د. جمال نصار

لا شك أن شهر رمضان شهر عظيم بكل المقاييس، فالأمة الإسلامية تعيش فيه لحظات عظيمة من السعادة؛ فحينما تقترب الأمة من حدثٍ جليلٍ مثل هذا الشهر المبارك يفيض عليها كل عام باليمن والبركات والخير والرحمة والمغفرة والعتق من النار، حدث ينتظره الكبير والصغير، ينتظره الرجل والمرأة، وينتظره الغني والفقير، ألقى الله عز وجل محبته في قلوب المؤمنين جميعًا حتى في قلوب الأطفال الذين لا يعرفون صيامًا ولا قيامًا.

 

فكان رمضان شهرًا تُبنى فيه النفوس، وركنًا من أركان الإسلام الخمسة التي اختارها الله سبحانه من كل أبواب الإسلام الضخمة ومناحيه الواسعة وجعلها أعمدة للإسلام.

 

إذًا فشهر رمضان ليس مجرَّد شهر يمر على المسلمين ليسعدوا به لحظات ويحزنوا لفراقه لحظات ثم ننتظره العام القادم؛ فشهر رمضان عمود من الأعمدة التي تحمل الإسلام، فتخيَّل معي أن هذا العمود غير موجود، أو تخيل أن هذا العمود مغشوش أو هش.. تخيل أن به خللاً في التصميم أو خللاً في التطبيق، ماذا ستكون النتيجة؟ سينهار البناء بالكُلِّيَّة، عمود واحد فقط ينهار من أجله البناء، نعم ينهار البناء الضخم بالكلية.. إذًا الأمر في غاية الأهمية إن كنا نريد بناءً قويًّا صُلبًا لهذه الأمة، فلا بُدَّ أن يكون أساسه متينًا، ومن ثَمَّ لا بُدَّ أن يكون ما بعد رمضان على أعلى درجات الإتقان حتى يحمل فوقه صرح الإسلام العظيم الرائع.

 

بهذه العزيمة وبهذا الفكر ومن هذا المنطلق نريد أن نعيش بعد رمضان، نريد أن نكون مؤهَّلين لحمل الصرح العظيم والأمانة الكبيرة، فالقضية ليست قضية صيام فقط، ولكنها قضية بناء أمة، أو قل: بناء خير أمة.

 

وتأتي التربية، فالصف المسلم يحتاج لنوع خاصٍّ جدًّا من التربية، وقام رمضان بهذه المهمة؛ فلن يستطيع أحد أن يُجاهد أو يُضحي أو يثبت إلا إذا أخذ قسطًا من التربية، فرمضان يربي فينا سبعة أخلاق؛ يربي فينا الاستجابة الكاملة لأوامر الله عز وجل بصرف النظر عن حكمة الأمر، كما يربي فينا التحكم في الشهوات التي تُصرف في مكانها الصحيح الذي أراده الله عز وجل، التحكم في الأعصاب والقدرة على كظم الغيظ. ويربينا أيضًا على الإنفاق في سبيل الله، كما يربينا على شعور عظيم هو شعور الوحدة والأخوة والألفة بين كل المسلمين في كل بقاع الأرض، الشعور بآلام الغير ومشاكل الآخرين.

 

وأخيرًا إن رمضان يربي فينا أمرًا مهمًّا جدًّا، هذا الأمر هو لب الصيام، وهو الغاية الرئيسية منه، رمضان يربي فينا "التقوى".

 

هكذا يجب أن نعيش ونحيا بعد رمضان؛ لنبي أنفسنا وأمتنا من جديد.

إن هذا الشعور بالتميز والهوية الإسلامية أداة حتمية من أدوات النصر والتمكين، فالأمة التي تشعر بأنها تبع لغيرها أمةٌ لا تسود ولا تقوم.

 

ومن الدروس التي يمكن أن نخرج بها من رمضان:

* المواظبة على العلم والفقه في الدين باذلين في ذلك النفس والنفيس، وآخذين هذا العلم من منبعه الأصيل، ومعينه الذي لا ينضب: كتاب الله تعالى وسنة النبي الكريم صلى الله عليه وسلم، وسيرته وهديه، مسترشدين في ذلك بما تركه لنا الأسلاف من ميراث ثقافي وعلمي، لا يزال محل إعجاب البشرية وتقديرها وسيبقى كذلك إلى يوم الدين.

