نص الرسالة

أيها الإخوان الفضلاء، أعضاء الهيئة التأسيسية للإخوان المسلمين..

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته..

وبعد.. فأنتم تعلمون أن الدعوة المقدسة التي عاهدنا الله تبارك وتعالى على أن نحيا لها ونجاهد في سبيلها ونموت عليها؛ تهدف أول ما تهدف إلى أمر واحد هو "تحقيق النظام الاجتماعي الإسلامي في أرض الإسلام، وإبلاغ رسالته الجامعة للعالمين".

 

وإن وسيلتكم لذلك هي تصحيح الفكرة، ونشر الدعوة، والتربية للفرد، والتكوين للجماعة.. حتى تقوم "الدولة الإسلامية" التي تتميز بهذا الوصف وتعرف به وتحرص عليه، وتعمل جاهدة على حراسة أحكام الإسلام وقواعده في الداخل وتبليغ رسالته في الخارج، ﴿وَلَيَنصُرَنَّ اللهُ مَنْ يَنصُرُهُ إِنَّ اللهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ (40) الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوْا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنْ الْمُنْكَرِ وَللهِ عَاقِبَةُ الأُمُورِ (41)﴾ (الحج).

 

وتعلمون أنكم في خلال هذا المجهود الشاق الذي تبذلونه ليلاً ونهارًا في إقامة هذا البناء الإسلامي الكريم أخذتم أنفسكم بأن تبذلوا مجهودًا آخر في تشجيع فعل الخير وتنظيم سبل البر ومحاولة الإصلاح الاجتماعي، وأن الله أجرى على أيديكم من ذلك الشيء الكثير من المدارس والمعاهد والمستوصفات والمساجد، والإصلاح بين الناس بالمعروف، والحث على معاونة الفقراء ومساعدة الضعفاء، وإشاعة معاني الرحمة في كثير من النفوس والقلوب.

 

﴿وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا﴾ (النساء: من الآية 114).

 

وتعلمون تمام العلم أننا جميعًا حرصنا من أول يوم على قدسية الدعوة وطهر الجماعة وسمو الغاية واستقامة الطريق، فلم نسمح لجماعتنا في يوم من الأيام أن تكون أداة لحزب أو هيئة، أو مطية لحكومة أو دولة، أو وسيلة إلى مغنم مادي أو كسب سياسي، ولهذا كان من القواعد الأساسية التي قام عليها بناء الجماعة ألاَّ يخترق صفوفها أو يسجل في أعضائها عظيم أو وجيه من الذين عرفوا بميولهم السياسية الخاصة، أو نزعتهم الحزبية الحادة، مما جنبنا كثيرًا من المزالق والعثرات في أول الطريق الشائك الذي أخذ أبناء هذه الدعوة على كاهلهم أن يتخطوا بمعونة الله عقباته، وأن يصلوا بفضله وتوفيقه إلى أبعد غاياته ﴿وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا﴾ (النساء: من الآية 114)، وما كان يدور بخلد واحد من أبناء الدعوة صغيرهم وكبيرهم، أو يخطر ببال مؤمن بها في أية شعبة من الشعب- ولن يكون هذا أبدًا بإذن الله- أن تُسخَّر الدعوة المقدسة للوصول إلى حكم أو الحصول على غُنْم، أو مناورة حزب لحساب حزب، أو مناصرة فرد للنيل من فرد، أو لترجيح كفة هيئة على هيئة، أو لتدعيم مركز حكومة، أو إلقاء الوقود في تنور الفُرقة والخصومة، فإن ذلك أبعد ما يكون عن تفكير أبناء هذه الدعوة الذين عاهدوا على الإيمان والجهاد ابتغاء وجهه وطلبًا لمرضاته, وإيثارًا لما عنده ﴿فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً﴾ (الأحزاب: من الآية 23). ولولا ما علم الله تبارك وتعالى في أنفسهم من صدق واطلع عليه سبحانه في نياتهم من خير وحق؛ لما ظهرت لهم كلمة، ولما صادفوا كل هذا النجاح في وقت غلبت فيه المادية على كل شيء، وظهر فيه الفساد في البر والبحر بما كسبت أيدي الناس، ولكن هذه المعجزة الباقية الخالدة لرسول الله صلى الله عليه وسلم ولأصحابه والمؤمنين برسالته, حتى يرث الله الأرض ومن عليها ﴿فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا﴾ (الفتح: من الآية 18).

