لا أعرف لماذا تصرُّ جهات الإنتاج الفني في بلادنا على تسفيه عقولنا وتحريك غرائز المشاهدين في رمضان؟!

 

ما العداء الذي بين هذه الجهات ورمضان؟!

تقريبًا كافة الأعمال الدرامية التي عُرضت على الشاشة كان هناك تنافسٌ محمومٌ فيما بينها على تسطيح عقل المواطن بشكل يبعث على الدهشة، ويجعلك تضرب كفًّا بكف؛ تعجبًا من هذا الكم الهائل من السقطات الفنية التي لا تنطلي على عقل طفل لا يحسن التمييز.

 

ليس هذا فحسب، بل حرصت تقريبًا معظم المسلسلات والبرامج على كسر محظورات الجنس والدين؛ للمزايدة فيما بينها وفي محاولة غير شريفة لجذب المشاهد إليها بأساليب أقل ما توصف به "الدعارة الفنية"!!، تشعر عندها أن القائم على هذه الأعمال ليس لديه سلطان من ضمير أو وازع من دين أو حتى حياء من أعين المشاهدين.

 

إذا أحسنَّا بهم الظنَّ على استحياء قلنا إنها شهوة المال التي تعمي القلب وتحجب العقل، وإذا حكَّمنا عقولنا قليلاً ذهبت أنفسنا بعيدًا في التأويل، فبين قائل بأن ما يحدث هو مؤامرة غربية عليها ألف دليل، تستهدف جعل القبح جمالاً، والشهوة عنوانًا، فلا يهدأ لهم بال، ولا يغمض لهم جفن، ولا يجفّ لهم عرق حتى يقضوا على البقية الباقية من عنفوان هذه الأمة وكرامتها وعزتها، فنظل أبد الدهر مفعولاً بنا، لا فاعلين.

 

وبين قائل بأنها يد الحكومة العابثة تريد أن تلهينا بملاهيها التي لا تنفذ، فهي تيسِّر الحرام ما استطاعت إلى ذلك سبيلاً، وتعسِّر الحلال، فلا تجعل دونه سبيلاً، فيظل رعاياها أسرى ملذاتهم وشهواتهم، يدورون في فلكها حيث دارت، ويفرحون لها ما استطالت، فتظل حاكمةً مسيطرةً، وعلى الصدور جاثمة، حتى تتعفَّن على كراسيها، أو نتعفَّن نحن من معاصينا!!.

 

وهنا قد يقول قائل: حنانيك.. قد بالغت في الظن، وتجاوزت في الطعن، وحمَّلت الأمور أكثر مما تحمل، وهنا أجد نفسي مضطرًّا اضطرارًا أن أخوض فيما لا أحب الخوض فيه؛ لأن لكل قول حقيقة ولكل دعوى بينة، وبالمثال يتضح المقال.

 

بدايةً كان حجم الإنتاج التليفزيوني في رمضان يفوق المعقول، فقد بلغ عدد المسلسلات التي أنتجها التلفزيون المصري وحده نحو خمسين مسلسلاً، عرضت جلها في رمضان!! ولو قمنا بحسبة بسيطة، وقلنا إن كل مسلسل مدته خمسٌ وأربعون دقيقة ثم ضربنا الرقم في ثلاثين حلقة؛ لوجدنا أن الرقم هو (اثنان وعشرون ونصف الساعة)!!؛ بمعنى أن المسلسل الواحد تشاهده يومًا رمضانيًّا بكامله (أربعًا وعشرين ساعة)، ولا وقت لديك للنوم أو الصيام أو القيام أو حتى الطعام!!، ثم إذا حسبت أن هناك خمسين مسلسلاً سرعان ما تدرك أن عليك أن تقضي رمضانين كاملين لا رمضانًا واحدًا؛ لتكمل أورادك التلفزيونية!! معتكفًا عن كل شيء في الحياة إلا المسلسل!، لمصلحة مَن هذا العبث المجنون؟ كيف يتم تحويل شهر القرآن إلى شهر القيان؟!.

 

ليس هذا فحسب، بل أصبح الإعلام المصري يتأثر بظاهرة النجم الأوحد الذي لا يغيب عنا في مشهد من المشاهد؛ حتى لا نُحرم من طلعته البهية، وإمكاناته العليَّة، فأصبحت الكثير من المسلسلات تبعث على الملل، وتفضي إلى النعاس، وربما كانت هذه إحدى حسناتها القليلة!.

 

هذا فضلاً عن المشاهد الغير منطقية، والتي توضح مدى استخفاف جهات الإنتاج بعقول المشاهدين، فأنت تشاهد أحدث أجهزة الكمبيوتر المحمول في مشهد المفروض أنه من ستينيات القرن الماضي، كما ظهر في مسلسل "حرب الجواسيس" مثلاً!.