 

* المواظبة على حسن الصلة بالله تعالى من خلال صيام التطوع وقيام الليل والذكر وتلاوة القرآن، ومحاسبة النفس، والتوبة والاستغفار والصدقات ونحوها.

 

* المواظبة على حسن الخلق المتمثل في بر الوالدين، وصلة الرحم، وكف الأذى عن الناس بأي صورة من الصور، وكظم الغيظ والعفو عند المقدرة، والإحسان: أي تجويد الأعمال وإتقانها، خوفاً من الله، وطمعًا في ثوابه، والتركيز على عدم مقابلة السيئة بالسيئة، بل بالحسنة.

 

* المواظبة على تطهير القلوب من الحقد والحسد والغش والوسواس والعداوة والبغضاء، لا سيما وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: "صوم شهر الصبر، وثلاثة أيامٍ من كل شهرٍ يُذهبن وحر الصدور" (أخرجه ابن حبان في صحيحه وهو صحيح)، ووحر الصدور كما قال العلماء: "ما يكون فيها من الغش والوسواس، والغيظ، والحسد، والغضب"، وهذا يساعد على نبذ الفرقة والشقاق.

 

* المواظبة على الدعاء والتضرع إلى الله جل وعلا أن يرزقنا الإخلاص والصدق، والصبر، والعمل على نصح الناس ودعوتهم إلى صراط العزيز الحميد ووحدة الصف والاستمرار على ذلك وعدم الانقطاع.

 

* المواظبة على العناية بأهلينا، وأولادنا، وذوينا، نعيش معهم، ونعايشهم ونغذي أرواحهم ونفوسهم وعقولهم على الدوام بهدي الله ورسوله وكذلك تجارب وخبرات المربين الصادقين.

 

* المواظبة على فضح مؤامرات الأعداء، لئلا يغتر بهم البسطاء، والعامة، والعمل على إفشال هذه المؤامرات بكل ما يمكن من أساليب ووسائل، على ألا يتعارض مع مبادئ الشرع الحنيف.

 

علَّنا بعد رمضان هذا العام نواظب على ذلك، وغيره مما عشناه وذقناه في رمضان.

 

وهناك بعض المحاذير يجدر الإشارة إليها منها:

* الحذر من الشيطان، فبعد شهرٍ في عبادة طويلة مع الله، بعد انتهاء رمضان وفي أول يوم العيد يحدث لك نوعٌ من التراخي، لكن في اللحظة التي يحدث فيها هذا التراخي لا تساعد الشيطان عليك.

 

* إياك والهبوط من الهمة العالية، فقد أنعم الله علينا بعبادة طويلة في رمضان.. ليس من المعقول أن نترك كل هذا بعد رمضان!! لقد عرفنا أثر العبادة وذقنا طعم الإيمان وحلاوة الطاعة ولذة المناجاة، فعلينا أن تحافظ على هذه المكاسب وتلك المنجزات فنحرص على الطاعة ونُقبل على العبادة ونلزم الطريق المستقيم والهدي القويم، من خلال: قراءة القرآن ولو صفحة واحدة في اليوم، الدعاء يوميًّا ولو دقيقتان بعد صلاة العشاء، ذكر الله يوميًّا.. أذكار الصباح والمساء، الصلوات الخمسة في جماعة بقدر المستطاع، الالتزام بالصحبة الصالحة والحرص عليها حتى يعين بعضنا بعضًا على الطاعة والثبات.

 

* سؤال يسأله معظم الناس وهو هل قبل الله منا رمضان؟ فيجب أن نكون بعد رمضان الأصل فينا الخير والصلاح.. ونقيس أداءنا أول أسبوع بعد رمضان.. فلو وقعت منا العبادات وفعلنا المعاصي.. نخاف على أنفسنا، أما لو وجدنا أن أداءنا وسلوكنا ارتفع وتغيَّر للأفضل بعد رمضان.. نفرح فبإذن الله قُبل منا رمضان.

 

على هذه المعاني يجب أن نحيا ونستفيد من شهر رمضان العظيم لبناء أنفسنا ونهضتنا في جميع المجالات لنكون خير أمة أخرجت للناس.

 

والله أسأل أن يتقبل منا الطاعات، وأن يعيننا على فعل الخيرات في باقي العام بعد رمضان، إنه ولي ذلك والقادر عليه.

------------

* [email protected]