 

ولقد ظلت هذه القاعدة الأساسية للدعوة والدعاة مطبقة مرعية حتى أعلنت الحرب العالمية الثانية في سبتمبر 1939م، وأعلنت في مصر الأحكام العرفية، وتعاقبت الوزارات، وجاءت وزارة حسين سري باشا، واشتد ضغط الإنجليز على الحكومة المصرية لتقضي على نشاط الإخوان المسلمين وتحل جماعتهم وتحارب دعوتهم، وذلك بعد أن يئسوا من أن يكسبوا هذه الجماعة إلى صفهم بالوعد والوعيد والإغراء والتهديد مما تعلمون الكثير منه- وليس هذا موضع الإفاضة فيه، وسأوفيه حقه من الشرح والبيان في مذكرات الدعوة والداعية إن شاء الله- والمهم أن ضغط الإنجليز على الحكومة المصرية في وزارة سري باشا كان من نتائجه أن تعطلت اجتماعات الإخوان، وتوقف نشاطهم، وروقبت دورهم، وغلّقت صحفهم ومجلاتهم، ومُنِعَت الجرائد جميعًا من أن تذكر اسمهم في أية مناسبة، أو تشير إليهم بكلمة، وأغلقت مطبعتهم، وأذكر أن رقيب المطبوعات المستر فيرنس منع طبع رسالة المأثورات منعًا باتًّا، فلجأنا إلى أحد المسئولين إليه الأمر وقلنا: هذه آيات وأحاديث يقرأها الناس في القرآن الكريم صباحًا ومساء، ويطالعونها في كتب السنة متى شاءوا وكيفما أرادوا، فكيف تجيزون لأنفسكم هذا المنع وبم تبررونه؟ وانتهى الموقف بعد أخذ ورد بأن سمح بالطبع، ولكن بشرط أن تمحى جملة "من رسائل الإخوان المسلمين" من العنوان الجانبي للرسالة وإلا فهي ممنوعة، فاضطررنا أمام هذا التحكم إلى سترها بأن طبعنا فوقها حلية جميلة تشف عما وراءها من هذا التصرف العجيب، وضاعف الإنجليز ضغطهم، وضاعفت الحكومة شدتها، فكان أول نزيل لمعتقل الزيتون الأستاذ عابدين السكرتير العام حتى قضى فيه ستة أشهر أو تزيد، وذلك المرشد والوكيل بعد نقل وتشريد ووعيد وتهديد، ومن الإنصاف أن نقول: إن فضل هذا الضغط كان على الدعوة عظيمًا، ورب ضارة نافعة، والذهب الإبريز يصفو على السَّبك، وكم من منحة في طي محنة، وعسى أن تكرهوا شيئًا وهو خير لكم، وكانت الملاحظة الواضحة الجلية أن المنفذ الوحيد للرأي وأن المنبر الذي كانت تعلن فيه شكاية أهل الحق في ذلك الوقت منبر مجلس النواب الذي كانت الصحف لا تجرؤ حينذاك على التوقف عن نشر مضابطه، فكان ما ينشر من مناقشات المجلس هو البصيص الوحيد من النور الذي ينير الظلام أمام المكبوتين المضطهدين.

 

وهذا هو الذي حدا بالمؤتمر السادس للإخوان المنعقد في يناير 1941م أن يصدر قرارًا خلاصته: "الأذن لمكتب الإرشاد العام للإخوان المسلمين بالتقدم بالأكفاء من الإخوان إلى الهيئات النيابية المختلفة، ليرفعوا صوت الدعوة، وليعلنوا كلمة الجماعة فيما يهم الدين والوطن". وكان هذا أول توجه من الإخوان المسلمين إلى اقتحام ميدان الانتخابات.

