تُعبر كلمة المطر عن كمية الماء المتساقط على سطح الأرض، وتقاس بالمليمتر المكعب في الشهر، ويختلف عن الرذاذ في كبر حجم قطراته، فغالبًا ما يزيد قطر قطرات المطر عن 0.5 مليمتر، ويهبط عادة بسرعة تزيد عن ثلاثة أمتار في الثانية، وقد يسقط على شكل رخَّات، وهناك ثلاثة أنواع رئيسية من الأمطار، فمنها المطر التضاريسي والإعصاري والتصاعدي (فهمي هلال أبو العطا، الطقس والمناخ ، ص 15).

 

وتسقط الأمطار عادة نتيجة لانخفاض درجة حرارة الهواء المحمل ببخار الماء في الطبقات العليا إلى ما دون نقطة الندى أي أن هناك شرطين رئيسيين لسقوط الأمطار، أولهما أن يكون الهواء محملاً بكمية مناسبة من بخار الماء، وكلما زادت هذه الكمية كلما غزر المطر، وثانيهما أن يرتفع هذا الهواء إلى أعلى حتى تنخفض درجة الحرارة، ويلاحظ أن كمية المطر السنوي تختلف كثيرًا من منطقة لأخرى، فهناك مناطق ينعدم فيها سقوط المطر ومناطق أخرى تزيد فيها كمية المطر (أحمد مصطفى، أسس الجغرافية الطبيعية ، ص 306).

 

وبالنسبة لمصر فيمتاز مناخها الصحراوي لمعظم مدنها- سوى الشريط الساحلي- بندرة سقوط الأمطار، وطبقًا للبيانات المناخية لهيئة الأرصاد الجوية المصرية فإن معدل سقوط الأمطار في القاهرة متغير من سنة لأخرى، فقد يصل إلى حوالي 30 يومًا في السنة (ناصر بسيوني مكاوي، دراسة تحليلية للعوامل المؤثرة على اتجاهات العمارة في مصر، ص 15)، ويذكر علي مبارك أيضًا أن علماء الحملة الفرنسية رصدوا عدد أيام المطر بالقاهرة فوجدوها ما بين 15: 16 يومًا، كما رصد هو نفسه عدد أيام المطر في الفترة من سنة 1835م: 1839م فوجدها خلال الخمس سنوات هذه ما بين 12: 13 يومًاً، وفي سنة 1871م كان عدد أيام المطر 9 أيام (علي مبارك، الخطط التوفيقية، ج 1، ص 260: 261).

 

ورغم هذا التدني في معدل سقوط الأمطار إلا أنها قد تنهمر أحيانًا بشدة وبطريقة فجائية ولفترات قصيرة، كما حدث في هذه الأيام على محافظات سيناء وأسوان، وربما يرجع ذلك إلى تأثير الانخفاضات الجوية التي تظهر في الشتاء والربيع؛ حيث نجد أن مرور الانخفاضات الجوية الشتوية والربيعية بمصر هي أكبر ظاهرة تسبب تغيرًا كبيرًا في طقسها ومناخها، وأحيانًا نتيجة لسوء الأحوال الجوية تنهمر الأمطار على غير عادتها بالقاهرة قد يستمر أسبوعًا، ويرجع ذلك لتعرض المدينة للأعاصير الشتوية بوجه عام، كما تتأثر الأمطار بظروف الضغط المحلي في المنطقة الشرقية لمصر(محمد صفي الدين وآخرون، دراسات في جغرافية مصر، ص 169).

 

1- سيول على مدينة القاهرة عبر تاريخها:

إذا تصفَّحنا صفحات تاريخ القاهرة نجد المقريزي يسجِّل لنا في خططه نزول سيول من وادي الدويقة، فيذكر أن الجهة الشرقية من القاهرة وهي ما بين السور والجبل كانت فضاءً ثم أمر الحاكم بأمر الله الفاطمي أن تُلقى أتربة القاهرة ومخلفات الأبنية من وراء السور لتمنع السيول أن تدخل القاهرة، وعُرفت هذه التلال بالبرقية؛ لأنها تقع خارج باب البرقية، أحد أبواب سور القاهـرة الشرقي (المقريزي، المواعظ والاعتبار بذكر الخطط والآثار، ج 1، ص 364)، وكانت هذه التلال تُضيق الخناق على القاهرة من الشرق، فكان هناك تفكير في إزالتها فيذكر علي مبارك أن الخديوي إسماعيل كان ينوي إزالتها ضمن مشروع تحسين القاهرة، ولكن لم تمهله الأيام لذلك، وفي سنة 1957م أُزيلت بعض الأجزاء من هذه التلال، وسوِّيت بعض التلال الأخرى؛ لكي يمتد العمران عبرها نحو الجبانات الشرقية؛ حيث أُزيل جزء من التلال، فأصبح طريقًا رئيسيًّا مهمًّا هو شارع حسن عبد الوهاب حاليًّا، وأُزيل جزء آخر، فأصبح موقعًا عامًا لمحطة أتوبيسات الدراسة، وحُول أحد هذه التلال إلى حديقة عامة سُميت بحديقة الخالدين، أما باقي التلال الممتدة فيما بين هيئـة نظافة القاهـرة حتى باب الوزير، فهي التي أقيم عليها الآن حديقة الأزهر بمعرفة الأغاخان.

