَّلوا الثورة وغطوا تكاليفها، وقيادات الحرس الثوري الذين خلفوا قيادة الجيش المنهارة، بعد نجاح الثورة، وتصدوا للمؤامرات التي حيكت ضدها.

 

ظهرت خلال السنوات الثلاثين قوى جديدة على مسرح الحياة السياسية الإيرانية؛ أهمها:

قيادات الجيش الجديد الذي أُعيد بناؤه، والنخب السياسية التي ترعرعت في ظل الحياة السياسية، وشكَّلت أحزابًا جديدة لها جمهورها ومؤيدوها, وكذلك في المقدمة الجموع الشعبية الغفيرة التي أيَّدت الثورة ضد الشاه الطاغية المستبد، وشاركت في الحرب المستعرة لمدة عشر سنوات مع العراق، وضحَّت بالملايين في المعارك التي لم تتوقف، وساهمت في عمليات التنمية المستمرة، وظهرت منها عقول نابغة؛ صنعت المشروع النووي السلمي لطاقة متجددة ومستمرة، وتصدت لكافة المؤامرات الأمريكية والغربية التي تمَّ إنفاق مئات الملايين من الدولارات عليها، هذا الشعب له مَن يُمثله اليوم؛ وهي القيادات السياسية التي يتحلق حولها، ويثق فيها، ويكفي أن "مير حسين موسوي" حصد حسب الأرقام المعلنة ثُلث أصوات الناخبين، أي عشرة ملايين صوت.

 

في ظل الخميني وفي حياته وكقائد لأحد أبرز ثورات التاريخ الحديث تمَّ تركيز أهم السلطات في منصب "المرشد الأعلى" أو "ولي الفقيه"، وهو المنصب الذي تولاه "الخميني" بقوة الأمر الواقع، وعند صياغة الدستور تمَّ تشكيل "مجلس الخبراء" الذي يتم انتخابه من عدد محدود لهم مواصفات ضيقة جدًّا، وغالبيتهم من رجال الدين، وهذا المجلس هو الذي يتولى اختيار المرشد الأعلى ومحاسبته وعزله إن اقتضى الأمر، وهو لم يتم إلا مرة واحدة باختيار السيد "خامنئي"، ولم يكن وقت اختياره رغم أنه لم يكن وقتها أحد آيات الله العظمى، حسب التسلسل الهيراركي لرجال الدين الشيعة.

 

وتم إعداد الدستور في ظل هجمات متتالية ضد الثورة ورموزها وقياداتها من اتجاهات متعددة، أدَّت إلى اغتيال أكثر من مائة شخصية متميزة، وقد عكس الدستور- وهو الحالي- المظالم التاريخية والتهديدات الحاضرة، وغابت عنه التصورات المستقبلية.

 

اليوم هناك حاجة ملحة إلى إعادة صياغة الدستور الإيراني بعد ثلاثين سنةً مليئةً بالحيوية والمعارك العسكرية والسياسية الداخلية والخارجية.

 

أهم التطويرات المقترحة:

- خلع الرداء المذهبي عن الدستور لإتاحة الفرصة لكافة أبناء المذاهب؛ خاصةً أهل السنة للتمتع بكافة حقوق المواطنة الكاملة.

 

- خلع الرداء القومي الفارسي لاستيعاب كافة القوميات التي تشكِّل أقليةً داخل إيران، مثل العرب والأوزبك والبلوشستان والأكراد.

 

- إعادة توزيع القوى داخل تركيبة السلطة، وإحداث توازن بين الرئاسة والبرلمان والجيش والشعب، ممثلاً في الأحزاب السياسية.

 

- إعادة النظر في منصب "ولي الفقيه"، وإعادة النظر في "الحرس الثوري"؛ خاصةً بعد اشتداد عود الثورة، وتحولها إلى دولة مستقرة، أو الاحتفاظ بالموقع الخاص "للمرشد الأعلى ولي الفقيه" في صورة رمزية بصلاحيات محدودة؛ خاصةً أن هناك من المراجع الشيعة المعتبرين مثل نائب الخميني "حسين منتظري" الذين يطالبون بالعودة عن نظرية "ولاية الفقيه" تمامًا لعدم اتفاقهم عليها، أو لأنها أدَّت دورها.

 

أعتقد أن هناك مراجعةً مطلوبةً لكافة المهتمين بالوضع الإيراني؛ كي تصبح إيران دولة تمثل نموذجًا أفضل لممارسة إسلامية، لا تكون محسوبة على المذهب الشيعي، أو حتى على اجتهاد أحد أكبر رموزه في العصر الحديث؛ للخروج من نفق طويل تسببت فيه "الغيبة الكبرى" التي يؤمن بها الشيعة الجعفرية الاثنى عشرية للإمام الثاني عشر "محمد الحسن العسكري" باجتهاد نظرية "ولاية الفقيه" أو "الحكومة الإسلامية" التي يمكن تلخيصها في نيابة الفقيه عن الإمام الغائب حتى يعود.

 

إذا تحققت تلك التطويرات؛ فإن المذهب الشيعي يقترب جدًّا من النظرية السياسية لأهل السنة والجماعة التي تعود بالأمر كله إلى الشعب المسلم الذي له حق الاختيار والمحاسبة والعزل للحاكم، وبذلك نكون حققنا أفضل تقريب بين الجماعتين الكبيرتين في الإسلام، والذي تسببت الخلافات السياسية حول مَنْ هو الأحق بتولي أمور المسلمين وولاية الشأن العام في هذا الشرخ الكبير الذي تسبب في حروب دامية، واغتيالات مؤلمة إجرامية، وانقسام طويل لمدة 14 قرنًا من الزمان.

 

مراجعة تجارب نظم الحكم في الدول الإسلامية؛ خاصةً تلك المحسوبة على التجربة الإسلامية سنية كانت أم شيعية، واجب وعلى الجميع أن يدلي بدلوه.