 

وانتهى عهد وزارة سري باشا وحل مجلس النواب، وجاءت وزارة النحاس باشا في فبراير 1942م وباشرت إجراء الانتخابات لمجلس النواب الجديد.

 

ورأى الإخوان أن الفرصة سنحت لتطبيق قرارهم الماضي، ولكنهم مع ذلك كانوا حريصين أشد الحرص على ما أَخذوا به أنفسهم من سنة التدرج، فلم يتقدم منهم إلا المرشد العام، وفى دائرة الإسماعيلية بالذات التي كانت بصفة أعظم تهيئة لتلقي هذا الترشيح ومناصرته بكل سبيل، وحدد مكتب الإرشاد العام في نشرته بتاريخ المحرم سنة 61 مارس سنة 1942م موقف الإخوان في هذه الانتخابات تحديدًا واضحًا دقيقًا، هذا نصه: "ويتساءل البعض عن موقف الإخوان في هذه الانتخابات والجواب على هذا أن الإخوان لا بد أن يكون لهم موقف إيجابي إنقاذًا لقرار المؤتمر السادس، وقد قرر المكتب ذلك، وقسم المرشحين إلى ثلاثة أنواع:

1- من سيتقدمون على مبادئ الإخوان سافرة، وهؤلاء سيساعدهم المكتب بكل قواه، ويجب على كل أخ أن يساعدهم كذلك ما استطاع، والمعروف من هؤلاء الآن المرشد العام عن دائرة الإسماعيلية، والأستاذ محمد عبد الرحمن نصير عن دائرة بنها.

2- من قدموا للإخوان خدمة سابقة واتصلوا بالإخوان من قِبَل ثقة وثيقة، وبدا منهم حسن الاستعداد للفكرة الإسلامية، وهؤلاء سيناصرهم المكتب والإخوان أيًّا كانت ألوانهم السياسية، على أن تكون المناصرة بحكمة ولباقة، وهؤلاء لا يعرفون إلا بعد ظهور الترشيحات، وحينئذ سيرسم المكتب لكل دائرة طريق مناصرتها لمرشحها هذا.

3- بقية النواب الذين لم تسبق للإخوان صلة بهم، وهؤلاء يناصر الإخوان منهم القوى المتدين الذي لا يجاهر بالعصيان، ويأخذون عليه العهد والموثق في وضوح وصراحة أن يكون إلى جانب الفكرة الإسلامية، وأن يخدمها في البرلمان، وسيكتب المكتب كذلك لكل دائرة عند ظهور الترشيحات بتوجيهاته المفصلة في هذه الناحية.

 

وقد انتهى هذا الدور الانتخابي بما تعلمون من تنازلي عن الترشيح بناء على محاولات رئيس الحكومة رفعة النحاس باشا الذي صرح بأنه أمام تبليغ من الإنجليز فإما التنازل وإما إعلان الحرب على الإخوان المسلمين بكل وسيلة؛ في الوقت الذي كنا نحن أحرص ما نكون على ألاَّ نصطدم بقوة مصرية لتستفيد من هذا الاصطدام الدسائس الإنجليزية، وكنا نعمل جاهدين على ادخار هذه القوى جميعًا، وعدم تعريضها للضياع والتفريق إبان الحرب لتعمل متكاتفة حين تنتهي، ويجيء الوقت المناسب في سبيل الوطن والأمة والإسلام وبهذا التنازل تفادينا هذا الاصطدام فعلاً، وتمكنا من السير بالدعوة في طريقها المرسوم رغم ما تجدد بعد ذلك من عقبات، وتفصيل ذلك معلوم لديكم، وسنزيده إيضاحًا في المذكرات إن شاء الله.