 

كما سجَّل لنا المقريزي في كتابه "السلوك" نزول سيول وأمطار على غير العادة في القاهرة، فيذكر في حوادث يوم 29 من جمادى الأول سنة 698هـ/ 1298م حدث هـطول للمطر بالقاهرة؛ حتى سال المقطم إلي القرافة فأفسد عدَّة ترب، ووصل الماء إلى باب النصر من القاهرة، وأفسد السيل هناك عدة ترب أيضًا (المقريزي، السلوك لمعرفة دول الملوك، ج1، ق3، ص 873)، وفي حوادث شهر شوال سنة 728هـ / 1327م أرعدت السماء وأبرقت ثم أمطرت مطرًا عظيمًا وجرى السيل إلى المطرية، وأمطرت بالقاهرة ومصر ثلاثة أيام مطرًا لم يعهد مثله تلف منه عامة السقوق (المقريزي، السلوك، ج2، ق1، ص 300).‏

 

وفي شهر ذي الحجة سنة 745هـ/ 1344م حدث مطر غزير ثم برد على غير العادة، فكانت أراضي النواحي تصبح بيضاء من كثرة الجليد حسبما ذكر المقريزي، وهلك من شدة البرد جماعة من بلاد الصعيد وغيرها،‏ وأمطرت السماء خمسة أيام متوالية؛ حتى ارتفع الماء في مزارع القصب قدر ذراع، وعم ذلك أرض مصر قبليها وبحريها، ففسدت بالريح والمطر مواضع كثيرة، وقلَّت أسماك بحيرة دمياط والخلجان وبركة الفيل وغيرها؛ لموتها من البرد‏، فتلفت في هذه السنة بعامة أرض مصر بالأمطار والثلوج والبرد وهبوب السمائم وشدة البرد من الزروع والأشجار والبهائم والأنعام والدور ما لا يدخل  تحت حصر، وفي حوادث 15 شوال سنة 753 هـ/ 1352م يذكر المقريزي أن الأمطار كانت كثيرة جدًا، وسقط الثلج بناحية بركة الحبش وعلى الجبل وبأراضي الجيزة ‏(المقريزي، السلوك، ج2، ق3، ص 673، 884).‏

 

وفي شهر جمادى الآخر سنة 756هـ/ 1355م سقط مطر في غير أوانه عمَّ الوجه البحري ونزل معه برد فتلف زرع كثير من السيل، وهبَّت قبل هذا المطر ريح عاصفة أغرقت عدة مراكب في ليلة يوم السبت 12 صفر سنة 775هـ/ 1373م أرعدت السماء وأبرقت وسحت بأمطار غزيرة عمت كثيرًا من أراضي مصر (المقريزي ، السلوك ، ج 3 ، ق 1، ص 21 : 22 ، 220)، وفي 7 رمضان من سنة 783هـ/1381م أمطرت السماء مطرًا قلَّ ما عُهد مثله في الكثرة؛ حتى سالت الأزقة والشوارع، وخاضت الخيل في الماء، وسال الجبل سيلاً عظيمًا إلى الغاية ‏(المقريزي، السلوك، ج 3، ق 2، ص 452).‏

 

