الأستاذ المرشد دكتور محمد بديع (1)

سلام الله عليكم ورحمته وبركاته، وبعد..

فقد استمعت إلى حديثكم الطيب عن الأئمة الذين سبقوك في هذا الدرب، رضي الله عنهم، وإحياء هذه المعاني من الأهمية بمكان، وأن يتعرَّف الإخوان والناس جميعًا من هم هؤلاء، وما الدور الذى قاموا به، وما هي سيرتهم؟ وما هو نهجهم الذي ساروا عليه؟ حتى وفَّقهم الله لأن يضعوا البذرة الصالحة في الأرض الصالحة لتنبت بإذن الله نباتًا طيبًا وتثمر ثمراتٍ نافعةً للأمة كلها، في أخلاقها وعقيدتها وفي سموِّها.

 

ونبدأ في هذه السيرة بإمامهم جميعًا وإمامنا ومربيهم، بل مربي الأجيال وصانع الرجال لا بشيء من عنده، لكن بوصلهم بهذا الحق الذي قامت عليه السموات والأرض، وهو الإمام الشهيد حسن البنا رحمه الله.

 

إن وجود هذه النخبة المختارة من عباد الله عز وجل هو تأكيدٌ وتصديقٌ؛ لحديث سيد الخلق المبعوث رحمةً للعالمين صلى الله عليه وسلم، حين قال: "إن الله يبعث لهذه الأمة على رأس كل مائة سنة من يجدِّد لها دينها" (رواه أبو داود عن أبي هريرة).

 

جاء الإمام البنا رحمه الله فوجد أن الغرب قد تمكَّن من السيطرة على بلاد المسلمين بغاراته الوحشية، وانطلق بجنوده يخرِّب ويدمِّر ويهلك الحرث والنسل، لكن هيهات!! فالله عز وجل حاشاه أن يترك بلاد الإسلام وأمة القرآن لهؤلاء البرابرة المتوحشين.. ﴿إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ﴾ (الحج: 38).

 

إن هؤلاء المعتدين والظالمين والباغين الكارهين لدين الله ولرسله لن يفعلوا شيئًا، وهم الذين قال الله فيهم ﴿يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ﴾ (الصف: 8).. إنها سنة الله عز وجل، قضت أن يبعث في كل فترة وأخرى من يوقظ المسلمين ويجدِّد لهم أمر دينهم، ويحيي فيهم فريضة الجهاد في سبيله، ويعود الإسلام غضًّا محبوبًا، يحمله الأبرار من حملة المنهج الإلهي، يدفعون عنه بكل ما يملكون.. "بدأ الإسلام غريبًا، وسيعود غريبًا كما بدأ، فطوبى للغرباء"، قيل: ومن هم الغرباء يا رسول الله؟ قال: "الذين يصلحون إذا فسد الناس".

 

والإمام البنا رحمه الله قد وفَّقه الله في اختيار الصف المؤمن والالتزام به في إيجاد التأسيس والشمول والبناء من جديد، لا مجرد الوعظ والإرشاد فقط، والتقويم من الأساس على أساس من التربية الواعية وعلى أخذ الإسلام كله بشموله وتمامه وكماله.. ﴿الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِينًا﴾ (المائدة: من الآية 3).

 

إن البناء يحتاج إلى جهد، وطريقه طويل، لكن لا بد منه، وأمرٌ ليس بالمصادفة قط أن يكون اسم الإمام (البنا)، الذي يبني ويشيِّد، وبناء النفوس وصنعها أمرٌ شاقٌّ، لا يقدر عليه إلا الأفذاذ من الناس؛ ولذلك جاء أن الهدف من الأسرة (الوحدة الإخوانية الصغيرة) أنها تقوم على التعارف والتفاهم والتكافل، لا بد من التماسك والالتقاء على هذا الأساس، فهي وحدة قائمة لها كيانها ولها مكانتها.