 

وأقيلت وزارة النحاس باشا في أكتوبر 1944م، وجاءت وزارة أحمد باشا ماهر رحمه الله، وحل مجلس النواب, وباشرت الحكومة إجراءات الانتخابات من جديد، ودارت الساقية المعروفة دورتها المألوفة، وامتنع الوفد عن دخول الانتخابات كما امتنعت الأحزاب من قبل، وكان الإخوان أمام قرار المؤتمر السادس من جهة وأمام التزامهم لأهل دائرة الإسماعيلية من جهة أخرى، وأمام ما يأملون ويعلمون بالتجربة من أن البرلمان هو الرئة الوحيدة للتنفس، واستنشاق بعض نسمات الحرية في ظل الأحكام العرفية الخانقة يرون أنه لا بد لهم من التقدم إلى الترشيح من جديد، ومع هذا فلم يقدموا على هذه الخطوة إلا بكل حكمة ورزانة وتعقل، وإلا بعد أن كاشفوا رجال الحكومة القائمة بأنهم لا يقصدون بذلك إحراجها ولا مناوأتها، وإنما يريدون أن يزاولوا حقًّا مكفولاً لكل مواطن بطريقه المشروع، ومع هذا الاحتياط فقد اجتمع مكتب الإرشاد العام وأصدر قرارًا واضحًا وأعلنه على رءوس الأشهاد وفي الصحف والجرائد السيارة "بأن هيئة الإخوان لا ترشح أحدًا من أعضائها بصفته الإخوانية، وأن من يرون أن يتقدموا إلى الترشيح فإنهم يتقدمون بصفته الشخصية كمستقلين، ولهذا فإنه محظور أن تستخدم دور الإخوان لدعاية انتخابية، أو أن يظهر خطباؤهم ورؤساءهم والبارزون منهم في الحفلات التي تقام لهذا الغرض إلا بصفتهم الشخصية كذلك". وقد رجا المكتب بعد ذلك عددًا كبيرًا من الإخوان أن يعدلوا عن الترشيح والتقدم حتى أصبح عدد المتقدمين من الإخوان لا يزيد على بضعة أفراد: المرشد العام في الإسماعيلية، والأستاذ محمد نصير في بنها، والأستاذ أحمد السكري في الفاروقية، والأستاذ عبد الفتاح البساطي في الفيوم، والأستاذ عبد الحكيم عابدين في مطر طارس، والأستاذ محمد حامد أبو النصر في منفلوط, أما محمد أفندي حمودة الذي رُشِّح في دائرة السويس فقد نهي عن ذلك نهيًا صريحًا، فلم يصغ إليه وأبى إلا أن يتقدم لثقته بأصدقائه وإخوانه ومحبيه في هذه الدائرة التي كان له فيها جهاد مشكور، ولأسباب خاصة حالت الظروف دون التقدم للانتخابات.

 

وفي هذه الأثناء انتهت فترة من فترات التجديد النصفي لمجلس الشيوخ، فلم يشأ الإخوان أن يتقدموا لأنهم يمتازون بحمد الله بميزتين تحول بينهم وبين دخول هذا الباب "الفقر والشباب"، ولعل ذلك هو الخير كل الخير للدعوة والداعين، ﴿وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمْ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ﴾ (الأحزاب: من الآية 36)، ﴿لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ وَاللهُ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ﴾ (الحديد: 23).

 

لقد أقدمنا على هذا الميدان مخلصين كل الإخلاص، برآء كل البراءة، مدفوعين إليه بحب الخير، والحرص على المصلحة، والغيرة على الدعوة المقدسة، والرغبة في اختصار الوقت، وإعلان رسالة الإصلاح الإسلامي من فوق هذا المنبر الرسمي، وما كان يدور بخلدنا أو يخطر ببالنا أن يتصور فرد واحد ما تقوَّله الناس بعد ذلك من أن هذا انحراف عن الخطة الوطنية المجردة إلى الحزبية السياسية البغيضة، وأنه استغلال للدعوة البريئة أريد به الوصول إلى الجاه الدنيوي والكرسي الحكومي، وأن الإخوان بعد أن كانوا دعاة دين قد أصبحوا محترفي سياسة، وأنهم بذلك ينافسون الأحزاب القائمة ويناوئونها ويخاصمونها، ويعلنون عليها حربًا لا هوادة فيها، فعليها أن تعلن عليهم الحرب من كل مكان، وأن تتغدى بهم قبل أن يتعشوا بها، هذه التي ما كانت تخطر لنا ببال والتي ينقضها من أساسها مسلك الإخوان في دورتين من دورات الانتخابات، فإن الذي يتابع ما ذكرنا من خطوات سابقة يخرج ولا شك بالنتائج الآتية:

