سيد قطب وفقهه للواقع

أصدر سيد قطب كتابًا سنة 1951م بعنوان (السلام العالمي والإسلام)، وقد عقد بداخل كتابه هذا فصلاً يحلِّل فيه الإستراتيجية الأمريكية في الهيمنة بعنوان (الآن)، وقد استمد سيد هذه الرؤية من خلال الحرب الأمريكية- الكورية التي كانت أمريكا تُعد لها، وتحشد لها جميع الوسائل.

 

ويبدو لي أن تلك الرؤية الواقعية تصلح لفهم ما يجري في زماننا تجاه فلسطين وأفغانستان والعراق.. إلخ، ويمكن لهذه الرؤية أن تضيف الكثير لتحليل التجارب التاريخية والمواقف السياسية.

 

يقول سيد: "على حافة الهاوية: ناقوس الحرب يدق، ها هو ذا يقرع سمع البشرية المنكودة الطالع، وكل من عاش في أمريكا خلال الأعوام الأخيرة؛ يدرك بوضوح أن أمريكا ستحارب كل شيء ينطق بهذه الحقيقة أو يوحي. إن رؤوس الأموال الأمريكية في حاجة ملحة إلى حرب جديدة هذه هي المسألة. إن الحرب تهيئ للصناعة الأمريكية فرصًا جديدة لمضاعفة الإنتاج، في الوقت الذي تصبح فيه مسألة التصريف مسألةً عسيرةً بغير حروب.

 

فعدم وجود حروب معناه؛ هو الكساد الحقيقي والخسارة المؤكدة لرؤوس الأموال الأمريكي. ويقوم المشروع الأمريكي على ثلاثة محاور هي:

1- تصريف الإنتاج الأمريكي الفائض.

2- اتقاء حالة البطالة بين عمال أمريكا ومصانعها، وبذلك يزداد رأس المال الأمريكي.

3- تعمير أماكن الحروب مرة أخرى فينتعش الاقتصاد الأمريكي.

 

ومن هنا لم يكن بد لأمريكا أن تحارب، وإذا كانت الحرب الكورية- في وقتها- قد اجتذبت نحو مليونين من الأيدي المتعطلة، فإنها لا تصلح وحدها علاجًا للموقف. ولا بد من حرب شاملة تجتذب جميع الأيدي العاملة من جهة، وتضمن لرؤوس الأموال أرباحًا كاملةً من جهة أخرى!!

 

فالحرب بالقياس إلى أمريكا ضرورة حياة قومية، فضلاً عن الرغبة القوية.

 

في وقف تيار الشيوعية- أقول: كان ذلك قبل أن تسقط الشيوعية، أما الآن فحربها موجهة إلى الإسلام بشراسة-. وإذا كانت أوروبا اليوم تتلكأ في الاستجابة لأمريكا، فتؤجل بهذا التلكؤ موعد نشوب الحرب المطلوبة، فإنها لن تتلكأ طويلاً؛ لأنها ستجد نفسها مدفوعة إلى الحرب بنفس الأسباب التي تدفع أمريكا، وفي اليوم الذي يبلغ فيه الإنتاج الأوروبي الرأسمالي ذروته، سيواجه الموقف ذاته بالنسبة للأسواق، وإذا كان فينا من يحسن الظن بأمريكا ويظن أن سيطرتها ستحد من شره الاستعمار، فلينظر كيف تقف أمريكا في صف هذا الاستعمار وكيف تمده بقوة الحديد والنار.

 

ولكن ليس معنى هذا أنه من الخير أن ينتصر المعسكر الشرقي- يقصد الاتحاد السوفيتي- لأنه معسكر لا يريد لنا الخير ولا يبغي أن تكون لنا كرامة. إنه يريد أن نكون جنودًا له، أو عبيدًا له.

 

إن طريق الخلاص للبشرية لن يكون بالانضمام إلى هذا المعسكر أو ذاك. فالمعركة في صميمها لن تدور في أرض أي من القوتين، وإنما ستدور في تركيا وإيران والعراق وسورية ومصر والشمال الأفريقي وفي باكستان وأفغانستان وفي منابع البترول الإيرانية والعربية.

 

إنها ستدمر مواردنا نحن.

 

وماذا على السادة أن تصبح الجماهير وقودًا للحرب الجديدة؟

 

إن الحروب تضاعف أموالهم وتؤدي عنهم الديون التي تثقل أراضيهم وشركاتهم. إن طريق الخلاص هو أن تبرز إلى الوجود من أرض المعركة المنتظرة كتلة تقول: لا‍!!

