موقف سيد قطب من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر

إن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أعظم أمور هذا الدين، وهذه المهمة التي أرسل الله تعالى من أجلها الرسل؛ لإقامة الدين على وجهه كما أمر الله سبحانه وتعالى، وإذا كان الله تعالى قد أرسل رسله بالدعوة إلى التوحيد، فإن أكبر ما يناقض التوحيد هو الكفر والشرك، ولذا فإن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من لوازم الإيمان- لمن يقدر عليه، ودون أن يترتب عليه منكر أكبر منه- لإقامة التوحيد وهدم المنكر الأكبر وهو الشرك، وقد جعل الله تعالى هذه الأمة خير أمة أخرجت للناس؛ لقيامها بهذا الواجب فقال تعالى: ﴿كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ مِنْهُمْ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمْ الْفَاسِقُونَ (110)﴾ (آل عمران)، ونرى أن الله تعالى قد قرن بين الإيمان به سبحانه وبين الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وجعل ذلك من أسباب الخيرية لهذه الأمة، بل إننا نجد أن الله تعالى قدّم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر على الإيمان به سبحانه، مع أن الإيمان هو أصل الأعمال، ولا يصح عمل إلا به، ولكن ليرشدنا الله إلى أمر يغفل عنه كثير من الناس حتى العالمون منهم، ولقد ضيعت هذه الفريضة عند كثيرين في هذا العصر، إذ قيدوها بأشياء محدودة؛ إما جهلاً وإما اتباعًا لهوى أو شهوةً أو خوفًا من سلطان أو خوفًا من الاتهام بالإرهاب أو الأصولية أو..... إلخ.

 

فالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أمر من الأمور المهمة عند أهل السنة والجماعة في منهجهم، ويتضح بذلك أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر هو الجهاد الدائم المفروض على كل مسلم، ولن تقوم لشريعة الإسلام قائمة إلا بتحقيقه، ولن يكون هنالك اعتصام بحبل الله إلا بهذا الركن الذي أجمع المسلمون على فرضيته، ولم يشذ عن ذلك إلا الشيعة الإمامية الذين قالوا بمنعه؛ حتى ظهور الإمام فيجب بعد ذلك.

 

وهذا الركن فرض على سبيل الكفاية وذلك لقوله تعالى: ﴿وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنْكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ (104)﴾ (آل عمران)، فلم يأمرنا ربنا سبحانه وتعالى أن نكون جميعًا- كأمة مسلمة- قائمين بهذه الفريضة، وذلك من خلال قوله سبحانه: ﴿وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ﴾، ومعنى ذلك أنه إذا قام به أحد أو جماعة سقط الحرج عن الباقين، وإن كان الله سبحانه وتعالى اختص بالفلاح من يقوم به، وهو خاص بكل من يقدر عليه من العلماء وغيرهم بشروطه المشروعة، وذلك لحديث النبي صلى الله عليه وسلم: "من رأى منكم منكرًا فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان"(1)، ولحديثه صلى الله عليه وسلم: "... فمن جاهدهم بيده فهو مؤمن، ومن جاهدهم بلسانه فهو مؤمن، ومن جاهدهم بقلبه فهو مؤمن، وليس وراء ذلك من الإيمان حبة خردل"(2). وبنص حديثيّ النبي صلى الله وسلم؛ يتضح أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من لوازم الإيمان، وأن من ترك هذا الواجب ليس في قلبه من الإيمان حبة خردل، وأقل درجات الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أن يتغير القلب ويتألم لرؤية المنكر، كما يتضح أن حسم المنكر يكون بما يحسم به بداية من الإنكار باللسان إلى الإنكار بالسيف، ولكن مع مراعاة النصح والإرشاد والصبر على ذلك حينًا؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يرى بمكة أكبر المنكرات، ولا يستطيع تغييرها بل لما فتح الله عليه مكة، وصارت دار إسلام عزم النبي صلى الله عليه وسلم على تغيير البيت ورده إلى قواعد إبراهيم ومنعه من ذلك مع قدرته عليه خشيته وقوع ما هو أعظم منه، ومن عدم احتمال قريش لذلك لقرب عهدهم بالإسلام، وكونهم حديثي عهد بكفر، ولهذا لم يأذن الإسلام في الإنكار على الأمراء باليد لما يترتب عليه من وقوع ما هو أعظم منه.