وفي شهر صفر سنة 818هـ/ 1415م الموافق التاسع من بشنس حدث رعدٌ وبرقٌ حسبما ذكر المقريزي قلَّ ما عهد مثله بمصر، وعقبه مطر كثير جدًا سالت منه الأودية، وتغير ماء النيل لكثرة ما انحدر إليه من السيل (المقريزي، السلوك، ج 4، ق 1، ص 310)، وفي شهر الله المحرم سنة 827 هـ/ 1423م كثرت الأمطار بالقاهرة والوجه البحري كثرة زائدة‏، واشتد البرد إلى غاية لم يُعهد مثلها؛ حتى جُمد الماء في بعض الأواني، وتجلَّد الطل في الأشجار على الأرض وعلى الزروع،‏‏ وهلكت دواب كثيرة بالأرياف من البرد، وسقطت دُور كثيرة بها من الأمطار ورؤى الثلج على جبل المقطم‏، وذكر كلٌّ من المقريزي وابن تغري بردي أنه في يوم الإثنين خامس عشر من شهر الله المحرم سنة 832هـ/ 1428م حدث أثناء فصل الخريف ومع غروب الشمس برق متوال تبعه رعد شديد ثم مطر غزير خارج عن الحد، واستمر معظم الليل فلم يدرك بمصر مثله برقًا ورعدًا، ويَذْكر المقريزي معلقًا على ذلك أنه لم يُعهد بمثل غزارة هذا المطر في أثناء فصل الخريف (المقريزي، السلوك، ج 4، ق 2، ص 656، 790، ابن تغري بردى، النجوم الزاهرة، ج 14 ، ص 323)‏.‏

 

في شهر المحرم سنة 837 هـ أمطرت السماء ولم نعهد قبله مطرًا في فصل الصيف، فأشفق أهل المعرفة على النيل أن ينقص، فإن العادة جرت بأن المطر إذا نزل في أيام الزيادة هبط ماء النيل فكان كذلك، وفي شهر صفر من نفس السنة أيضًا توالت بروق ورعود وأمطار غزيرة متوالية بالوجه البحري (المقريزي، السلوك ، ج 4 ، ق 2، ص 903 ، 905).

 

وفي سنة 838هـ / 1434م وخلال شهر رمضان وقع بالقاهرة مطر كثير غزير تلفت منه سقوف البيوت، وسال جبل المقطم سيلاً عظيما أقام منه الماء بالصحراء عدة أيام‏،‏ وهذا أيضًا في هذا الوقت مما يندر وقوعه بأرض مصر حسبما ذكر المقريزي، وكانت هذه الأيام توافق شهر برمودة من شهور القبط (المقريزي، السلوك، ج 4، ق 2، ص 945)‏.

 

وسجل لنا علي مبارك أيضًا هطول سيل كثير في سنة 1205هـ من ناحية الجبل الأحمر، وقد امتد هذا السيل إلى جهة الجمالية وجامع الحاكم (380 : 403هـ / 990 : 1012م ) ثم إلى الحارات المجاورة؛ مما نتج عنه خراب كبير لخُط الحسينية وما جاورها (علي مبارك، الخطط التوفيقية، ج 1، ص157)، كما شاهد الرحالة لوبير تعرض القاهرة لأمطار غزيرة أثرت على حركة السير والبيع والشراء بأسواقها (جاستون فيت ، القاهرة مدينة الفن والتجارة، ترجمة مصطفى العبادى ، أخبار اليوم، القاهرة 1990م ، ص 93).

 

 الصورة غير متاحة
   2- سيول على مدن الصعيد:

تعرضت مدن الصعيد للسيول في فترات متفاوتة من تاريخها، فيذكر المقريزي في شهر ذي الحجة سنة 745هـ/ 1344م جاء مطر غزير ثم برد لم يُعهد مثله، فكانت أراضي النواحي تُصبح بيضاء من كثرة الجليد، وهلك من شدة البرد جماعة من بلاد الصعيد وغيرها، وأمطرت السماء خمسة أيام متوالية حتى ارتفع الماء في مزارع القصب قدر ذراع (المقريزي، السلوك، ج 2، ق 3، ص 673)، وفي سنة 832هـ/ 1428م يذكر أيضًا سقوط أمطار وبرد شديد على ناحية بني عدي من البهنساوية، فهلك من الدجاج والغنم والبقر شيء كثير، فهلك لرجل ستون رأسًا من الضأن، وهلك لآخر خمسون رأسًا من المعز، ولم يتجاوز هذا البرد بني عدي، وكان مع البرد والمطر رعد مرعب من شدته وبرق متوال ورياح عاصفة‏ (المقريزي، السلوك، ج 4، ق 2، ص 790).

 

3- اعتناء المصريين منذ القدم بالتخلص من مياه الأمطار:

على إثر هذه السيول الفجائية جاء الحل المعماري بمنشآت مدن الصعيد منذ القدم، فاعتنى المصريون من القدم بمشكلة التخلص من مياه الأمطار على الرغم من ندرتها معظم فترات السنة؛ حتى لا تُفسد الزخارف الملونة داخل المعابد إن تسربت، فكانت تترك قنوات صغيرة على طول الفواصل بين الكتل الحجرية، وكانت تلك الفواصل تسد بسدات حجرية، كذلك حرصوا على ألا تتسرب مياه المطر من فتحات السقوف، لذلك علوا حوافها بقدر طفيف، وكان تصريف الماء يتم بجعل سقوف المباني الصغيرة مائلة ميلاً خفيفًا لكي يسيل الماء إلى جانبي المبنى ويصب في قناة، أما في المباني الكبيرة فكانت لها مجار وميازيب منظمة استوجبت وجودها العناصر المناخية وخاصة الأمطار، فاستخدمت الميازيب في المناطق والمدن ذات الطبيعة الممطرة، فنجدها في الآثار الرومانية بالإسكندرية.