 

هذا فضلاً عن الإطالات المملَّة والغير منطقية لكثير من المشاهد؛ لإيصال عدد الحلقات إلى ثلاثين حلقة، رغم أنف المشاهد أو القصة، هذا إذا كان هناك قصة بالأساس!.

 

ثم نأتي لأم الكوارث.. الكم الهائل من المشاهد الساخنة التي امتلأت بها المسلسلات الرمضانية، بشكل يجعل إبليس يتحسَّر أشدَّ الحسرة على مكانته التي ضاعت، وحِيَلِهِ التي توارت أمام أبالسة البشر، فلم يكتفوا بالمشاهد الصريحة، بل أضافوا إليها اللفظة والحركة والإيماءة والإشارة الخادشة للحياء.. آسف.. من قال إنها خادشة؟! إنها مذهبة له الحياء!!.. بل ناسفة له، كل ذلك في ظل منافسة رخيصة على مشاهد مسكين، لا يدري حقيقة ما يُدبَّر له.

 

ويكفينا أن نذكر مسلسلاً كمسلسل "الباطنية" الذي بلغ الذروة- كما يقول النقاد- في الاتِّجار بغرائز المشاهدين، وهذا على سبيل المثال لا الحصر.

 

ولم يكتفوا بذلك، فالذي لا يهوى المسلسلات لم يتركوه في حاله ويُخلوا سبيله!!، بل نقلوا خبائثهم إلى البرامج المتلفزة، فأصبح الغالب على الكثير من البرامج أحاديث الجنس الصريح!! وكأن مشكلاتنا قد حُلَّت ومآسينا قد انتهت، ولم يبقَ لنا إلا أحاديث الغرف المغلقة.

 

فبرنامج "لماذا؟!" مثلاً على قناة "القاهرة والناس" تجاوز كل محظور، والبرنامج يقدمه "طوني خليفة"، فقد استضاف على سبيل المثال إيناس الدغيدي، وما أدراك ما إيناس الدغيدي!!، وعندما سألها المذيع عن إمكانية ارتدائها الحجاب قالت: "ربنا ما يكتبه عليَّ"!!.

 

ولم تكتفِ بذلك، بل عندما سألها المذيع: ماذا لو اكتشفت أن ابنتها تعاني من الشذوذ الجنسي؟ ماذا تفعل؟! فقالت: "لن أفعل شيئًا"!!، مبررةً ذلك بأن ابنتها تعيش بالخارج في مجتمع متحرر، وبالتالي فهي حرة تفعل ما تريد!!.

 

هذه الأمثلة طبعًا قطرة من فيض مما عُرض في رمضان.

 

ما الإضافة أو القيمة التي يحظى بها المشاهد من رؤية هذه المسلسلات أو البرامج التي تتخذ من غرائز المشاهدين وسيلةً لجني المال والشهرة؟!

 

أليس لكل مجتمع معتقداته وأعرافه وتقاليده التي يجب أن تُحترم؟، أليس من واجبات التخلف الحضاري الذي نحيا فيه أن نهتم بما يبني لا ما يهدم، وبما يعمِّر لا ما يخرِّب؟!

 

هل من حق فئة محدودة من الناس أن تفرض أخلاقياتها وسلوكياتها على الجميع؟ أم أنها ديكتاتورية فنية تابعة لعهود الطغيان والاستبداد السياسي الذي نحياه؟!

 

ألا يخشى هؤلاء من أن يكونوا ممن تعنيهم الآية الكريمة ﴿إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَاللهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ (19)﴾ (النور)؟!
أليس لهذه الأمة دينٌ ودستورٌ ومنهاجٌ ضابطٌ لسلوكياتها، حاكم لتصرفاتها، يجب أن نحترمه جميعًا، ونعتبر أنه المرجعية التي يجب أن نرجع إليها، ما دامت هذه الأعمال تشاهدها جموع الأمة لا آحادها؟!

 

إن المشاهد الساخنة ليست فنًّا، فكل امرأة تكشف جسدها، وتتميَّع في كلامها؛ تستطيع أن تؤدي هذه المشاهد.

 

إن الفن الحقيقي هو الذي يتقمَّص فيه الممثل دورًا يحتاج فيه إلى كثير جهد وإتقان، أمَّا خلع الملابس للإغراء فلا يحتاج إلا إلى القليل من الحياء.

 

لقد ذكرني مشهد هؤلاء (النجوم) وهم يتاجرون بأجسادهم ابتغاء الشهرة بالقصة التاريخية التي ختمت بها مقالاً سابقًا لي عن فيلم (حين ميسرة)، تقول القصة: "إنه في أحد العصور الإسلامية حاول أحد الرجال أن يتبوَّل في بئر زمزم- اطمئنوا لم يستطع- فأمسك به الحرس، وأتوا به إلى الخليفة، فسأله مستنكرًا: ما حملك على هذا؟! فقال: "أحببت أن يذكرني الناس ولو باللعن"!!.

---------

* كاتب ومحلل سياسي.