 

وقد قسم الإمام ابن القيم (رحمه الله) إنكار المنكر إلى أربع درجات:

الأول: أن يزول أو يخلفه معروف.

الثاني: أن يقل وإن لم يزل بجملته.

الثالث: أن يتساويا.

الرابع: أن يخلفه ما هو أشر منه.

 

وذكر أن الدرجتين الأوليين مشروعتان، والثالثة موضع اجتهاد، والرابعة محرمة (3).

 

ومن العجيب أن بعض المنتسبين للعمل الإسلامي ينكر على سيد إنكاره للمنكر وأمره بالمعروف، وقد شط هؤلاء فجعلوا دعوة سيد دعوة ثورية تقوم على هدم النظم القائمة، وذلك بإحداث الانقلابات والفتن والثورات لتغير الأنظمة القائمة ومحاربة المجتمع.. إلخ(4). وقد ذكر ربيع المدخلي كلامًا يقول فيه: "ثم دأب- يعني سيدًا- في جل مؤلفاته على أساليب ثورية تهيجية تكفيرية يعرفها كل من قرأ كتبه.. وما كتابه (معركة الإسلام والرأسمالية) إلا تهييج وثورة، ثم سخرية بالعلماء في الوقت نفسه، وذلك ركن من أركان ثورته"(5) ثم يعلق ربيع في حاشية الصفحة فيقول: "هكذا يجعل الإسلام مطية القومية والوطنية والأغراض الشخصية تملقًا للجماهير المكونة من كل الفئات"(6)، ومن الملاحظ أن ربيع المدخلي لم يلتزم بأمانة النقل، حتى إنه قام بحذف الكلمات والعبارات التوضيحية التي ذكرها سيد أثناء خطابه وكتابته، حتى إن ربيعًا ذكر أن سيدًا وأعوانه وأصحابه من الضباط الأحرار الذين جعلهم ربيع من الإخوان المسلمين قاموا بالثورة وقلب نظام الحكم، ولكن من سيئ إلى أسوأ.... إلخ.

 

وما يعنيني هنا أن ربيعًا قد أنكر على سيد قيامه بهذا الواجب، ولذا فسأرجع إلى سيد، ومن ثم أقوم بعرض قوله على كتاب الله وسنة رسول الله عليه وسلم، ثم أقوال الأئمة الثقات، وأنظر: هل اتفق سيد مع هؤلاء وقال بقولهم أم خالفهم؟.

 

ففي قوله تعالى: ﴿وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لا تَعْبُدُونَ إِلاَّ اللَّهَ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا﴾ (البقرة: من الآية  83) يقول سيد: "لقد تضمن ميثاق الله معهم ألا يعبدوا إلا الله.. القاعدة الأولى للتوحيد المطلق، وتضمن الإحسان إلى الوالدين وذوي القربى واليتامى والمساكين. تضمن خطاب الناس بالحسنى وفي أولها الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.. كذلك تضمن فريضة الصلاة وفريضة الزكاة، وهذه في مجموعها هي قواعد الإسلام وتكاليفه"(7). وأجد أن سيدًا يعد الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من أهم قواعد الإسلام وتكاليفه، وفي موضع آخر يتحدث سيد عن فردية التبعة، وأن كل إنسان في المجتمع يجب أن يقوم بما عليه تجاه نفسه وتجاه دينه ودعوته وتجاه الجماعة، ثم يجعل ذلك من مقتضيات الإيمان فيقول: "فمن مقتضيات الإيمان أن ينهض كل فرد في الجماعة بحق الجماعة عليه، بوصفه طرفًا من حق الله في نفسه، فهو مأمور أن يتكافل مع الجماعة في ماله وكسبه، وجهده ونصحه، وفي إحقاق الحق في المجتمع، وإزهاق الباطل في تثبيت الخير والبر، وإزاحة الشر والمنكر... وكل أولئك يحسب له أو عليه في صحيفته يوم يلقى الله فيتلقى هنالك جزاءُه!"(8). وأجده يتحدث عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ويجعل ذلك من واجبات السلطان، فليس كل إنسان مخولاً له بالأمر والنهي إلا إذا أمنت الفتنة وشريطة ألا يترتب على تغيير المنكر منكر أكبر، أو حتى مساوٍ له كما قال العلماء.. ففي قوله تعالى: ﴿وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنْكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ (104)﴾ (آل عمران) يقول سيد: "فلا بد من جماعة تدعو إلى الخير وتأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر، لا بد من سلطة في الأرض تدعو إلى الخير، وتأمر بالمعروف، وتنهى عن المنكر، والذي يقرر أنه لا بد من سلطة هو مدلول النص القرآني ذاته. فهناك (دعوة) إلى الخير، ولكن هناك كذلك (أمر) بالمعروف، وهناك (نهي) عن المنكر، وإذا أمكن أن يقوم بالدعوة غير ذي سلطان فإن (الأمر والنهي) لا يقوم بهما إلا ذو سلطان.