 

وزود المصري القديم معابده بميازيب فخمة لتصريف ما قد يهطل من أمطار أو سيول فجائية من حين لآخر (محمد أنور شكري، العمارة فى مصر القديمة، ص 37حيث وجد بالأسقف قنوات مائلة تدفع الماء إلى الميازيب؛ لمنع تراكم ماء المطر وسهولة صرفها، والتي شكلت على شكل رأس أسد ينسكب عبرها ماء المطر، فلا يتجمع فوق سطح البناء ، وهو ما نلاحظه في جوسق سنوسرت الأول؛ حيث يمتد فوق العتبات طنف يتدلى منه على جانبين من ميازيب بمعبد دندرة جوانب الجوسق أو المقصورة ميزرابان على شكل أسدين، وكذلك في معبدي إدفو ودندرة بمحافظة قنا، وكذلك وُجد في مقبرة الدير البحري نماذج لدور ريفية منها مبنى صغير فخم تعلوه الميازيب (ثروت عكاشة، الفن المصري، ج 1، ص 356، 394، 402، 410).

 

وقد شاهدتها أيضًا في أديرة الصعيد كما في الدير الأحمر والدير الأبيض بسوهاج، والتي تنوعت في أشكالها، وقد نُحتت من مادة الحجر الجيري، وهذا يؤكد على اعتناء واستعداد المصري القديم لما قد يصيبه من خطر الأمطار الفجائية.

 

وفي منازل مدينة رشيد وفي حالة تصريف مياه الأمطار من على الأسطح قام المعمار بعمل مجرى لمياه الأمطار ينحدر إليه السقف في تدرج، ووجدت هذه النوعية من وسائل التصريف التي لا تضر بالجار في منازل رشيد كما في منزل رمضان والمناديلي.

 

وفي عمائر القاهرة حرص المعمار القاهري على تغطية سطوح منشآته بطبقة من الملاط أطلقت عليها الوثائق المملوكية اسم السطح المبربق؛ لتحمل مياه الأمطار التي تسقط عليها في فصل الشتاء، ولتصريف هذه المياه رغم قلَّتها في معظم أيام الشتاء استخدم عنصر معماري صنعه من مادة الحجر الجيري في الغالب أو من المعدن، وأطلق عليها معماريًّا مصطلح الميازيب، وهي أنبوبة مقعرة توضع في أعلى المنشآت؛ حيث يثبت أحد طرفيه عموديًّا على الجدار، ويميل الطرف الآخر قليلاً إلى أسفل؛ ليخرج منه ماء المطر الذي يتساقط على الأسطح المستوية الذي رُوعي فيها انحدارها باتجاه الميزاب كي تسهل عملية تصريف المياه ويصب الميزاب المياه في الشوارع المتسعة، وقد تفنن المعماريون في تصميمها وزخرفتها ميزاب تصريف المطر بواجهة جامع الصالح طلائع بالقاهرة.

 

4- الأحكام الشرعية وتنظيم وضع الميازيب:

لما كانت المياه المنصرفة من الميازيب تُلقى في الغالب في شبكة الشوارع المحيطة بالمنشأة ما قد ينتج عنه خلافات بين الجيران أو أضرار بالشارع، في ظل التعقيد الشديد لشبكة الطرق الرئيسية والفرعية وكثرة تعرجها وضيق دروبها، فيلجأ فيها إلى القضاء والفقهاء، وبالرجوع للأحكام الفقهية المتعلقة بشبكة الطرق في المدن الإسلامية، يتضح أنها لم تغفل ذلك بل نظَّمت إنشاء هذه الميازيب، فشرعت بجواز إنشائه في الطريق النافذ ما دام لا يضر بالعامة ولا يملك أحد منعه، مستندة إلى أن النبي صلى الله عليه وسلم نصب ميزابًا في دار العباس رضي الله عنه (أبو حامد المقدسي، الفوائد النفيسة الباهرة في بيان حكم شوارع القاهرة ، ص 22).

