سيد قطب والدعوة إلى العزلة في معالم في الطريق

إن آخر كتاب في حياة سيد قطب، والذي أُثير حوله الكثير من الشبهات كتاب (معالم في الطريق)، وأظهرته مكتبة وهبة سنة 1964م (1)، ويبين فيه سيد منهج عمل الحركة الإسلامية، وتوضيح معالم طريقها في الدعوة إلى الله.

 

وقد كتب سيد كتابه هذا في محنته من داخل سجن (طرة)، ثم أخذت أخته (حميدة) مسودةَ الكتاب إلى الحاجة زينب الغزالي التي حملتها إلى تنظيم الإخوان المسلمين، كما بيَّنت ذلك الحاجة زينب الغزالي؛ حين أخبرت أن المرشد العام للإخوان المسلمين- الأستاذ/ حسن الهضيبي- قد قرأ المسودة وأجازها، وأثنى عليها، وأذن بطباعتها ودراستها لأفراد التنظيم.

 

وأنها حينما التقت المرشد سألته عن سيد وعن المعالم، فقال لها: "على بركة الله... إن هذا الكتاب قد حصر أملي كله في سيد- ربنا يحفظه- لقد قرأته، وأعدت قراءته، إن سيد قطب هو الأمل المرتجى للدعوة الآن إن شاء الله".

 

وأعطاني المرشد ملازم الكتاب فقرأتها، فقد كنت عنده لآخذ الإذن بطباعتها، وقد حبست نفسي في حجرة ببيت المرشد، حتى فرغت من قراءة (معالم في الطريق)"(2).

 

وقد اشتمل كتاب (المعالم) على اثني عشر فصلاً؛ منها أربعة فصول أُخذت من (الظلال) بتغيير طفيف، وهي فصول:

- طبيعة المنهج الرباني.

- التصور الإسلامي والثقافة.

- الجهاد في سبيل الله.

- نشأة المجتمع المسلم وخصائصه.

أما بقية فصول الكتاب الثمانية فهي:

- جيل قرآني فريد.

- لا إله إلا الله منهج حياة.

- شريعة كونية.

- الإسلام هو الحضارة.

- جنسية المسلم عقيدته.

- نقلة بعيدة.

- استعلاء الإيمان.

- هذا هو الطريق.

 

وقد أثار هذا الكتاب ضجةً كبيرةً فور ظهوره، إذ تناوله كُتَّاب السلطة وشيوخها الرسميون، وأصدروا فتاويهم بتجهيل سيد قطب، ومنهم من ضلّله، ومنهم من أكفره(3).

 

وكان المحققون في السجون والمعتقلات يناقشون الإخوان المسلمين المتهمين بأفكار هذا الكتاب، وكانت تزداد عقوبة من اعتنق أفكاره.

 

وقد أخبرني أستاذي الشيخ/ محمد محمد الأزهري- رحمه الله، وكان من المعتقلين في تنظيم الإخوان المسلمين- أن المحققين كانوا يسألون عن كتاب (المعالم)، ومن ثبت أنه يقتنيه، ويعتنق أفكاره؛ يُحكم عليه بالسجن خمسة وعشرين عامًا مع الأشغال(4).

 

ومن عجيب الأمر، أن بعض الجماعات كجماعة (التكفير والهجرة) التي تطلق على نفسها (جماعة المسلمين)، والتي أسسها شكري مصطفى، وكذلك (جماعة الجهاد) التي قامت بقتل الرئيس السادات- رئيس مصر السابق- و(الجماعة الإسلامية) كذلك... كل هؤلاء، قرأوا كتاب (المعالم)؛ ولكنهم خرجوا منه بأقوال غريبة، وأفهام خاطئة، وتأويلات باطلة، وجعلوا ذلك منهاجًا لهم في الدعوة والعمل، ونسبوا هذه الأقوال إلى سيد قطب- وهو منها بريء- وأضرب نموذجًا على ذلك مثل:

- تكفير المسلم الذي لا ينتظم مع الجماعة.

- حرمة العمل في مؤسسات الدولة.

- وجوب العزلة الحسية المادية لأفراد الجماعة عن المجتمع.

- ترك المساجد التي يصلى فيها عامة المسلمين؛ لأنها مساجد ضرار... إلخ.

 

وقد تبيَّن لي بعد قراءة كتاب (المعالم)؛ أن سيدًا لم يقُل بهذا القول في كتابه، وأن ما دعا إليه سيد من العزلة هي العزلة الشعورية لا الحسية.

 

إذ يقول سيد في كتابه ص 176: "ليس لنا أن نجاري الجاهلية في شيء من تصوراتها، ولا في شيء من أوضاعها، ولا في شيء من تقاليدها، مهما يشتد ضغطها علينا.

 

إن وظيفتنا الأولى هي إحلال التصورات الإسلامية والتقاليد الإسلامية في مكان هذه الجاهلية، ولن يتحقق هذا بمجاراة الجاهلية...