1- أننا لم نكن نطلب من وراء هذا الترشيح حكمًا ولا مغنمًا، بدليل أننا لم نقدم في المرة الأولى إلا اثنين، وفي المرة الثانية إلا ستة.

2- وأننا لم نقصد بذلك مناوأة أحد أو خصومته؛ بدليل أننا تنازلنا في المرة الأولى، وتفاهمنا في المرة الثانية، وأعلنا في كلا المرتين أننا نشجع أهل الخير والصلاح مهما كانت ألوانهم الحزبية.

3- أننا لم ننحرف بذلك عن نهج الدعوة القويم، وصراطها المستقيم فقد أعلنا في وضوح، وخصوصًا في المرة الثانية أن المرشحين إنما يتقدمون بصفتهم الشخصية لا بصفتهم الإخوانية، وأن من واجب الإخوان أن يناصروا من المرشحين من يأملون فيهم العمل لصالح الفكرة الإسلامية، هذا فضلاً عن أن نجاح الإخوان في البرلمان من خير ما يساعد على ظهور الدعوة وقوتها ونجاحها، وهو حق مكفول لكل مواطن، ومن الظلم أن يحرم منه شخص بسبب انتسابه إلى الدعوة أو جهاده في سبيل الفكرة.

 

ولكن هكذا كان، وانطلقت الألسنة بِقَالة السوء تكيل الاتهام وتَلِغ في الظلام، ووقفنا نحن أمام هذه الحملات الظالمة مستغربين مندهشين آسفين، نقول كما قال سيدنا وهادينا وإمامنا من قبل: "اللهم اهد قومي فإنهم لا يعلمون"، ونتمثل قول الله الحق المبين: ﴿وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَقَالُوا لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ لا نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ (55) إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (56)﴾ (القصص).

 

ويقول بعض الخلصاء الذين لا يتهمون في رأى ولا نصيحة: إنكم تعجلتم الأمر قبل الأوان، وكان عليكم أن تنتظروا فترة طويلة حتى يتم النضج الشعبي ويكتمل الوعي القومي، وحينئذ تكونون المطلوبين لا الطالبين والمدعوين لا الداعين، وسواء أكان هذا القول صحيحًا كل الصحة أم مبالغًا فيه بعض المبالغة؛ فحسبنا أننا ما قصدنا إلا الخير، وما أردنا إلا النفع، وما تحرينا إلا ما اعتقدنا أنه الحق، وعِلْم ما بعد ذلك عند الله العليم الخبير، ولا يكلف الله نفسًا إلا وسعها، ولكل مجتهد نصيب، إن أصاب فأجران، وإن أخطأ فأجر واحد، وما كان الله ليضيع إيمانكم إن الله بالناس لرءوف رحيم.

 

والآن وقد قاربت دورة مجلس النواب الحالي الانتهاء، ولم يبق إلا عام واحد على الانتخابات الجديدة- ما لم يطرأ ما ليس في الحسبان- يتساءل الناس عن موقف الإخوان من الانتخابات القادمة: هل يُقدمون أم يحجمون؟ ولكل من الرأيين مرجحاته ومبرراته وحسناته وسيئاته، وإليكم بعض ما يقال من ذلك، والخير يقدمه الله ﴿مَا كَانَ لَهُمْ الْخِيَرَةُ سُبْحَانَ اللهِ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ﴾ (القصص: من الآية 68).