 

لقد كان الإمام البنا- وما زال مَن جاء من بعده من تلاميذه- يرى أن الإسلام لا ينهض وأن المسلمين لن يستطيعوا أن يقدموا شيئًا إلا إذا فهموا أن الإسلام كالجسد، مركَّب من عروق وأعصاب ولحم ودم وأطراف، لا يستطيع أن يؤدي دوره إلا إذا كان إنسانًا كاملاً لا ينقص منه شيء، وكان يضرب المثل بالسيارة؛ إنها مكونة من مئات القطع، ولو سقطت منها قطعة صغيرة لوقفت، لا تستطيع التحرك إلا إذا أتينا بهذه القطعة، ووضعناها في مكانها، عندئذٍ تدور السيارة وتؤدي دورها.

 

ويضرب مثلاً بالعمارة الضخمة التي تحتوي على عشرات الشقق، إذا سقط سلكٌ صغير من عداد الكهرباء أظلمت العمارة كلها حتى يؤتى بهذه الجزئية وتوضع في مكانها، عندئذٍ تضيء العمارة كما كانت.. الساعة التي نحملها في أيدينا مؤلفةٌ من عشرات القطع الصغيرة الدقيقة، فإذا تعطَّل منها ترس واحد وقفت وأصبحت لا تؤدي شيئًا.. قال تعالى للذين يأخذون من الكتاب جانبًا ويتركون الآخر: ﴿أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلاَّ خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ﴾ (البقرة: من الآية 85).

 

كما أن الإنسان والآلة من خصائصهما الشمول لجميع الأجزاء الضرورية، فكذلك الإسلام؛ جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم ومدَّ يده يبايع، فبايعه صلى الله عليه وسلم على الشهادتين وعلى الصلاة، وعندما أراد أن يبايعه على الزكاة والإنفاق والجهاد قبض الرجل يده، وقال: يا رسول الله، إني بخيل لا أستطيع أن أتصدق، وجبان لا أستطيع أن أجاهد؛ فأعرض صلى الله عليه وسلم عنه وقاله له: "لا بذل ولا تضحية فبم تدخل الجنة؟"، فبايع الرجل على الإسلام كاملاً بلا نقص ولا تقصير.

 

أدرك أعداء الإسلام أن قوته وأسباب انتصاراته وسيادته على ظهر الأرض الشمول؛ فهو دين ودولة، ومصحف وسيف، وعبادة وقيادة، وتشريع وقانون.. أدركوا هذا الأمر فعملوا بخبث ودهاء في اتجاه تجزيء الإسلام؛ فقالوا: الإسلام لا علاقة له بالسياسة، وللأسف الشديد ما زال هذا الأمر يردِّده العلمانيون حتى اليوم، وقالوا أيضًا: لا علاقة للإسلام بالاقتصاد، فما دخل الإسلام بالاقتصاد، وللأسف الشديد حرَّفوا الاقتصاد، فاستولى عليه اليهود، وحرَّكوه كيف شاءوا، وما الأحداث التي حصلت منذ سنة تقريبًا منا ببعيد!.

 

وأصبح الغرب اليوم يبحث عن وسيلة للخروج من الأزمات الاقتصادية التي أمسكت به، بل وبالعالم، فلم يجدوا سوى الاقتصاد الإسلامي الذي حاربوه، فبدأت الجرائد والمجلات وأجهزة الإعلام تتحدث عن الإسلام وعن اقتصاده، وبدأت الشركات والمؤسسات والندوات تُعقد في كل مكان لمراجعة هذا الأمر، وصدق الله العظيم إذ يقول: ﴿سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ﴾ (فصلت: 53).. إنها رجعة الإنسان الذي ضلَّ الطريق وعبث بكل شيء ثم فقد كل شيء، فأصبح في حيرة من أمره، أولم يسمعوا قوله تعالى: ﴿يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ﴾ (البقرة: من الآية 276)؟ ألم يقل سبحانه وتعالى في سورة البقرة ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ* فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤُوسُ أَمْوَالِكُمْ لا تَظْلِمُونَ وَلا تُظْلَمُونَ﴾ (البقرة: 278- 279).