 

إن ضغط التصورات الاجتماعية السائدة والتقاليد الاجتماعية الشائعة ضغط ساحق عنيف، وبخاصة في دنيا المرأة... ولكن لا بد مما ليس منه بد.

 

لا بد أن نَثبُت أولاً، ولا بد أن نستعلي ثانيًا، ولا بد أن نُري الجاهلية حقيقة الدرك الذي هي فيه بالقياس إلى الآفاق العليا المشرقة للحياة الإسلامية التي نريدها.

 

ولن يكون هذا بأن نجاري الجاهلية في بعض الخطوات، وكما أنه لن يكون بأن نقاطعها الآن، وننزوي عنها، وننعزل كلاًّ، إنما هي المخالطة مع التميز، والأخذ والعطاء مع الترفع، والصدع بالحق في مودة، والاستعلاء بالإيمان في تواضع".

 

ومما يؤكد ذلك ما ذكره الأستاذ/ عبد الحليم خفاجي في كتابه (عندما غابت الشمس)، إذ يروي أن فريقًا من الشباب بعد أن تعرضوا للتعذيب الشديد من قِبل الجلادين في السجون، لم يروا صلةَّ بين هذه القلوب- قلوب الجلادين- وبين الإسلام، فجرى على ألسنة بعض الشباب وصف هؤلاء بالكفر، وتعدى ذلك الأمر إلى الحكام الظالمين، والمشاركين لهم، والساكتين عن الحق من مجموع هذه الأمة، وأخذوا يسيئون فهم ما ورد في كتب سيد قطب لتدعيم موقفهم، فحمَّلوا الكلمات فوق ما تحتمل، مما جعل الإخوان يرسلون إلى سيد للاستفسار عن حقيقة موقفه، فأرسلوا مع الأخ (إبراهيم الطناني) المُرحَل إلى سجن طرة للعلاج رسائل للأستاذ سيد قطب بتفاصيل تفكير وسلوك هؤلاء الإخوة، فأرسل منكرًا عليهم ذلك قائلاً: "إنهم قد فهموني خطأً".

 

وفي مرة ثانية قال غاضبًا: "لقد وضعت حملي على حصان أعرج.."(5).

 

وقد التقيت الأستاذ (عبد الحليم خفاجي) أثناء زيارته للخرطوم بالسودان سنة 2003م، فأخبرني أنهم أرسلوا الأخ (عبد الحميد محمود متولي) في المرة الثانية إلى الأستاذ سيد قطب لسؤاله عما فهمه هؤلاء الشباب، فقال سيد مُكررًا ما قاله من قبل: "لقد وضعت حملي على حصان أعرج".

 

وقد أكد الأستاذ عمر التلمساني- رحمه الله- بعد لقائه بالشهيد سيد قطب- رحمه الله- أن سيدًا لم يكفر أحدًا قط، كما شهد بذلك الأستاذ محمد مهدي عاكف- المرشد الحالي للإخوان المسلمين- (حفظه الله)، وأكدها لي الأستاذ المهندس محمد أحمد البحيري، وغيرها الكثير من شهادات كبار الإخوان المسلمين.

 

وقد جاء في مقال لجريدة (المسلمون) كلمات للشهيد سيد قطب في تحقيقات النيابة: "ولا بد إذن أن تبدأ الحركات الإسلامية من القاعدة، وهي إحياء مدلول العقيدة الإسلامية في القلوب والعقول، وتربية من يقبل هذه الدعوة وهذه المفهومات الصحيحة تربية إسلامية صحيحة.. وعدم محاولة فرض النظام الإسلامي عن طريق الاستيلاء على الحكم قبل أن تكون القاعدة المسلمة في المجتمعات هي التي تطلب النظام الإسلامي".

 

ومن هنا يظهر جليًّا حقيقة فكر الشهيد سيد قطب من أمر العزلة، أو تكفير المجتمع، وأنه- رحمه الله- كان يدعو للتميز والعزلة الشعورية بالفهم الإسلامي الصحيح الراقي، مع معايشة المجتمع، والقيام بواجب الدعوة فيه دون استعلاء يدعو إلى الكبر، وإنما هو استعلاء بالفهم الصحيح للإسلام؛ وهو الذي يجعلنا لا نقبل بغير الإسلام ونُظمه وتشريعاته بديلاً.

-----------

(1) انظر: سيد قطب، الخباص 322- 323.

(2) أيام من حياتي لزينب الغزالي ص36- 37.

(3) انظر: من الميلاد، الخالدي ص557.

(4) وقد أخبرني بذلك مشافهةً في لقاء لي به بعد صلاة العشاء بمسجد (الحاج داود الريس) بالمطرية دقهلية سنة 1990م.

(5) انظر: عندما غابت الشمس، لعبد الحليم خفاجي ص454- دار الوفاء للطباعة والنشر والتوزيع- المنصورة- مصر، ط: الثانية سنة 1408هـ، 1987م.