 

وذهب إلى ذلك الشافعية والمالكية، واشترطت المالكية رفعه عن رءوس المارين رفعًا بينًا، وذهب أبو حنيفة في القول الصحيح والمذهب عند الحنابلة وبعض المالكية إلى أنه لا يجوز أن يخرج العامة ميزابًا ولو لم يضر بالعامة ما لم يأذن بذلك الإمام أو نائبه (إبراهيم بن محمد الفائز، البناء وأحكامه في الفقه الإسلامي، رسالة دكتوراه، المعهد العالي للقضاء، جامعة الملك محمد بن سعود 1985م، ص 475 : 477)، وفي الشوارع الضيقة والغير نافذة وهي الطرق التي يقتصر استعمالها على أصحابها والتي تفتح أبواب منازلهم عليها ولكون هذه الطرق من نوعية الطرق الخاصة فللأحكام الفقهية فيها مذهبان؛ الأول: أنه لا يجوز أن يشرع إلى الطريق غير النافذ أن يخرج ميزابًا أو نحوه مطلقًا إلا بإذن أرباب السكة المشتركين فيها، سواء تضرر أم لا ولا يجوز لغير أهل السكة بلا خلاف.

 

المذهب الثاني: أنه إن لم يضر أهل السكة جاز، وذهب إلى ذلك الإمام أبو حامد من الشافعية. وقال ابن حزم: يجوز ذلك كله من غير قيد أو شرط (إبراهيم بن محمد الفائز، البناء وأحكامه ، ص 486 : 487)، ويذكر أيضًا ابن قدامة في "المُغني": إنه لا يجوز إخراج الميازيب إلى الطريق الأعظم، ولا يجوز إخراجها إلى درب نافذ إلا بإذن أهله. وقال أبو حنيفة ومالك والشافعي يجوز إخراجه إلى الطريق الأعظم؛ لأن عمر رضي الله عنه اجتاز على دار العباس وقد نصب ميزابًا على الطريق فقلعه، فقال العباس تقلعه وقد نصبه رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده؟ فقال: والله لا نصبته إلا على ظهري وانحنى حتى صعد على ظهره فنصبه، وما فعله رسول الله صلى الله عليه وسلم فلغيره فعله ما لم يقم دليل على اختصاصه به؛ ولأن الحاجة تدعو إلى ذلك، ولا يمكنه رد مائه إلى الدار؛ ولأن الناس يعملون ذلك في جميع بلاد الإسلام من غير نكير، ولنا أن هذا تصرف في هواء مشترك بينه وبين غيره بغير إذنه فلم يجز، كما لو كان الطريق غير نافذ؛ ولأنه يضر بالطريق وأهلها، فلم يجز كبناء دكة فيها أو جناح يضر بأهلها، ولا يخفى ما فيه من الضرر، فإن ماءه يقع على المارة وربما جرى فيه البول أو ماء نجس فينجسهم، ويزلق الطريق ويجعل فيها الطين، والحديث قضية في عين، فيحتمل أنه كان في درب غير نافذ، أو تجددت الطريق بعد نصبه، ويحتمل أن يجوز ذلك؛ لأن الحاجة داعية إليه، والعادة جارية به، مع ما فيه من الخبر المذكور (ابن قدامة (موفق الدين عبد الله بن أحمد) المغني، ج 4، الطبعة الأولى، دار إحياء التراث، القاهرة 1985م).

 

 الصورة غير متاحة

خزان لتجميع مياه الأمطار بناه الأغالبة بمدينة بتونس

   5- كيف استفاد المسلمون من مياه السيول والأمطار؟!

في بعض المدن الإسلامية التي يشحُّ فيها المياه، كان يتم تجميع مياه الأمطار؛ لتوفير مصدر إضافي من المياه للاستعمالات الخاصة مثل: ريَ الحدائق المنزلية، والتنظيف؛ مما يساعد في تقليل الطلب على مياه الشرب بأقل كلفة ممكنة، بشرط ألا تُستخدم كمياه للشرب بدون معالجة، وتختلف كميات المياه الممكن تجميعها على معدلات سقوط الأمطار في المناطق المختلفة، وكان يُستخدم هذا النظام في المدن التي يزيد معدل سقوط الأمطار فيها عن 200 ملم سنوي.

 

فاستخدم في مدينة القدس الشريف، وهو ما يؤكده الرحالة ناصر خسرو الذي زار مدينة القدس أثناء رحلته، فيذكر أن المسجد الأقصى قد حُفر في أرضه أحواض وصهاريج كثيرة يتجمع فيها ماء المطر، فلا تضيع منه قطرة، وينتفع به الناس وهناك ميازيب من الرصاص ينزل منها الماء إلى أحواض حجرية تحتها، وفي المنازل كلها أحواض لجمع ماء المطر إذ لا يوجد غيره هناك، ويجمع كل إنسان ما على سطح بيته من مياه، فإن ماء المطر هو الذي يُستعمل في الحمامات وغيرها (ناصر خسرو ، سفرنامة ، ص 75)، ويؤكد ذلك ابن ظهيرة فيذكر لنا أن مياه بلاد الشام إما من آبار تُحفر، أو ما يُجمع من المطر (ابن ظهيرة، الفضائل الباهرة ، ص 186).