 

هذا هو تصور الإسلام للمسألة.. إنه لا بد من سلطة تأمر وتنهى، سلطة تقوم على الدعوة إلى الخير والنهي عن الشر، سلطة تتجمع وحداتها وترتبط بحبل الله وحبل الأخوة في الله، سلطة تقوم على هاتين الركيزتين مجتمعتين لتحقيق منهج الله في حياة البشر، ثم يتحدث سيد عن أهمية وجود هذه السلطة ويبيّن أن من فوائدها: ".. القيام بسلطة الأمر والنهي على تحقيق المعروف ونفي المنكر من الحياة البشرية، وصيانة تقاليد الجماعة الخيرة من أن يعبث بها كل ذي هوى وكل ذي شهوة وكل ذي مصلحة، وضمانة هذه التقاليد الصالحة من أن يقول فيها كل امرئ برأيه وبتصوره، زاعمًا أن هذا هو الخير والمعروف والصواب!"(9).

 

ثم يبيّن سيد أن هذه الدعوة بما فيها من أمر بمعروف ونهي عن المنكر تكليف ليس باليسير، وذلك لتفاوت أحوال الناس ونزواتهم وشهواتهم ونشاطهم وفتورهم، وأن فيهم العادل والظالم والسليم والمريض والمستقيم والمعوج والمنحرف، ثم يبيّن أنه لا فلاح لهذه الأمة إلا بالأخذ بهاتين الركيزتين؛ الإيمان بالله، والأخوة فيه، ثم القيام على هذا الأمر العسير الشاق بقوة الحب والألفة بعد قوة الإيمان والتقوى(10).

 

وسيد في دعوته لا يطلق الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر على غير أساس أو بغير ضوابط، وإنما يضع لذلك ميزانًا يقيس به الأمور ففي قوله تعالى: ﴿كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ﴾ (آل عمران: من الآية 110) يقول في تفسيره: "فهو النهوض بتكاليف الأمة الخيرة، بكل ما وراء هذه التكاليف من متاعب وبكل ما في طريقها من أشواك.. إنه التعرض للشر والتحريض على الخير وصيانة المجتمع من عوامل الفساد.. وكل هذا متعب شاق، ولكنه كذلك ضروري لإقامة المجتمع الصالح وصيانته، ولتحقيق الصورة التي يحب الله أن تكون عليها الحياة، ولا بد من الإيمان بالله ليوضع الميزان الصحيح للقيم، والتعريف الصحيح للمعروف والمنكر، فإن اصطلاح الجماعة وحده لا يكفي؛ فقد يُعم الفساد حتى تضطرب الموازين وتختل، ولا بد من الرجوع إلى تصور ثابت للخير وللشر وللفضيلة والرذيلة، وللمعروف والمنكر، يستند إلى قاعدة أخرى غير اصطلاح الناس في جيل من الأجيال، وهذا ما يحققه الإيمان بإقامة تصور صحيح للوجود وعلاقته بخالقه.... ومن هذا التصور العام تنبثق القواعد الأخلاقية، ومن الباعث على إرضاء الله وتوقي غضبه يندفع الناس لتحقيق هذه القواعد....." (11). ثم يستطرد سيد فيبيّن أنه إن كانت الجماعة المؤمنة قد انتدبها الله تعالى للقيام بهذا التكليف في آية سابقة، فالله تعالى: هنا في هذه الآية جعل هذا التكليف وصفًا لها، فهي لا توجد وجودًا حقيقيًّا إلا بالقيام بواجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ثم استدل على هذا الواجب بعدة أحاديث وردت عن النبي صلى الله عليه وسلم منها: قوله صلى الله عليه وسلم: "من رأى منكم منكرًاً فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان"(12). وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لما وقعت بنو إسرائيل في المعاصي نهتهم علماؤهم فلم ينتهوا، فجالسوهم وواكلوهم وشاربوهم، فضرب الله تعالى قلوب بعضهم ببعض، ولعنهم على لسان داود وسليمان وعيسى بن مريم..." ثم جلس- وكان متكئًا- فقال: "لا والذي نفسي بيده حتى تأطروهم على الحق أطرًا" (13) أي تعطفوهم وتردوهم.

