موقف سيد قطب من الحاكمية

الإسلام ليس مجرد عقيدة وجدانية منعزلة عن الحياة البشرية، فالعقيدة أصل الدين ومنها تنبثق الشريعة التي تنظم شئون الحياة، مثلها في شجرة الإسلام كالجذع من الأغصان والثمار، فإذا صحت العقيدة ورسخت في القلب اشتد ساقها وأورقت فروعها وأزهرت وأثمرت ولا يكون ذلك إلا بالاستقامة على منهج الله والوقوف عند حدوده والالتزام بشرائعه وما من رسول بُعث بعقيدة مجردة عن الأحكام والتشريعات العملية، وإنما تبعث العقيدة مقرونة بما تقتضيه من أحكام وسلوك في فترة الرسالة، كما جاء في قوله تعالى لعيسى عليه السلام: ﴿وَمُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنْ التَّوْرَاةِ وَلأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ﴾ (آل عمران: من الآية 50)، وقد جاء في التوراة كما بين الله تعالى في القرآن الكريم: ﴿وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالأَنفَ بِالأَنفِ وَالأُذُنَ بِالأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ﴾ (المائدة: من الآية 45).

 

ومن هنا كثر إيراد لفظ الحاكمية في أقوال سيد وكتاباته غير أننا نجد من يدعي على سيد بأنه بحديثه عن الحاكمية وأمور الحكم يدعو دعوة صريحة للشروع في إحداث الانقلابات والثورات لتغيير أنظمة الحكومات القائمة.. ثم يصف هذه الدعوة بالسذاجة ويتعجب الكاتب فيقول: "والغريب أنه بالرغم من هذا التهييج والتحريض الصريح من هذا الرجل رُُفِع شأنه ووُفِرت كتبه كمراجع بالمكتبات ومطالعات إضافية وغير ذلك.. ناهيك عن المكتبات العامة والخاصة التي تمتلئ بكتبه وأمثاله كالبنا وسعيد حوى وغيرهم" (1).

 

فما مدى موافقة سيد أو مخالفته للنصوص ولأقوال الأئمة الثقات من علماء السلف..
إن مصطلح (الحاكمية) عند سيد له معنى محدد يقصده ويعرف معناه ومدلوله وقد بينه في عدة مواضع في الظلال أختار منها: في تفسيره لسورة البقرة وفي قوله تعالى ﴿اللَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلاَّ بِمَا شَاءَ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَلا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ (255)﴾ (البقرة) يقول: "هذه الوحدانية الحاسمة الناصعة هي القاعدة التي يقوم عليها التصور الإسلامي والتي ينبثق منها منهج الإسلام للحياة كلها. فعن هذا التصور ينشأ الاتجاه إلى الله وحده بالعبودية والعبادة. فلا يكون إنسان عبدًا إلا لله ولا يتجه بالعبادة إلا لله ولا يلتزم بطاعة إلا طاعة الله، وما يأمره الله به من الطاعات، وعن هذا التصور تنشأ قاعدة: الحاكمية لله وحده، فيكون الله وحده هو المشرع للعباد ويجيء تشريع البشر مستمدًا من شريعة الله. وعن هذا التصور تنشأ قاعدة استمداد القيم كلها من الله، فلا اعتبار لقيمة من قيم الحياة كلها إذا لم تُقبل في ميزان الله، ولا شرعية لوضع أو تقليد أو تنظيم يخالف عن منهج الله"(2).

 

ويبين سيد في موضع آخر ما يقصد بالطاغوت فبيّن أنه الحكم الذي يقوم على غير شريعة الله فيقول عن أهل الكتاب: "وكانوا يؤمنون بالطاغوت وهو هذا الحكم الذي يقوم على غير شريعة الله.. وهو طاغوت لما فيه من طغيان- بادعاء الإنسان إحدى خصائص الألوهية- وهي الحاكمية- وبعدم انضباطه بحدود من شرع الله تلزمه العدل والحق فهو طغيان وهو طاغوت" (3).