 

كما صممت أسقف التكوينات المعمارية بمدينة القيروان بميل معين يسمح باتجاه مياه المطر إلى  خزانات صممت لتخزين المياه عرفت بالمواجل، وهى إما أن تكون عادة يشرب منها العامة مثل الموجودة في المهدية والقيروان، وما زال أحدها موجودًا وهو الذي شيده أحمد بن محمد بن الأغلب، ويعرف بين أهل تونس بفسقية الأغالبة، وقد شُيدت سنة 863م وتبعد بمسافة كيلو متر واحد من البوابة الشمالية للقيروان، وتستقبل المياه من وادي مرج الليل في فترة الأمطار (محمد محمد زيتون، القيروان ودورها في الحضارة الإسلامية، ط 1 ، دار المنار للطبع والنشر والتوزيع، القاهرة 1988م ، ص 92: 93).

 

واتُّبع هذا الأسلوب في مدن المغرب والأندلس، ففي مدينة رباط الفتح في المغرب وخاصة في العصر الموحدي كانت الميازيب تتصل بصهاريج أو مصانع في باطن الفناء المكشوف، واعتبر ذلك من الابتكارات الموحدية، والتي يمكن مشاهدتها بوضوح في أعلى سطح مسجد الكتبية، ويذكر حسن الوزان أن علي بن يوسف يعقوب المنصور جدد الجامع الذي شيده جده الخليفة الموحدي بجوار قصبة مدينة مراكش، وجعل سقفه من رصاص، وأمر بأن تحيط بالسقف قنوات ضيقة بحيث تصرف جميع المياه الساقطة عليه إلى الخزان الذي أمر بتشييده تحت الصحن بعقود على جميع مساحة الجامع (الحسن بن الوزان ، وصف إفريقيا ، ص 139)، كما كانت مياه الأمطار تتجمع بين الأسقف الجمالونية في مدن الأندلس الإسلامية، وتتجمع في قنوات تصب في ميازيب عثر على واحد منها أشبه بالكابولي المزود باللفائف في قاعات قصر الخلافة (محمد محمد الكحلاوي، العمارة الإسلامية في المغرب الإسلامي عمارة الموحدين الدينية "دراسة أثرية معمارية "رسالة دكتوراه، كلية الآثار، قسم الآثار الإسلامية ، جامعة القاهرة 1986م، ص 320).

 

وتعكس طريقة إنشاء الأسطح كما سبق وأن بينا كيفية مقاومة الأمطار، فأعتقد أن طريقة العزل التي توضع فوق المستوى العلوي من السقف من مواد عازلة كالحصير وسعف النخيل مجدول يعلوها كسر الطوب ومونة الجير والطين بطريقة البربقة، كان الأساس من تكوينها حتى يكون السطح الخارجي للسقف قويًّا على تحمل الأمطار، فيحفظ المنشآت من أن يخرق ماء المطر سقفها فيفسد أخشابها بما نقش أو نحت عليها من زخارف وكذلك الجدران.

 

 ولتجميع المياه من جميع مواضع السطح؛ شيد المعمار سطح السقف المسطح منحدرًا بميل اتجاه قناة أو مجرى ثم إلى حوض أو حفرة التجميع وتكسى بنفس مواد تغطية السقف، ويتراوح درجة الميل ما بين 0.5٪ : 1٪  لضمان تدفق للمياه الجارية مع مراعاة عدم وجود انبعاجات أو حفر قد تعوق عملية التصريف، أما عن منطقة التجميع فتخضع لحجم المنشأة، فهناك منشآت ذات مخرج أحادي، أما في حالة الأسطح ذات المساحات الكبيرة أو المنشآت غير المنتظمة يُستخدم أكثر من مخرج، مع العلم أنه كان يفضل أقصر المسارات للتصريف.

 

 الصورة غير متاحة

ميزاب تصريف مياه المطر بالكعبة المشرفة

   6- تصريف مياه المطر ببعض المدن الإسلامية:

استخدمت الأساليب المختلفة لتصريف المياه أيضًا في العمائر الإسلامية في مختلف المدن الإسلامية التي تتعرض لسقوط الأمطار؛ حتى ولو كانت قليلة، فاستُخدمت الميازيب بشكل كبير في المدن الساحلية لتصريف ماء الأمطار التي تتجمع أعلى أسقف المباني، نظرًا لكثرة سقوط الأمطار بها.