 

يقول الذين يرون التقدم والإقدام:

1- إن الإخوان قد جاهدوا عشرين سنة أو تزيد حتى وضحت للناس فكرتهم، واستبانت مقاصدهم، واجتمع لهم من القلوب والأنصار ما لم يجتمع لغيرهم، وإن لهم من تأثير دعوتهم ودقة نظامهم وشعلة حماستهم ما يضمن لهم النجاح مائة في المائة، هذا مع ملاحظة تفكك الأحزاب من غيرهم، واختلاط مناهجها، بل فقدان هذه المناهج وضعف تشكيلاتها، بل انعدام هذه التشكيلات وعجز رجالها وقادتها... فكيف يسمح الإخوان لأنفسهم أن تفلت هذه الفرصة من أيديهم، وهى إن أفلتت فلا يدرون ما سيكون عليه الحال بعد ذلك.

2- هذا مع تطور الحوادث العالمية، وجسامة التقلبات الدولية، وتعرض الشعوب العربية والإسلامية إلى كثير من التطورات التي تفرض على الغيورين عليها والحريصين على مصلحتها أن يكونوا في مراكز تسمح لهم بالتوجيه والتواجد الحقيقي، ومن أولى بذلك وأقدر عليه من الإخوان، وهم قد درسوا هذه القضايا، ومارسوا الجهاد في سبيلها بألسنتهم وأقلامهم ودمائهم وأرواحهم، ونفذوا بذلك إلى دقائقها وخفاياها، وأصبحوا أعرف الناس بمواردها ومصادرها، فكيف يرضون لأنفسهم أن يتخلفوا عن الركب ويقعدوا في ساعة العسرة، وما الفرق بين هذا الموقف وموقف التولي يوم الزحف والفرار عند لقاء الخصم، وعهدنا بالإخوان أنهم الكرارون لا الفرارون، أسرع الناس إلى تلبية النداء وإجابة الدعاء.

3- ولنكن مع هذا صرحاء في الحق لا تأخذنا فيه لومة لائم، فنقول: هل أمام أصحاب الدعوات وحملة الرسالات في هذا العصر من سبيل مشروعة إلى تحقيق مقاصدهم والوصول إلى أهدافهم إلا هذه السبيل الدستورية؛ السلطة التشريعية أولاً، فالسلطة التنفيذية بعد ذلك؟ وإنما يكون طلب الحكم والسعي إليه عيبًا وعارًا وسبة إذا أريد به الجاه الزائف والعرض الزائل، أما أن يقصد من وراء ذلك تحقيق مناهج الإصلاح، وإظهار دعوة الخير، وإعلاء كلمة الإسلام والحق؛ فلا عيب فيه ولا غبار عليه، بل لعله يكون من أقدس الواجبات وأعظم القربات، ويجب أن نطلب ونسعى إليها لأنفسنا بل لدعوتنا ورسالتنا، ليحكم الناس بعد ذلك لنا أو علينا، أما هذا الموقف السلبي فليس وراءه إلا ضياع الوقت بغير طائل، وإلا فما هي الوسيلة التي يراها الإخوان لتحقيق رسالتهم غير التقدم إلى البرلمان؟ الوعظ والإرشاد والدعوة والإقناع ومخاطبة النفوس والأرواح؟ وهي سبيل الفلاسفة والخيالين لا سبيل المصلحين العمليين.

4- ثم ما لكم تنفرون من الانتخابات في مصر، وقد تقدم الإخوان سافرين إلى الانتخابات في سورية، فنجح منهم سبعة في البرلمان السوري، كانوا بحمد الله مفخرة الشباب وزينة النواب، وأصبح للدعوة في القطر الشقيق كلمتها المسموعة ورايتها المرفوعة؟