 

وأجد سيدًا هنا يتحدث عن الحاكمية بأنها إحدى خصائص الألوهية، ولم يقل: إن الحاكمية هي كل خصائص الألوهية. وقد فهم البعض خطأ من كلام سيد أنه يقول بعدم جواز الحكم من غير الله أي أنه لا يصلح أن يكون هناك حاكم من البشر وأن الحاكم هو الله. وسيد لم يقل ذلك وإنما يقصد أن هناك من البشر من يحكم ولكنه يحكم بشرع الله ومنهجه فيقول: "ومملكة الله في الأرض لا تقوم بأن يتولى الحاكمية في الأرض رجال بأعينهم- هم رجال الدين كما كان الأمر في سلطان الكنيسة. ولا رجال ينطقون باسم الآلهة كما كان الحال في ما يعرف باسم الحكم الإلهي المقدس!! ولكنها تقوم بأن تكون شريعة الله هي الحاكمة، وأن يكون مرد الأمر إلى الله وفق ما قرره من شريعة مبينة" (4).

 

ولا أدري كيف فهم هؤلاء أن معنى الحاكمية أن يكون الله تعالى حاكمًا مباشرًا أو أن الحكام من البشر يملكون حق التشريع المطلق أو المغفرة للناس أو غير ذلك مما يفعله رجال الدين في الكنيسة؟

 

ويؤكد سيد هذا المعنى كما بين أنه لا يجوز حق التشريع خلافًا لما شرعه الله. لا من الحاكم ولا من الهيئات أو الأحزاب أو المؤسسات أو حتى الأمة". فيقول في تفسير قوله تعالى ﴿إِنْ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلَّهِ﴾ (يوسف: من الآية 40): "إن الحكم لا يكون إلا لله، فهو مقصور عليه سبحانه بحكم ألوهيته. إذ الحاكمية من خصائص الألوهية. من أدعى الحق فيها فقد نازع الله سبحانه أولى خصائص ألوهيته. سواء ادعى هذا الحق: فرد، أو طبقة، أو حزب، أو هيئة، أو أمة، أو الناس جميعًا في صورة منظمة عالمية. ومن نازع الله سبحانه أولى خصائص ألوهيته وادعاها فقد كفر كفرًا بواحًا..... وادعاء هذا الحق لا يكون بصورة واحدة هي التي تخرج المدعي من دائرة الدين القيم وتجعله منازعًا لله في أولى خصائص ألوهيته سبحانه- فليس من الضروري أن يقول: ما علمت لكم من إله غيري، أو يقول: أنا ربكم الأعلى، كما قالها فرعون جهرة. ولكنه يدعي هذا الحق وينازع الله فيه بمجرد أن ينحي شريعة الله عن الحاكمية ويستمد القوانين من مصدر آخر. وبمجرد أن يقرر أن الجهة التي تملك الحاكمية أي التي تكون هي مصدر السلطات، جهة أخرى غير الله سبحانه.. ولو كان هو مجموع الأمة أو مجموع البشرية. والأمة في النظام الإسلامي هي التي تختار الحاكم فتعطيه شرعية مزاولة الحكم بشريعة الله ولكنها ليست هي مصدر الحاكمية التي تعطي القانون شرعيته. إنما مصدر الحاكمية هو الله. وكثيرون حتى من الباحثين المسلمين يخلطون بين مزاولة السلطة وبين مصدر السلطات. فالناس بجملتهم لا يملكون حق الحاكمية إنما يملكه الله وحده. والناس إنما يزاولون تطبيق ما شرعه الله بسلطانه، أما ما لم يشرعه الله فلا سلطان له ولا شرعية، وما أنزل الله به من سلطان.." (5).

 

 الصورة غير متاحة

فمقصود سيد بالحاكمية هو إفراد الله وحده بالحكم والتشريع واستمداد كل التشريعات والمناهج والنظم من الله وحده وتنفيذ شريعته في جميع مناحي الحياة. ثم يتجه سيد إلى التعريف بخصائص الألوهية ويجعل في مقدمتها (الحكم) وذلك في سورة يوسف في قوله تعالى: ﴿مَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلاَّ أَسْمَاءً سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ إِنْ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلَّهِ أَمَرَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ﴾ (يوسف: من الآية 40) فيقول: "وفي السورة تعريف بخصائص الألوهية وفي مقدمتها (الحكم) وهو يرد مرة على لسان يوسف عليه السلام بمعنى الحاكمية في العباد من ناحية دينونتهم وطاعتهم الإرادية ويأتي مرة على لسان يعقوب عليه السلام بمعنى الحاكمية في العباد من ناحية دينونتهم لله في صورتها القهرية القدرية- في قوله: ﴿وَقَالَ يَا بَنِي لا تَدْخُلُوا مِنْ بَابٍ وَاحِدٍ وَادْخُلُوا مِنْ أَبْوَابٍ مُتَفَرِّقَةٍ وَمَا أُغْنِي عَنكُمْ مِنْ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ إِنْ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَعَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلْ الْمُتَوَكِّلُونَ (67)﴾ (يوسف)- فيتكامل المعنيان في تقرير مدلول الحكم وحقيقة الألوهية على هذا النحو الذي لا يجيء عفوًا ولا مصادفة أبدًا."(6)، فتشتمل الحاكمية على جانبين:

الأول: دينونة العباد لله تعالى في الجانب القدري من حياتهم.