 

ويعتبر ميزاب الكعبة المشرفة من أجل الميازيب المستخدمة في العمارة الإسلامية نظرًا لقدسية المكان الذي وُضع فيه وللقيمة الزخرفية والجمالية التي عليها هذا الميزاب، وقد ثبت في سطح الكعبة في الجهة الشمالية والممتد نحو حجر إسماعيل عليه السلام؛ لتصريف المياه المتجمعة على سطح الكعبة المشرفة عند غسل السطح أو سقوط الأمطار, ويعتبرالقرشيون أول من وضعوا ميزابًا للكعبة المشرفة حين بنتها سنة 35 من ولادة النبي صلى الله عليه وسلم؛ حيث كانت قبل ذلك بلا سقف, ثم لمَّا بناها عبد الله بن الزبير رضي الله عنهما وضع لها ميزابًا، وجعل مصبه على حجر إسماعيل كما فعلت قريش, ولما أنقص منها الحجاج بن يوسف ما زاده فيها عبد الله بن الزبير رضي الله عنهما على بناء قريش على حسب قواعد إبراهيم صلى الله عليه وسلم وضع الميزاب في موضعه من الجهة الشمالية، وجعل مصبه على حجر إسماعيل عليه السلام كما كان سابقا.

 

وكان بعض الملوك أو الأغنياء من عظماء المسلمين يُهدي للكعبة المعظمة ميزابًا فيركب في الكعبة المشرفة وينزع الذي قبله، والميزاب الموجود في الكعبة المشرفة إلى العصر الحاضر هو الميزاب الذي عمله السلطان عبد المجيد خان بن السلطان محمود خان، عمله في القسطنطينية ثم جيء به وركب سنة 1276هـ / 1859م، وهذا الميزاب مصفح بالذهب. وقد أدخلت عليه ترميمات جزئية في المسامير العلوية المانعة لوقوف الحمام عليه وذلك فـي عهد الملك سعود يرحمه الله حين رمم سطح الكعبة المشرفة، وقد رمَّمه الملك سعود وجدّدُه الملك فهد بن عبد العزيز (عن موقع الحج والعمرة بشبكة الإنترنت     http://www.tohajj.com/Display.Asp?Url=hrm00037.htm  ).

 

أما عن مدينة سدوس إحدى مدن منطقة نجد بالسعودية والتي تُشبه مدن الصحراء الغربية في مصر أو مدن سيناء، فرغم أن الأمطار بها تحدث بصورة مفاجئة وتنهمر بكميات كبيرة في وقت قصير، ونظرًا لتأثر العمارة الطينية بالماء تأثرًا واضحًا قد يعرضها للهدم والتدمير، حاول المعمار أن يتغلب على هذه الظاهرة المناخية بالتخلص من ماء المطر الساقط بطريقتين: الأولى التخلص من ماء المطر الساقط على سطوح الدور والمنشآت المعمارية الأخرى؛ حتى لا يتسرب من خلال سقوفها إلى داخل هذه المنشآت أو إلى جدرانها الحاملة، وتوجيه هذا الماء إلى الطرق عن طريق الميازيب، فجعل سطوح المنشآت مائلة في اتجاه فتحاتها؛ ليسهل التخلص من ماء المطر الساقط على سطوح هذه المنشآت، واحتوت منشآت المدينة على ميازيب مصنوعة من الخشب المحفور في هيئة قناة تبرز عن سطوح الدور في اتجاه الطرق غالبًا؛ لتصب ماء المطر المنحدر إليها من سطوح المنشآت في الطريق.  

 

ثم تأتي المرحلة الثانية ممثلة في تصريف هذا الماء المتجمع في الطرقات؛ حتى لا يؤثر على أساسات المباني من جهة وحتى لا يعوق حركة الانتفاع بهذه الطرق من جهة أخرى، وكان التخلص من ماء المطر المتجمع في الطرقات بتوجيهه غالبًا إلى خارج المنطقة السكنية في اتجاه المزارع للاستفادة منه في ريِّها إن أمكن ذلك، ولذلك نفذت الطرق بميول تسمح بذلك، فنجد الشارع الرئيسي تتجمع فيه غالبًا الأمطار من السكك الجانبية لارتفاع أرضيتها عنه قليلاً، ومع انحدار هذا الشارع في اتجاه الشمال، كان المطر يتجه شمالاً، ومع امتداد المدينة عمرانيًّا في اتجاه الشمال، ونظرًا لانخفاض هذه المنطقة كان لا بد من توجيه ماء المطر للقطاع الجنوبي، كما تمَّ توجيه الماء شرقًا ومنه إلى البساتين في المنطقة خارج السور الشرقي للبلدة. 