 

وعن حذيفة رضي لله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "والذي نفسي بيده لتأمُرُنَّ بالمعروف، ولتنهون عن المنكر، أو ليوشكن الله أن يبعث عليكم عقابًا منه، ثم تدعونه فلا يستجيب لكم"(14). وحديث: "إن من أعظم الجهاد كلمة حق عند سلطان جائر"(15). وحديث: "سيد الشهداء حمزة، ورجل قام إلى سلطان جائر فأمره ونهاه فقتله"(16). وكل ذلك من أجل التأكيد على أهمية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر (17). ويتحدث سيد عن بني إسرائيل في سورة المائدة، وموقف علمائهم منهم، وعدم إنكارهم عليهم وهم يسارعون في الإثم والعدوان ويأكلون السحت، ويبيّن أن العلة لديهم تكمن في أنهم كانوا لا يتناهون عن منكر فعلوه، ثم يعقد المقارنة بين مجتمعهم وما آل إليه من زوال؛ بسبب تركهم لهذا الواجب، وبين المجتمع الذي يريده الله تعالى الذي من سمات الإيمان بالله والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وأن هذا الواجب لو ترك فسيؤدي ذلك إلى فساد المجتمع(18).

 

ثم يبيّن في موضع آخر أن سبب اللعنة التي استحقها بنو إسرائيل على لسان عيسى ابن مريم ومن قبله داود- عليهما وعلى نبينا أفضل الصلاة والسلام- أنهم تركوا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فيما بينهم، ومع استدلاله بالآيات استدل بعدة أحاديث للنبي صلى الله عليه وسلم (19).

 

وفي قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ﴾ (المائدة: من الآية 105) يبيّن سيد أنها لا تسقط عن الأمة، ولا عن الفرد التبعة في مقاومة الشر وجهاده، ثم شرع يبيّن قول أبي بكر رضي الله عنه في توضيح الآية، كما جاء عند أصحاب السنن أن أبا بكر رضي الله عنه قام فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: "أيها الناس إنكم تقرأون هذه الآية: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ﴾، وإنكم تضعونها على غير موضعها، وإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إن الناس إذا رأوا المنكر ولا يغيرونه، يوشك الله عز وجل أن يعمهم بعقابه" (20).

 

.. ثم يعقب سيد قائلاً: "وهكذا صحح الخليفة الأول رضوان الله عليه ما ترامى إلى وهم بعض الناس في زمانه من هذه الآية الكريمة، ونحن اليوم أحوج إلى هذا التصحيح؛ لأن القيام بتكاليف التغيير للمنكر قد صارت أشق فما أيسر ما يلجأ الضعاف إلى تأويل هذه الآية على النحو الذي يعفيهم من تعب الجهاد ومشاقه، ويريحهم من عنت الجهاد وبلائه!"(21). ثم يبيّن في آخر المطاف أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يحتاج إلى أدب فيقول: "ومع الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والصبر على المصائب الأدب الواجب؛ أدب الداعي إلى الله، ألا يتطاول على الناس، فيفسد بالقدوة ما يصلح بالعمل" (22).

