د. زكريا سليمان بيومي

 

في مثل هذه الأيام من شهر أكتوبر من كل عام يصر كثيرٌ من الإعلاميين وأدباء الإعلام على الاحتفال بنصر رمضان بعيدًا عن رمضان، ويزداد إصرارهم كل عام على ربط النصر بأكتوبر دون ربطه برمضان على الرغم من أن روح رمضان هي السبب الأول والحقيقي والوحيد لهذا النصر.

 

وفي هذه الذكرى تصرُّ القنوات الفضائية على استضافة رموزٍ من الأدباء الكبار من أمثال يوسف القعيد وجمال الغيطاني وعبد الرحمن الأبنودي وغيرهم؛ ليتناولوا تحليلهم وذكرياتهم عن العبور العظيم، ومع ما يحيط بهذه الذكرى من شعورٍ بالعزة والفخار في زمنٍ أصبح الإنسان فيه في حاجةٍ ماسةٍ إلى هذا الشعور حتى ولو كان من باب الذكريات التي تضيء ما أصبح يحيطنا من ملامح اليأس والقنوط، لكننا نجد من بعض هؤلاء الأدباء ميلاً إلى تشويه الحقيقة فيلونون الكلام بأسلوبهم الأدبي المطاط بشكلٍ ينكر على أبرز رموز هذا الحدث العظيم دورهم.

 

ويلتقي هؤلاء عند محاولة فرض مبررات هزيمة 67 المريرة، وما كانت تعنيه من معاني كثيرة لعل أهمها محاولة تحويل مصر إلى ضيعة كبرى يتقاسمها بالنفوذ والجبروت عبد الناصر ورفاقه فحولوها إلى حقل تجارب لأفكار لم يستشيروا فيها أحدًا، ولم يسمحوا بالرأي الآخر، وإذا سمعوا أو اشتبهوا في همسٍ من هذا النوع فليس له إلا السحل أو السحق أو السجن.

 

وخلت الساحة الفكرية، كما خلت الساحة السياسية، من مفكرين أو مثقفين إلا من التابعين والمنظرين وحملة المباخر فلم يعتادوا على السماع أو السماح للرأي الآخر، وانصبَّ جهدهم على التبرير والتهليل.

 

تبرير كل شيء بدءًا بتصفية هذه المجموعة من العسكريين لزملائهم العسكريين الذين خالفوهم الرأي في بداية ظهورهم وطالبوهم بالعودة إلى ثكناتهم العسكرية وترك السياسة لأربابها والاكتفاء بدور الرقيب، ثم تآمرهم على مَن اختاروه كبيرًا لهم بسبب ازدياد شعبيته، وهو محمد نجيب فوضعوه رهن الإقامة الجبرية التي تدنو السجن لمدة قاربت العشرين عامًا، ثم إبعادهم لعناصر جماعة الإخوان المسلمين التي اتخذوها ظهيرًا شعبيًّا حين لم يكن لهم هذا الظهير خشيةَ أن تقاسمهم غنيمة الحكم فذلك حرام ومحظور إلا لهم، ثم بعض رفاقهم ومؤيديهم ممن أشاروا عليهم بالديمقراطية التي وضعوها في البداية كهدفٍ مرحلي لهم؛ حيث كان مآلهم الإبعاد أو السجن بتهمة العمالة للغرب الاستعماري.

 

وامتدَّ بهم التلوين والتبرير إلى تصوير مغلوط لمعركة السد العالي التي أتت في توقيتٍ غير مدروس قبل أن يستقر بهم الأمر، وكانوا في حاجةٍ إلى روية سياسية بدلاً من الحماس أو التهور الفردي، ثم ما تبعه من تأميم قناة السويس بعد جلاء القوات البريطانية الذي كان محددًا أصلاً في معاهدة 1936م.

 

ثم يواصل هؤلاء ومن شايعهم تلوين التاريخ بمنظورهم؛ فاعتبروا العدوان الثلاثي 1956م انتصارًا للإرادة السياسية دون ذكر دور السوفيت الحاسم ودور الأمريكيين الذين كانوا غير مؤيدين لهذا العدوان على الصعيد الخارجي، ودور المسجد الذي لجأوا إليه بعد أن ناصبوه العداء بشنق رموزه وسجن البقية منهم قبل عامين فقط من هذا الحدث.