والثاني: دينونة العباد لله تعالى في الجانب الإرادي من حياتهم.

 

وإن كان سيد قد قصر الحاكمية على الله وحده فهو لم يأت بشيء من عنده، وإنما استدل على ذلك بقوله تعالى: ﴿أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ﴾ (الأعراف: من الآية 54). فكما أن الله تعالى هو الخالق والمالك والرازق.. إذن فهو صاحب الحكم والتشريع. قال تعالى: ﴿أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ (14)﴾ (الملك) فالله تعالى هو الذي خلق الخلق وهو سبحانه أعلم بما يصلحهم وما يفسدهم ولذلك أنزل إليهم هذا المنهج القويم ليسيروا على نهجه ويهتدوا بهداه.

 

ومن ناحية اللغة: أجد سيدًا يستدل بالقرآن الكريم على أن من يجعل لنفسه حق التشريع بما يخالف الكتاب والسنة يجعل من نفسه ندًّا لله وذلك في تفسير قوله تعالى: ﴿قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ قُلْ لا أَتَّبِعُ أَهْوَاءَكُمْ قَدْ ضَلَلْتُ إِذًا وَمَا أَنَا مِنْ الْمُهْتَدِينَ (56)﴾ (الأنعام).

 

فيقول: "يستوقف النظر كلمة (الذين) إذ تطلق على العقلاء. ولو كان المقصود هي الأوثان والأصنام وما إليها لعبر بـ(ما) بدل (الذين).. فلا بد أن يكون المقصود بالذين نوعًا آخر- مع الأصنام والأوثان وما إليها- نوعًا من العقلاء الذين يعبر عنهم بالاسم الموصول (الذين) فغلب العقلاء، ووصف الجميع بوصف العقلاء..!" (7)، ومعلوم من خلال آيات القرآن الكريم أن هذه الأصنام والأوثان التي كانت تعبد في الجاهلية هي لأناس صالحين من آبائهم وأجدادهم تخليدًا لها وتكريمًا ثم تحول الأمر إلى عبادتها وقالوا:-

 

كما جاء في القرآن الكريم ﴿مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى﴾ (الزمر:من الآية 3).

 

وقد قام سيد بالربط بين الحاكمية وبين العقيدة الإسلامية لإظهار أهمية الحكم في الإسلام وقد جاء في حديث النبي صلى الله عليه وسلم "لتنقضن عُرى الإسلام عُروة عروة فكلما انتقضت عروة تشبث الناس بالتي تليها وأولهن نقضًا الحكم وآخرهن الصلاة" (8).

 

وبعد استعراض سريع لبعض أقوال سيد أنتقل إلى أقوال الأئمة والعلماء لنرى مدى موافقتهم لسيد أو مخالفتهم له في أمر الحكم وأهميته وهل يجوز لنا أن نستخدم كلمة الحاكمية كمصطلح من المصطلحات أو لا؟

 

يقول شارح الطحاوية: "وهنا أمر يجب أن يتفطن له، وهو: أن الحكم بغير ما أنزل الله قد يكون كفرًا ينقل عن الملة وقد يكون معصية: كبيرة أو صغيرة، ويكون كفرًا إما مجازيًّا وإما كفرًا أصغر على القولين المذكورين، وذلك بحسب حال الحاكم: فإنه إن اعتقد أن الحكم بما أنزل الله غير واجب وأنه مخير فيه أو استهان به مع تيقنه أنه حكم الله فهذا كفر أكبر.