5- وإذا قلتم: إن ذلك سيصبغنا بالصبغة الحزبية، وسيجر علينا الخصومات السياسية، وسيلون الدعوة بغير لونها الحقيقي ويقذفها بسيل من الاتهامات المغرِضة نحن في غنى عنه، ويباعد بيننا وبين كثير ممن يرجى منهم الخير، ويجعلنا حزبًا في مصاف الأحزاب مع أننا نؤمن ونعتقد ونقول: إن دعوتنا بشمولها وعلوها وسموها تفوق الأحزاب، والجواب على هذا: أن العبرة بالمقاصد والغايات لا بالظاهر والشكليات، وبالحقائق والمسميات لا بالأسماء والصفات، وما دمنا بمقصدنا ودعوتنا وأسلوبنا فوق الخصومة الحزبية والغايات الشخصية والمطامح المادية فلا يضيرنا أبدًا ما يقول الناس، وسيجذب الله إلينا قلوب أهل الخير أينما كانوا، وسيكون انصراف المنصرفين عنا دليلاً على تخير الله لنا، ولو علم الله فيهم خيرًا لأسمعهم، وأية دعوة هذه التي تريد ألا يكون لها خصوم وأعداء وسنة الله الماضية في الدعوات أن تظل هدفًا لسهام الخصومات والاتهامات؟ ﴿أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ (2) وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ (3)﴾ (العنكبوت)، وما دمنا فكرة سامية، ودعوة عالية، وجماعة نقية، وأمة تقية، فليقل الناس: حزب أو غير حزب، وليظنوا بنا ما شاءوا، فإن الظن لا يغنى من الحق شيئًا، ومهمتنا أن نحاول بالدعاية الصادقة والجهود الدائبة أن تُصحَّح الأفهام، وتحارب الأوهام، فمن اهتدى فإنما يهتدي لنفسه، ومن ضل فإنما يضل عليها، وما أنا عليكم بوكيل.

 

ويقول الذين يرون أن نحجم عن التقدم إلى الانتخابات بتاتًا أو هذه الدورة على الأقل:

1- إنه مع التسليم بما هو معروف عن الإخوان في كل مكان من أكثرية ساحقة، وأنهم بنصاعة فكرتهم وتأثير دعوتهم ودقة نظامهم وتعلق القلوب بهم، وأن الأمة المصرية تستجيب لدعوة الدين وصوت الإيمان واليقين، وبما يقابل ذلك من تفكيك بقية الأحزاب والهيئات وإقلالها من المناهج والأعمال؛ سيضمنون النجاح مائة في المائة.

2- ولقد أثار تقدم الإخوان للانتخابات في الدورتين الماضيتين غبارًا كثيفًا أخفى لمعان إخلاصهم عن العيون، وحجب إشراق دعوتهم عن كثير من القلوب، وصرف عنهم كثيرًا ممن كان يرجى منهم الخير فعلاً، ولكن لهم من ظروفهم أو أسلوب تفكيرهم ما يجعلهم يؤثرون العافية، ولا يريدون أن يقتحموا هذه المزالق مع المقتحمين، ومن الخير والحق كذلك أن نكون صرحاء فنقول: إن الإخوان أمام تألب خصومهم على اختلاف أحزابهم عليهم، وأمام موجات الاتهامات الباطلة الغامرة التي وجهت إليهم، وأمام أساليب التهريج المضللة التي حوربوا بها أمدًا طويلاً، وأمام المفاجأة بهذا كله مفاجأة لم يكونوا ينتظرونها لطهر نفوسهم، وسلامة طويتهم، وتعففهم عن مثل هذه الأساليب؛ لم يستطيعوا أن يحولوا بين جانب كبير من الرأي العام الشعبي، وبين التأثر بهذه الدعايات المضللة، فمن هذا الجانب من انصرف لشأنه، ومنهم من وقف يترقب نتيجة المعركة، هواه مع الإخوان، وحجاب التضليل قائم بينه وبين ما يهوى، ومن الخير للإخوان ومن الرحمة بالناس- والرحمة أخص خصائص أهل الدعوة- أن تعمل على عدم غشيان هذا الميدان، وأن من أدب الإسلام الذي أدبنا به رسول الله صلى الله عليه وسلم "ومن اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه" (أخرجه البخاري"دع ما يريبك إلى ما لا يريبك". (أخرجه الترمذي).