 

كما لم يذكروا أهم انتكاسة أصابت مصر لصالح الكيان الصهيوني نتيجة هذا الحدث، وهو بيع قرية أم رشراش المصرية مقابل جلاء "إسرائيل" عن سيناء، وتحوَّلت هذه القرية إلى ميناء إيلات كأول ميناء لـ"إسرائيل" على البحر الأحمر، والذي أسهم في تحولها إلى دولة كبرى لها تأثيرها على دول إفريقيا، وهو ما أصبحنا نعاني منه حتى اليوم.

 

واكتفوا رغم كل هذا بالاصطفاف حول عبد الحليم حافظ ورفاقه، ومن خلفهم جمع من المغيبين والمغيرين للحقائق ليوهموا الجميع بالنصر الذي نتج عن حكمة هؤلاء في سحب الجيش من سيناء وترك المعدات التي دفع الفقراء ثمنها نهبًا للعدو واعتباره عيدًا من بين الأعياد القومية.

 

وتتواصل المبررات الأدبية في تصوير التدخل في ثورة اليمن وما أسهم به هذا التدخل من شقِّ الصف العربي في وقتٍ يواصلون فيه ادعاء تبني قادتهم القومية العربية.

 

ويتجاهل هذا الجمع من سادة الفكر والأدب ذكر هذه المقدمات التي قادت إلى هزيمة 1967م، والتي أظهرت أكذوبةَ هذا الحلم المزعج الذي عاشته- دون غيره- جموع الجماهير المخدوعة، والذي سخَّروا له كافة وسائل التأثير والإعلام فكانت المطالبة بالبقاء لقادته قبل أن يفيق الشعب من غفوته، فهذا ناتج عن إنفاق باهظ على هذه الوسائل لمثل هذا اليوم ومن دماء وحقوق الغلابة الذين كانوا يؤكدون دومًا انحيازهم لقضاياهم.

 

أما عن حرب الاستنزاف التي يغالون في ربطها بالزعيم الملهم فقد بدأت في منتصف عام 1969م، ولم تستمر سوى بضعة أشهر في زمن عبد الناصر دفع المصريون في بدايتها ثمنًا باهظًا.

 

وإذا كان لنا أن نقر بأنها بدأت بعد إعادة تنظيم الجيش إلى حدٍّ ما فإن الذي حطَّم الجيش هو نفس العقلية التي يحاول هؤلاء أن يسندوا إليها فضل إعادة تنظيمه.

 

ولعلي أتشابه مع الأستاذ يوسف القعيد في أنني كنت مجندًا من 67 حتى 73، وكنت من الدفعة التي صدر قرار تسريحها قبل حرب العبور بساعات قليلة، أي دفعة التمويه، ثم عدت لوحدتي العسكرية في نهاية يوم إعلان الحرب، وإذا كان لي أن أدون ذكرياتي فإن هذا النصر العظيم كان أساسه تحول العقيدة القتالية من الثقة في القيادة والسلاح إلى الثقة في نصر الله، فكان شعار الله أكبر هو سرُّ ذلك التحول الحقيقي الذي عمَّ صداه كل ربوع مصر بدءًا بجيشها، شعار ردده كل أفراد الجيش من مسلمين ومسيحيين، من سعد الشاذلي ومن فؤاد غالي، ممن كانوا صائمين ويصلون وممن كانوا حين الصلاة يحرسونهم من أتباع المسيح عليه السلام.

 

تواءم شعار الله أكبر مع اختيار توقيت الحرب في العاشر من رمضان؛ سعيًا لتجديد انتصار الغزوات من فئةٍ لا تملك إلا الإيمان والإرادة، ولكنها ضعيفة الإمكانيات، شعار التقى حوله أنور السادات ورفاقه، فشاركوا بروح الإيمان في عزف أعاد للعرب ولشعب مصر الهيبة، فذلك هو الشعب الذي باركه عيسى عليه السلام وشهد له محمد عليه الصلاة والسلام.