 

وإن اعتقد وجوب الحكم بما أنزل الله وعلمه في هذه الواقعة وعدل عنه مع اعترافه بأنه مستحق للعقوبة فهذا عاصٍ ويسمى كافرًا كفرًا مجازيًّا أو كفرًا أصغر، وإن جهل حكم الله فيها مع بذل جهده واستفراغ وسعه في معرفة الحكم وأخطأه فهذا مخطئ له أجر على اجتهاده وخطؤه مغفور"(9)، وقد بيّن شارح الطحاوية أهمية الحكم بما أنزل الله كما بيّن أنه من أمور العقيدة، ثم متى يكون الكفر كفرًا أكبر يخرج من الملة ومتى يكون كفرًا أصغر لا يخرج من الملة.

 

وفي قوله تعالى: ﴿وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْكَافِرُونَ﴾ (المائدة: من الآية 44) يقول الإمام ابن تيمية: "ولا ريب أن من لم يعتقد وجوب الحكم بما أنزل الله على رسوله فهو كافر، فإنه ما من أمة إلا وهي تأمر بالحكم بالعدل وقد يكون العدل في دينها ما رآه أكابرهم، بل كثير منهم من المنتسبين للإسلام يحكمون بعاداتهم التي لم ينزلها الله، كسواليف البادية، ويرون أن هذا هو الذي ينبغي الحكم به دون الكتاب والسنة وهذا هو الكفر، فإن كثيرًا من الناس أسلموا ولكن لا يحكمون إلا بالعادات الجارية التي يأمر بها المطاعون، فهؤلاء إذا عرفوا أنه لا يجوز لهم الحكم إلا بما أنزل الله فلم يلتزموا ذلك، بل استحلوا أن يحكموا بخلاف ما أنزل الله فهم كفّار" (10).. ويقول الحافظ ابن كثير (رحمه الله) عند تفسير قوله تعالى: ﴿أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنْ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (50)﴾ (المائدة): "ينكر تعالى على من خرج عن حكم الله المحكم المشتمل على كل خير، الناهي عن كل شر وعدل إلى ما سواه من الآراء والأهواء والاصطلاحات التي وضعها الرجال بلا مستند من شريعة الله كما كان أهل الجاهلية يحكمون به من الضلالات والجهالات بما يضعونها بآرائهم وأهوائهم.... فمن فعل ذلك فهو كافر يجب قتاله حتى يرجع إلى حكم الله ورسوله فلا يُحكّم سواه في قليل ولا كثير" (11).

 

وأجد هنا اتفاقًا بين ما قاله ابن كثير وما قاله شارح الطحاوية وما قاله ابن تيمية، بل إننا نجد في عصرنا الحاضر من علمائنا من يؤكد أن الحكم من مسائل العقيدة الهامة كالعلامة: أحمد محمد شاكر في رده على الذين ينكرون حد السرقة في كلام طويل نأخذ منه قوله: "ويقول تعالى: ﴿وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالاً مِنْ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (38)﴾ (المائدة)، فالله سبحانه وهو خالق الخلق وهو أعلم بهم وهو العزيز الحكيم يجعل هذه العقوبة للتنكيل بالسارقين نصًّا صريحًا قاطعًا، فأين يذهب هؤلاء الناس. المسألة عندنا- نحن المسلمين- هي من صميم العقيدة، ومن صميم الإيمان" (12).

 

ويظهر مفهوم لفظة الحاكمية عند سيد قطب عندما سأله المحقق قائلاً: "وما مدلول الحاكمية في رأيك؟ فأجاب: أن تكون شريعة الله هي قاعدة التشريع.

 

فسأله: ومتى نودي بهذه العبارة فيما تعرف؟ فقال: ده تعبير استقيته أنا من دراستي للإسلام. فسأله: ألا تعرف أن هذه الكلمة قالها الخوارج قديمًا وقد قال عنها الإمام عليّ (إنها كلمة حق أريد بها باطل)؟ فقال: أنا لا أتذكر موضعها هذا من التاريخ ولم أكن أعيه عند ما استعملتها.

 

وأنا كنت أعنى أن تكون شريعة الله هي قاعدة التشريع، وبما أن الله سبحانه وتعالى لا ينزل بذاته للتحكيم وإنما أنزل شريعته ليُحكم بها فحاكميته سبحانه وتعالى تتحقق عن طريق تحكيم شريعته كما تقول النصوص القرآنية بألفاظها" (13).