 

واحتال أعداء الإسلام على الشخصية الإسلامية أيضًا، فجزؤوها بل ومسخوها فتقطعت الشخصية الإسلامية الكاملة، فصارت رجل دين لا علاقة له بالسياسة، ورجل سياسة لا علاقة له بالدين، ورجل دبلوماسية لا علاقة له بالاثنين، ورجل اقتصاد لا علاقة له بكل ما سبق.

 

هكذا حوَّلوا شمول الإسلام إلى أجزاء، والشخصية الإسلامية حوَّلوها إلى أنواع، بينما نرى أن أبا بكر رضي الله عنه كان خليفةً للمسلمين وتاجرًا في السوق وعالمًا بأنساب العرب وفقيهًا يفتي الناس في دينهم وحاكمًا يحكم بينهم وقائدًا في الحرب.

 

إن الذي فعله الإمام البنا هو عودة الشخصية الإسلامية المتكاملة العالمية وشمولية الإسلام ككائن حي، وربط جوانبه المختلفة حتى يستطيع أن ينهض بهذه الرسالة.

 

يقول الشهيد سيد قطب عن الإمام البنا: "والإمام البنا كان يبني ولا يهدم، ويعمل ولا يتكلم، والبناء نظام وهدوء، والهدم خراب وضجيج، والعمل سكون وإنتاج، والكلام جعجعة وضوضاء، ومن عاصر زعماء الشرق يجد في الغالب الزعيم أحد رجلين: سياسي لا يفقه الإسلام، أو إسلامي لا يفقه السياسة".

 

يقول الإمام البنا رداً على هؤلاء: "إذا كان الإسلام شيئًا غير السياسة وغير الاقتصاد وغير الاجتماع وغير القانون فما هو إذن؟ أهو هذه الركيعات التى يقول البعض عنها إنه استغفار يحتاج إلى استغفار".

 

تحدثنا عن التأسيس والشمول وهما أعظم أركان الإسلام والأمر الثالث هو السلفية: والسلفية ليست وقفًا على أحد أو على هيئة معينة تدعيها - وليست حزبًا من الأحزاب، لكنها تعني العودة بالإسلام إلى معينه الصافي من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، واستمداد الإسلام من أصوله دون تعصب لما جدَّ عبر التاريخ من نظريات ومفاهيم؛ فالأصل ما ورد في الكتاب والسنة وعصر الخلفاء الراشدين.

 

فكل من فهم هذا الفهم وطبق حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي يقول فيه "عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي، عضُّوا عليها بالنواجذ"، كلُّ من عرف هذا وطبَّقه والتزم به في أي بقعة من بقاع الأرض وفي أي قارة من قارات العالم فهو سلفيٌّ، لا يستطيع أحد أن يماري في هذا بدعواه الباطلة أن السلفية وقف على طائفة أو جماعة بعينها من المسلمين.

 

ونختم حديثنا بهذا التصور للإمام البنا الذى يتحدث فيه عن ضرورة إعداد وتربية الفئة التى تتحمل هذا الأمر إن إعداد الأمة وتربيتها وهى عملية شاقة إلا على من يسرها الله له بقوله رحمه الله "إن تكوين الأمم وتربية الشعوب وتحقيق الآمال ومناصرة المبادئ تحتاج من الأمة التى تحاول هذا أو من الفئة التى تدعو إليه على الأقل إلى قوة نفسية عظيمة تتمثل فى عدة أمور: إرادة قوية لا يتطرق إليها ضعف، ووفاء ثابت لا يعدو عليه تلون ولا غدر، وتضحية عزيزة لا يحول دونها طمع ولا بخل، ومعرفة بالمبدأ، أو إيمان به وتقدير له، يعصم من الخطأ فيه والانحراف عنه والمساومة عليه والخديعة بغيره".

---------

* من علماء الأزهر الشريف.