 

ولست هنا فيما ذكرته من رموز أتوافق مع تركيز القنوات الفضائية على استضافة الضباط وحدهم بل ينبغي أن نركز على رفاق المرحوم عبد العاطي حامد، كما لا ينبغي أن نركز على الذكرى فقط، بل لا بد أن نسعى إلى تدوين أدوارهم للتاريخ وتكريمهم وأبنائهم وأحفادهم دعمًا للانتماء وسعيًا إلى إعلاء شأن مَن يجاهد في سبيل وطنه بدلاً من تكريم مَن يقوم بتمثيل أدوارهم وهم أحياء وعبر أفلام مفبركة وارتزاقية.

 

ولعل استضافة برنامج (العاشرة مساء) يوم 6 أكتوبر لمجموعة موقع "كبريت" قد أكد لمحبي هذا الوطن أن الحقيقة أكثر وقعًا وتأثيرًا من تمثيل مدفوع الأجر مهما كان مبرره.

 

إن انحياز هؤلاء الأدباء الكبار لوجهة نظر واحدة منطلقة من منظور فكري أو انتمائي بيئي لهو مخيب لآمال محبيهم، فمنظومة الأغاني التي كتبها الأبنودي كان لها تأثيرها في رفع معنويات أهل مصر، ومواصلته للعبقرية حتى شعره عن صائد الدبابات عبد العاطي حامد، لكن الغريب هو حيدته عن الحق أحيانًا مثل الغيطاني والقعيد وغيرهم من أشياع اليسار الفكري حين يأتي الحديث عن الزعيم أنور السادات.

 

فالسادات هو من استكمل حرب الاستنزاف، والسادات هو بطل التمويه والخداع للحرب، والسادات هو من اختار للحرب رجالها، والسادات هو من اختار توقيتها، يوم العاشر من رمضان، ويوم عيد الغفران اليهودي، وفي الساعة الثانية وخمس دقائق بما تعنيه من اتجاه الريح من حيث الصوت والرمال واتجاه الظل للأفراد واسترخاء جند العدو، والسادات هو من أقنع جنده بضرورة النصر المرتكز على الإيمان بالله بأبسط المعدات دون خبراء من غير أهل مصر فكان لهم بقيادته ورفاقه ما أراد من هذا النصر العظيم الذي استعاد الأرض وطهر العرض.

 

والقارئ المنصف للتاريخ يعرف تاريخ السادات منذ بداية الحرب العالمية الثانية ومحاولاته للنضال متحديًا انتماءه لمؤسسة عسكرية محرم عليها المشاركة السياسية، فحاول الاتصال بالألمان عدة مرات فسجن وجرد من رتبته وهرب وطورد من قبل الإنجليز قبل أن يبرز اسم أي دورٍ لغيره من العسكريين، والسادات هو من أبرز العسكريين المشتغلين بالفكر والثقافة والمولعين بالاطلاع، وهو سر توليه المؤسسات الثقافية في وقتٍ يندر فيه مثل هذا الدور من رفاقه، ولعل هذا هو السر في إعداد فيلم سينمائي عن كل أيام السادات دون تولي عمل مماثل للرئيس عبد الناصر والاكتفاء بعام 1956م فقط.

 

ومع ما يحاول البعض من النيل منه من خلال اتفاقية السلام فبحكم اشتغالي بالتاريخ فإن أي من المعاهدات لم يكتب لها صفة الدوام والاستقرار فتتغير بتغير موازين القوي، فلم يقلل من شأن انتصار صلاح الدين الأيوبي عقده لاتفاقية مع عدوه حتى حانت فرصة الخلاص لجيل تلاه، ولعل ما ذكره المفكر المصري الدكتور يحيى الجمل من اختلافه مع السادات بشأنها ثم إدراكه بعد نظره بعد ذلك يحمل ردًّا على هؤلاء المشوهين المغرضين.

 

وأختم قولي بقول مفكر مصري هو المرحوم نظمي لوقا فيما كتبه عن نبي الإسلام محمد صلى الله عليه وسلم: "إن مَن يغمض عينيه عن النور فلن يضير النور بل يضير عينيه".

-------------

* أستاذ التاريخ الحديث والمعاصر- جامعة المنصورة