 

وبعد هذا العرض السريع والموجز لما جاء في كلام سيد يجدر بنا أن ننظر في أقوال العلماء الأثبات وهم يتحدثون عن هذا الواجـب، ونستهل ذلك بكلام للإمام ابن تيمية يقول فيه: "وكذلك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، لا يجب على كل أحد بعينه، بل هو على الكفاية كما دل عليه القرآن، ولما كان الجهاد من تمام ذلك كان الجهاد أيضًا كذلك، فإذا لم يقم به من يقوم بواجبه أثم كل قادر بحسب قدرته، إذ هو واجب على كل إنسان بحسب قدرته كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: "من رأى منكم منكرًا فليغيره فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان"(23) (24). ونجد هناك اتفاقًا بين ما قاله سيد بأن هذا الأمر يحتاج إلى سلطان وبين ما قاله ابن تيمية، كما نجد اتفاقًا بينهما على أن هذا الواجب لا يجب على كل أحد بعينه.. وفي موضع آخر يقول ابن تيمية: "وهذا واجب على كل مسلم قادر، وهو فرض على الكفاية، ويصير فرض عين على القادر الذي لم يقم به غيره. والقدرة: السلطان والولاية، فذوو السلطان أقدر من غيرهم وعليهم من الوجوب ما ليس على غيرهم، فإن مناط الوجوب هو القدرة فيجب على كل إنسان بحسب قدرته"(25)، وأجد الإمام النووي يبيّن لنا رأي العلماء في هذه المسألة فيقول: "قال العلماء رضي الله عنهم: لا يسقط عن المكلف الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ لكونه لا يفيد في ظنه، بل يجب عليه فعله، فإن الذكرى تنفع المؤمنين، وقد قدمنا أن الذي عليه الأمر والنهي لا القبول"(26)، بل الإمام الجصاص ذكر فرضية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر على البر والفاجر فيقول: "ثبت بما قدمنا ذكره من القرآن والآثار الواردة عن النبي صلى الله عليه وسلم وجوب فرض الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وبيَّنا أنه فرض على سبيل الكفاية إذا قام به البعض سقط عن الباقين، وجب ألا يختلف في لزوم فرضه البر والفاجر؛ لأن ترك الإنسان لبعض الفروض لا يسقط عنه فروضًا غيره ألا ترى أن تركه للصلاة لا يسقط عنه فرض الصوم وسائر العبادات؟ فكذلك من لم يفعل سائر المعروف، ولم ينته عن سائر المناكير، فإن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر غير ساقطة عنه"(27).

 

وقد ذهب الجصاص إلى أبعد مما ذكره سيد إذ جعل هذا الواجب على كل أحد من الناس برهم وفاجرهم، وقد نقل لنا الإمام القرطبي عن ابن عبد البر الإجماع على الوجوب فيقول: "أجمع المسلمون فيما ذكر ابن البر أن المنكر واجب تغييره على كل من قدر عليه، وأنه إذا لم يلحقه بالتغيير إلا اللوم الذي لا يتعدى إلى الأذى؛ فإن ذلك لا يجب أن يمنعه من تغييره، فإن لم يقدر فبلسانه، فإن لم يقدر فبقلبه، ليس عليه أكثر من ذلك، وإذا أنكر بقلبه؛ فإنه قد أدى ما عليه إذا لم يستطع سوى ذلك، قال: والأحاديث في تأكيد الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر كثيرة جدًّا، ولكنها مقيدة بالاستطاعة"(28).

 

غير أنني أُذكِّر أن مسائل الاجتهاد لا إنكار فيها كما قال الإمام ابن تيمية: "مسائل الاجتهاد من عمل فيها بقول بعض العلماء لم يُنكر عليه ولم يُهجر، ومن عمل بأحد القولين لم يُنكر عليه، فإن كان الإنسان يظهر له رجحان أحد القولين عمل به، وإلا قلد بعض العلماء الذين يعتمد عليهم في بيان أرجح القولين"(29).

 

وفي موضع آخر يقول: "وأما الاختلاف في الأحكام فأكثر من أن ينضبط، ولو كان كلما اختلف مسلمان في شيء تهاجرا لم يبق بين المسلمين عصمة ولا أخوة"(30).