 

إننا لن نسمح لكم بأن تديروا المعركة على أشلائنا وحطامنا، إننا لن ندع مواردنا تخدم مطامعكم، ولن ندع أجسامنا تطهر حقول ألغامكم ولن نسلمكم رقابنا كالخراف والجداء. إن جيشًا ما لا يأمن أن يدير المعركة في أرض معادية، يتربص به أهلها الدوائر ويتلفون ذخيرته ومؤنه ويحرمونه الهدوء والراحة، سواء سالمهم فتركهم على ما هم فيه، أو تولى الحملة عليهم، ليواجه الثورة الداخلية. ولقد هُزم الجيش الألماني مرتين بسبب الثورات والانتفاضة الداخلية.

 

إن هذه الشعوب- يقصد العربية والإسلامية- التي تعد مئات الملايين والتي تتحكم مواقعها الاستراتيجية في نتائج أية حرب عالمية، وتتحكم مواردها الطبيعية في النصر والهزيمة. إن هذه الشعوب لا تعجز عن شيء حين تريد، وكل قول غير هذا هراء" (1).

 

ويبدو من خلال ما كتبه سيد قدرته الفائقة على استيعاب الأحداث المحيطة وتوقعاتها وتداعياتها، فلا ينشغل بالتداعيات اللحظية أو التفصيلات الدقيقة ضاربًا صفحًا عن سنن الله الكونية وكيفية الاستفادة من الأحداث بنظرة ثاقبة فاحصة.

 

ونلاحظ أن كثيرًا من كلامه يتحقق بشكل أو بآخر في أكثر من موضع، سواء كان ذلك في أفغانستان، أو إيران، أو فلسطين، أو العراق، أو السودان، أو ليبيا أو باكستان حاليًا..... الخ.

 

وفي موضع آخر يتحدث سيد عن الإسلام الذي تريده أمريكا تحت عنوان (إسلام أمريكاني) فيقول:

"الأمريكان وحلفاؤهم مهتمون بالإسلام في هذه الأيام، إنهم في حاجة إليه ليكافح لهم الشيوعية في الشرق الأوسط، بعد ما ظلوا هم يكافحونه تسعة قرون أو يزيد- كان ذلك قبل سقوط الاتحاد السوفيتي-.                          

 

والإسلام الذي يريده الأمريكان وحلفاؤهم في الشرق الأوسط ليس هو الإسلام الذي يقاوم الاستعمار، وليس هو الإسلام الذي يقاوم الطغيان، ولكنه فقط الإسلام الذي يقاوم الشيوعية! (2).

 

إنهم لا يريدون للإسلام أن يحكم، لأن الإسلام حين يحكم سينشئ الشعوب نشأة أخرى، وسَيُعلّم الشعوب أن إعداد القوة فريضة" (3).

 

ومن يقرأ ما كتبه سيد قطب في بداية الخمسينيات، ويسقطه على واقع الأمة الإسلامية اليوم، يجد أن الأمر لم يطرأ عليه قط تغيير يذكر، فما أشبه الليلة بالبارحة، ولكن بعد نصف قرن من هذه المقالة هل استفدنا منها كمسلمين؟.

 

لقد كان سيد نافذ البصيرة، يشخص ويحلل وفق سنن الله الكونية، ويظهر ذلك في مواضع كثيرة من كتاباته، رحم الله سيد قطب وأنزله منازل النبيين والصديقين والشهداء وحسن أولئك رفيقًا.

-------------------

1- نقلاً عن مجلة "المجتمع" الكويتية (باختصار وتصرف) (العدد 1540) (السنة 33) ص 36- 39، بتاريخ: 28 من ذي الحجة 1423هـ- 4 من محرم 1424هـ- 1-7 من مارس سنة 2003م.

2- وقد لاحظنا ذلك جيدًا في العصر الحديث حينما أوحت أمريكا لأتباعها في الشرق الأوسط بالسماح لشباب المسلمين للذهاب إلى أفغانستان باسم الجهاد، فلما قُضي على الاتحاد السوفيتي وانهار، أصبح هؤلاء الشباب متهمين بالإرهاب والتطرف، وأصبحوا مطاردين ورهن الاعتقال والقتل والتشريد، أما حينما دخلت أمريكا إلى العراق، فالمقاومة تُسمى تطرفًا وإرهابًا.

3- دراسات إسلامية- سيد قطب ص 119- 120.