 

فبين سيد المراد من لفظة (الحاكمية) وأن مقصودها أن تكون شريعة الله هي قاعدة التشريع فلا يصطدم قانون بشري بشرع الله مطلقًا. وإلا فيقدم شرع الله على ما سواه. كما أن شريعة الله لا بد أن تحكم في دنيا الناس وقوانين الدولة وهذا اللفظ (حكم) ومشتقاته قد ورد في القرآن الكريم أكثر من مئة مرة وهذا مما يدلل على أصالة هذه الكلمة بل إن علماء الأصول استعملوها وهم يتحدثون عن الأحكام الشرعية وقسموا ذلك إلى أربعة أقسام، (الحاكم- الحكم- المحكوم فيه- المحكوم عليه)، وقد اتفق علماء الأصول على أن الحاكم هو سبحانه وحده لا شريك له وفي هذا يقول الإمام الآمدي: "اعلم أنه لا حاكم سوى الله تعالى ولا حكم إلا ما حكم به" (14).

 

وفي كتاب الوجيز في أصول الفقه عرف الحاكم بأنه: "الحاكم في الشريعة: هو الله عز وجل باتفاق العلماء" (15)، ويؤكد هذا التعريف ما ذكر في كتاب علم أصول الفقه: "لا خلاف بين علماء المسلمين في أن مصدر الأحكام الشرعية لجميع أفعال المكلفين هو الله سبحانه" (16).

 

 الصورة غير متاحة

 د. يوسف القرضاوي

ونجد الشيخ العلامة الدكتور يوسف القرضاوي يجيز لفظة (الحاكمية) فيقول: "وقد زعم بعض الناس أن فكرة الحاكمية فكرة (مودودية، قطبية)، وهذا جهل وغلط، فهذا أمر اتفق عليه الأصوليون وصرحوا في مبحث الحكم من علم أصول الفقه أن الحاكم هو الله، لا حاكم غيره" (17).

 

كما أنه من غير المعقول أن نرفض كل لفظ لم يرد في الكتاب والسنة. وقد قال العلماء من قبل: لا مشاحة في الاصطلاح وإلا فليس هناك ما يدل في الكتاب والسنة على صيغ كثيرة.. كتوحيد الربوبية والألوهية والأسماء والصفات وأصول الفقه.. الخ. فما بالنا إن كانت لفظة (الحاكمية) لها مدلولاتها الصحيحة في كتاب الله بنص قرآني صريح؟. وقد ذكر الدكتور عبد العظيم المطعني وهو يتحدث عن نظام الحكم في التشريع الإسلامي لفظة الحاكمية في قوله: "فإذا كان السؤال: من الذي يحكمنا: علي، أم سعيد، أم خالد؟ كان الجواب: يحكمنا أصلح الثلاثة... وإن كان السؤال: بم يحكمنا أصلح الثلاثة؟ كان الجواب الذي لا مفر منه: بشريعة الله.

 

فالحاكمية- إذن- لله فيما يتصل بدستور الحكم، وهي مع شيء من التسامح للأمة، فيما يتصل بالجهاز البشري الذي يحكم هذه الحقائق من أظهر ما أسفر عنه مؤتمر السقيفة عقيب وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم ......" (18).

 

ولأن أمر الحكم والحاكمية من الأمور التي تثار من حولها الشبهات نظرًا لما يُبنى عليها من أحكام فيطيب لي أن أذكر رأي الأزهر في هذه القضية.. ففي كتاب (بيان للناس من الأزهر الشريف) وعند الحديث عن قوله تعالى: ﴿وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْكَافِرُونَ﴾ (المائدة: من الآية 44)، جاء فيه: "معناها من لم يعط حكمًا شرعيًّا لعمل من الأعمال يوافق الحكم الذي أنزله الله فهو كافر، كالذي يقول: إن الربا حلال، مع أن الله حرمه بقوله: ﴿وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا﴾ (البقرة: من الآية 275)، فقد خالف حكم الله، وقد نهى الله عن ذلك بمثل قوله تعالى: ﴿وَلا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمْ الْكَذِبَ هَذَا حَلالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لا يُفْلِحُونَ (116)﴾ (النحل).

 

فالحكم بغير ما أنزل الله يمكن أن يكون من الفرد في سلوكه الشخصي كتحليل شرب الخمر وفي سياسته لأسرته كتحليل حرمان البنات من الميراث أو وأدها كما كان عند العرب في الجاهلية، وفي معاملته مع الناس، كتحليل السرقة والرشوة، كما يكون في العقيدة، بإنكار ما ثبت كالبعث والحساب.

 

ويمكن أن يكون من القاضي الذي يفصل بين الناس، كعدم اعتبار الزنا مع رضا الطرفين محرمًا وكتحريم حق الطلاق لمن يمكنه إذا كان قانونًا يقضي به" (19).