3- وأيضًا فإن الإخوان ينظرون إلى هذا النظام الحزبي بصورته الحاضرة على أنه نظام لا يرتاحون إليه، وليس معنى هذا أنهم ينكرون المبادئ الشورية أو القواعد الأساسية التي قام عليها النظام الدستوري المصري، وكلها من حيث المبادئ العامة تتفق تمامًا مع الإسلام، وإذا كان هذا هو رأي الإخوان، فلماذا يورطون أنفسهم؟!

4- وإذا قيل في الوسيلة أذن إلى تحقيق الفكرة؛ كان الجواب على ذلك لا دخول انتخابات، وعلى الجميع أن يستقيموا على أمر الله العزيز الحميد بعيدين عن مواطن الشبهات، ومزالق الاتهامات، دعاة مؤمنين مجاهدين نعبد الله مخلصين له الدين حنفاء لله رب العالمين، نقيم الصلاة، ونؤتى الزكاة، ونأمر بالمعروف وننهى عن المنكر، حتى يفتح بيننا وبين الناس بالحق، وهو خير الفاتحين وذلك دين القيمة.

 

وبعد، فهذه حجج الطائفتين ومنطلق الفريقين أضعه أمام أنظاركم، ثم أقترح عليكم بهذه المناسبة اقتراحًا أرجو أن يظفر بموافقتكم، فإن أسوأ الرأي الفَطِير، ونعوذ بالله من الرأي الدبري.

 

أقترح أن ننتهز هذه الفرصة من الآن إلى الانعقاد العادي للهيئة في المحرم إن شاء الله، فنوجه الإخوان وإلى من شاء أن يدلى بدلوه في الدلاء.

 

فهل يحق للإخوان المسلمين الابتعاد عن الانتخابات الحزبية أم أن الخير للدعوة وأبنائها في اقتحام ميدان الانتخابات النيابية والتمثيل في هذه الهيئات الرسمية؟

 

وإذا كنت ترى ألا يتقدم الإخوان إلى الانتخابات، فهل لهذه الدورة فقط أم في كل الحالات والدورات؟!

 

وإذا كان من رأيك عدم التقدم، فهل تجيز أن يتقدم من شاء من الترشيح مستقلاًّ بصفته الشخصية لا بسمعته الإخوانية؟ (على أن يكون مفهومًا أن ذوى الصفات البارزة في الإخوان، كالمرشد والوكيل والسكرتير العام والأمين خارجون عن هذا الجواز لصعوبة الفصل بين صفاتهم الخاصة والعامة).

 

كما أقترح أن ترسل الإجابات من الآن إلى ما قبل الموعد المضروب بأسبوعين باسم اللجنة السياسية للإخوان المسلمين، ثم تقوم بفحص الردود وكتابة تقرير وافٍ بنتيجة الاستفتاء، وبرأيها في الأمر يتلى على الهيئة، وتقول فيها كلمتها التي يصدر عنها الإخوان، ويحددون على ضوئها موقفهم من الانتخابات القادمة، على أن يكون مفهومًا تمام الفهم أن من واجب الإخوان أن يبادروا بقيد أسمائهم وتسجيلها في جداول الانتخابات في ديسمبر القادم إن شاء الله، وأن ينظموا شئونهم في هذه الناحية أدق التنظيم؛ فإنهم إن لم يكونوا مرشحين فسيكونون على أية حال ناخبين، ولن يضيرهم الاستعداد شيئًا، وقد قيل: "اعمل لدنياك كأنك تعيش أبدًا، واعمل لآخرتك كأنك تموت غدًا" .واللهَ أسأل أن يلهمنا جميعًا السداد والرشد، وأن يوقفنا لكلمة الحق وعمل الخير، وألاَّ يَكِلَنا إلى أنفسنا طرفة عين، ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهب لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب.

 والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.