 

ومن الحلول الأخرى التي اتُّبعت للتخلص من ماء المطر بسدوس بعيدًا عن أذى تدفقه من على سطح الدور إلى الطريق سيما في السكك الضيقة عمل قنوات مخصصة في الجدران الخارجية لبعض الدور "مسايل" ينساب إليها الماء من السطح عبر فتحة صغيرة تسمح بمرور الماء إليها من السطح إلى القناة، ومنها إلى أرض السكة (محمد عبد الستار عثمان ، عمارة سدوس التقليدية ، ص 153 : 157).   

 

كما احتوت منازل صنعاء باليمن على ميازيب لتصريف مياه الأمطار من السقف إلى الخارج بواسطة ميازيب خشبية تُصنع من جذوع أو قشور الأشجار أو من الفخار على هيئة قنوات، وكان لكثرة هطول الأمطار الصيفية على اليمن سببًا في استخدام المعمار لمادة تعرف بالنورة لا تسمح بتسرب المياه من خلالها، وهي تشبه الخافقي في مصر، ولذلك استخدمت في تغطية سطوح المنازل لكي تسهل عملية تصريف المياه المتجمعة في السطوح عبر ميازيب إلى خارج الدار، وهو ما يؤكده ابن رسته أن أكثر سطوحها مفروشة بالجص لكثرة أمطارها (عبد الله عبد السلام الحداد ، صنعاء ، ص 79).

 

ولما كانت السيول الجارفة الآتية من الجبال المحيطة بصنعاء وغالبية المدن اليمنية تغمر شوارع المدينة حرص المعمار اليمني أيضًا على التخلص من مياه الأمطار التي تتساقط في أرضية فناء المساجد والمدارس وتصريفها إلى الخارج عن طريق فتحة ينخفض مستواها عن مستوى أرضية الفناء وعرفت هذه الفتحة في اليمن باسم مخلل (عبد الله عبد السلام الحداد ، مدينة حيس اليمنية ، ص 204)، كما حرص على تبليط الشوارع بالحجر المهندم لكي يسهل انسياب مياه الأمطار والسيول وتصريفها إلى السائلة (مجرى مياه الأمطار) وهو ما يؤكده ابن بطوطة حينما ذكر أن مدينة صنعاء مفروشة كلها، فإذا نزل ماء المطر غسل جميع أزقتها، وعندما تحدث ابن بطوطة عن مدينة عدن ذكر أن بها صهاريج يجتمع فيها الماء أيام المطر (ابن بطوطة، الرحلة "المسماة تحفة النظار"، ص 168)، كما ذكر المقدسي أن مدينة شهرستان كثيرة الميازيب (المقدسي، أحسن التقاسيم، ج2، ص 287: 288).

 

وفي مدن سوريا احتوت عمائرها على ميازيب لتصريف مياه الأمطار بأسطحها؛ وخاصة بمدينة حلب التي تتميز بكثرة أمطارها وكذلك بمدينة دمشق، ومن أمثلة منشأتها التي تحتوي على ميازيب المدرسة العادلية، كما كان يتم معالجة تصريف المطر بعمل ميل خفيف في سطح السقف للتخلص من ماء المطر الزائد عبر ميزاب (أحمد أمين، العمائر السكنية الباقية في مدينة دمشق، ص 278).

 

وفي مدن الأندلس الإسلامية كانت مياه الأمطار تتجمع بين الأسقف الجمالونية، وتتجمع في قنوات تصب في ميازيب عثر على واحد منها أشبه بالكابولي المزود باللفائف في قاعات قصر الخلافة، كما ذكر ابن الخطيب أن مدينة غرناطة امتازت بكثرة الميازيب (ابن الخطيب، صفة مملكة غرناطة، ص 22).

 

هكذا كان يتعامل المسلمون في العصور الوسطى مع الظروف المناخية؛ خاصة سقوط الأمطار الفجائية على هيئة سهول، فهل نتعلم الدرس من تاريخ أسلافنا المسلمين، إنَّ فشل حكومتنا ومسئولينا مع أزمة السيول التي هطلت على مدن وقرى سيناء ومحافظة أسوان فإلى جانب أزمة الضمير والتخطيط لديهم فهي أيضًا نتيجة لفقد الهوية والانتماء لتراثنا الإسلامي العمراني، الذي لم نحسن قراءته في تعامله مع الظواهر الطبيعية والمناخية.

-------------

* دكتوراه في العمارة الإسلامية.