 

ثم ينتقل الحديث إلى الحاكم ليؤكد أن هذا الحكم ينطبق عليه إذا حكم: "بإباحة شرب الخمر مثلاً وإباحة قتل من لا يستحق القتل، وتحريم التفرقة بين الذكر والأنثى في الميراث وذلك بوضع قانون أو مباشرة تنفيذه". ثم شرع في تفصيل متى يكون الكفر كفرًا أكبر ومتى يكون غير ذلك (20).. ثم أظهر لنا حكمًا بعد استعراضه لنصوص آيات القرآن الكريم فقال: "فنرى من هذه النصوص وغيرها أن من لا ينفذ ما جاء في الكتاب بالذات يكون غير مؤمن. وهذا ما يدل عليه ظاهرها. والمحققون على أن عدم تنفيذ ما جاء فيه أو عدم الحكم بما أنزل الله يكون كفرًا إذا رفض الإيمان به أو شك المؤمن في أنه من عند الله أو زعم أنه غير صالح للحكم أو استهزأ به أو قال إنه لا يصلح إلا للبيئة التي نزل فيها والعصر الذي جاء فيه أو ما شابه ذلك من الأقوال والأفعال التي تدل على الطعن في حكم الله. وإن كان التقصير في التنفيذ لا يصاحبه شيء من ذلك، فلا يخرج به المقصر عن الإيمان، بل يكون عاصيًا" (21).

 

وبذلك يكون لا مشاحة من ذكر لفظ (الحاكمية) عند سيد وأنه بذلك موافق للعلماء الأثبات بذكره لفظة (الحاكمية) التي هي مصطلح قديم جديد لا مشاحة في ذكره وقد كرره علماء الأصول في الماضي والحاضر، والله من وراء القصد.

------------------

1- فتنة التكفير والحاكمية لمحمد بن عبد الله الحسين ص: 106 ط الأولى 1416هـ مطبعة سفير- الرياض، السعودية.

2- الظلال: 1/286.

3- الظلال: 1/681.

4- الظلال: 3/1434.

5- الظلال: 4/1990.

6- الظلال: 4/1967.

7- الظلال: 2/1110.

8- مسند أحمد 5/251 في حديث أبي أمامة الباهلي رقم 22214 ورواه الهيثمي في مجمع الزوائد 7/281، انظر: مجمع الزوائد ومنبع الفوائد للحافظ الهيثمي وبتحرير الحافظين العراقي وابن حجر، دار الريان للتراث، دار الكتاب العربي،- مصر 1407هـ 1987م (بدون رقم الطبعة) وصححه الألباني.

9- شرح العقيدة الطحاوية ص: 223-224.

10- منهاج السنة النبوية للإمام ابن تيمية 5/130.

11- تفسير ابن كثير 2/68.

12- عمدة التفاسير 4/146 (بتصرف يسير) اختيار وتحقيق أحمد محمد شاكر ط، دار المعارف بمصر سنة 1377هـ 1957م بدون رقم طبعة.

13- الموتى يتكلمون، سامي جوهر ص: 135.

14- الإحكام في أصول الأحكام للآمدي 1/97.

15- الوجيز في أصول الفقه للدكتور وهبة الزحيلي ص: 144- دار الفكر، دمشق- سورية، دار الفكر المعاصر- بيروت- لبنان سنة 1424هـ سنة 2003م بدون رقم ط.

16- علم أصول الفقه للشيخ عبد الوهاب خلاف ص: 87.

17- فقه الأولويات في العمل الإسلامي للدكتور يوسف القرضاوي ص: 269- مكتبة وهبة القاهرة، مصر، ط: الأولى 1994م.

18- لماذا لا بد من دين الله.. لدنيا الناس للدكتور عبد العظيم إبراهيم محمد المطعني، ص: 94-95 (باختصار)، مكتبة وهبة، القاهرة، مصر، ط: 1 سنة 1414هـ 1994م.

19- بيان للناس من الأزهر الشريف 1/162- 163 ظهر في عهد الشيخ جاد الحق علي جاد الحق شيخ الأزهر وبتقديم فضيلته للكتابين، مطبعة المصحف الشريف، مصر، (بدون رقم طبعة وتاريخها).

20- بيان للناس من الأزهر الشريف 1/163.

21- المصدر السابق، 1/167- 168.