 

وأقوال العلماء في ذلك كثيرة غير أنني أكتفي بما ذكرته منها؛ حيث يتفق سيد مع هؤلاء الأعلام وغيرهم في أهمية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ووجوب ذلك للقادر عليه، وباستحباب ذلك إن ترتب عليه أذى أو مشقة، ومثل هذا من يقوم إلى سلطان فيأمره وينهاه فيُقتل كما جاء في الحديث النبوي (31). وأرى أن سيدًا لم يخالف أهل السنة في هذه القضية؛ حيث عرضها متوازنة، مستدلاً على أقواله بما جاء في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم.

-------------

1- رواه مسلم: 1/69 كتاب الإيمان/ باب: بيان كون النهي عن المنكر من الإيمان رقم: 49.

2- رواه مسلم: 1/69 كتاب الإيمان/ باب: بيان كون النهي عن المنكر من الإيمان رقم: 50.

3- انظر: إعلام الموقعين عن رب العالمين للإمام ابن القيم 3/2-4 إشراف مكتب البحوث والدراسات باعتناء صدقي محمد جميل العطار، دار الفكر- بيروت- لبنان، ط: الأولى 1425 هـ 1997 م

4- انظر: العواصم مما في كتب سيد قطب من القواصم الربيع المدخلي ص: 121- 127، 133- 137، وانظر فتنة التكفير والحاكمية لمحمد بن عبد الله الحسين ص: 105- 106.

5- العواصم مما في كتب سيد قطب من القواصم لربيع المدخلي ص: 150- 151.

6- العواصم مما في كتب سيد قطب من القواصم لربيع المدخلي ص: 151.

7- الظلال: 1/87.

8- الظلال: 1/345.

9- الظلال: 1/444.

10- انظر: الظلال 1/444.

11- الظلال: 1/447.

12- رواه مسلم: 1/69 كتاب الإيمان/ باب: بيان كون النهي عن المنكر من الإيمان رقم: 49.

13- رواه: أبو داود 4/124 كتاب الملاحم/ باب الأمر والنهي حديث رقم 4344، والترمذي 4/471 كتاب الفتن باب أفضل الجهاد كلمة عدل.. برقم 2174.

14- رواه الترمذي 4/468 كتاب/ الفتن، باب/ ما جاء في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر رقم 2169، وأحمد في مسنده 5/388  في حديث حذيفة رقم 23349.

15- رواه أبو داود 4/124 كتاب/ الملاحم، باب/ الأمر والنهي، حديث رقم 4344.
والترمذي 4/471 كتاب/ الفتن، باب/ أفضل الجهاد كلمة عدل.... برقم 2174.

16- رواه: الحاكم في المستدرك على الصحيحين 3/215 ذكر إسلام حمزة بن عبد المطلب رقم 4884 المستدرك على الصحيحين لمحمد بن عبد الله أبو عبد الله الحاكم النيسابوري- دار الكتب العلمية- بيروت-1411هـ 1991م ط الأولى بتحقيق مصطفى القادر عطا.

17- انظر: الظلال 1/448.

18- انظر: الظلال 2/928- 929.

19- انظر: الظلال 2/947- 951.

20- رواه أبو داود 4/122 كتاب الملاحم/ باب الأمر والنهي رقم 4338 والترمذي 5/256 كتاب التفسير/ باب تفسير سورة المائدة رقم 3057.

21- الظلال: 2/992.

22- الظلال: 5/2782.

23- رواه مسلم: 1/69 كتاب الإيمان/ باب: بيان كون النهى عن المنكر من الإيمان رقم: 49.

24- مجموع الفتاوى لابن تيمية 28/126.

25- مجموع الفتاوى لابن تيمية 28/126.

26- شرح النووي على صحيح مسلم 2/23.

27- أحكام القرآن للجصاص 2/320.

28- تفسير القرطبي 4/48.

29- مجموع الفتاوى لابن تيمية 20/257.

30- مجموع الفتاوى لابن تيمية 24/173.

31- رواه الحاكم في المستدرك على الصحيحين 3/215 ذكر إسلام حمزة بن عبد المطلب رقم 4884.