البنا بين السياسة والمأثورات

مما يدخل في باب التاريخ وحسن قراءته ووعيه، تفسيرُ النصوص والأقوال التي تُؤثر عن الكبار من قادة وأئمة، وسنحاول في هذه السطور تفسير بعض ما أُبهم من أحداث التاريخ والتي فُهمت خطأ، فكان الحكم عليها أيضًا من الأخطاء.

 

ومن هذا مثلاً ذلك القول الذي أُثر عن حسن البنا- طيب الله ثراه- ونعني به قوله: "لو استقبلت من أمري ما استدبرت، لعُدت بالإخوان إلى قراءة المأثورات"، روى عنه هذا القول الشيخ محمد الغزالي (رحمه الله)، وسمعناه من الأستاذ فريد عبد الخالق- مد الله في عمره- وحكاه كثيرون عنهما، وربما عن غيرهما، المهم أن بعض الإخوان يرددون هذا القول في مقام يوحي بأن حسن البنا كان نادمًا على أنه دخل الإخوان ميدان العمل السياسي والتنظيم السري والتدريب العسكري، ومعنى هذا أنه لو عاش لانسلخ من كل هذه الأنشطة، ولاكتفى بأن تكون هذه الجماعة جماعة أوراد وأذكار تجتمع وتنفض على ذلك، وانتهى الأمر.

 

وهذا فهم غير صحيح لهذه العبارة، سببه قطعها عن سياقها ومناخها والواقع الذي قيلت فيه، لقد قال الشيخ هذه العبارة في وقت عصيب، انفتحت فيه أبواب الجحيم؛ جحيم السجون والمعتقلات لتستقبل الأطهار الأبرار من الإخوان المسلمين، وكشر الطغيان عن أنيابه، وأعلن أنه لن يُبقي على بقية من الإخوان، وشاعت وذاعت آنذاك أخبار التعذيب وأفانين الأهوال التي يلقاها الإخوان في السجون، التي وصلت إلى حد اعتقال الزوجات والأمهات والبنات، وصارت الأحاديث تُحكَى عن العسكري الأسود وهتك الأعراض، ماذا تنتظر من القائد المرشد في هذا السواد المدلهم، وهو يشعر أنه هو الذي جنَّد هذا الجمع من الجند وصفَّه في الميدان، فإذا به يُطعن في ظهره ويُحاط به من حيث لم يحتسب، قائد لهذا الجمع الكريم من الجند رهبان الليل وفرسان النهار، لا بد أن يستشعر المسئولية عما يلاقيه جنده من بلاء، وما يلاقيه أهلوهم وذووهم من جوع وتشريد وامتهان.

 

لقد عاش حسن البنا بعد قرار حل الإخوان 65 يومًا، كانت أيامًا عاصفةً فيها قُتِل النقراشي، وفيها جرت محاولة نسف محكمة الاستئناف، وفيها كانت تداعيات قضية السيارة الجيب التي كان ضبطها قبل حلِّ الجماعة بثلاثة أسابيع.

 

في هذه الأيام العصيبة اكفهر الجو، ورجفت الراجفة، وصارت القلوب واجفة والأبصار خاشعة، وراحت النذر تتوالى كل صباح، بل كل ساعة عن المزيد من المعتقلين، وعن الجديد من أفانين التعذيب والقهر والامتهان والإذلال.

 

في هذه الأيام كان الإمام الشهيد دائم الحركة والنشاط لم يكلّ ولم يملّ، وكان يسعى بكل ما أوتي من عزم لإنقاذ الإخوان، جدد اشتراكه في "الشبان المسلمين"، وخصص له رئيسها المجاهد اللواء محمد صالح حرب باشا مكتبًا يليق به بمركزها الرئيسي في شارع رمسيس، كان يتخذه مكانًا يلقَى فيه من يتوسم أنهم يمكن أن يقوموا بدور الوساطة بين الإخوان والحكومة، كما كان يزور فتحي رضوان كل ليلة في مكتبه من أجل هذا الغرض ذاته، جاء فيما نشرته (الأهرام) على لسان فتحي رضوان ما نصّه: "وكان رحمه الله يتفضل بزيارتي كل ليلة بالمكتب، وكانت بداية الحديث بيننا قوله لي مداعبًا ماذا فعل الباشا لنا وبنا؟ نسينا أم غضب علينا، وكنا نضحك، وكنت أقول له: أما قلت لك إن الخلاف بينك وبين الحكومة خلاف مبدئي لا تنفع فيه وساطة الوسطاء، وكنت تقول: هذا باب مفتوح يجب أن نطرقه حتى لا نكون في نظر الناس قد قصرنا في شيء" (2).

 

بجانب هذا النشاط الدائب ليل نهار؛ بحثًا عن أية وسيلة للتخفيف عن الإخوان والتوفيق بينهم وبين الحكومة، بجانب ذلك قام بإعداد مذكرة ضافية تقع في أكثر من عشر صفحات فنّد فيها الأسباب التي اعتمد فيها عبد الرحمن عمار وكيل وزارة الداخلية في مذكرته التفسيرية لقرار حل الإخوان المسلمين، وتعد هذه المذكرة مرجعًا تاريخيًّا مهمًّا؛ حيث فندت بالبراهين والأدلة الساطعة كل التهم التي وجهها عبد الرحمن عمار إلى الإخوان وجعلها سببًا موجبًا لحل الإخوان (3).

 

ويهمنا نحن هنا ما جاء فيها من تأكيد المرشد الشهيد على أن عمل الإخوان بالسياسة ليس خروجًا عن الدين؛ بل من صميم الدين، فقد جاء فيها: "أن الإخوان المسلمين كهيئة إسلامية جامعة مزجت الوطنية بروح الدين، واستمدت من روح الدين أسمى معاني الوطنية، ولم تبتدع ذلك ابتداعًا، ولم تخترعه اختراعًا، وإنما هي طبيعة الإسلام الحنيف الذي جاء للناس دينًا ودولةً".

 

كما دافع أيضًا عن اشتغال الإخوان بالتدريب العسكري وجمع السلاح والذخيرة، وبيَّن أن ذلك كان بتصريح من الحكومة من أجل الجهاد في فلسطين، وأفاض في ذكر الوقائع والمعارك التي خاضها الإخوان، والمواقع التي احتلوها، والمساعدات التي قدموها للجيش المصري، وختم ذلك بقوله: "كان طبيعيًّا أن تحصل الحكومة على بعض عتاد لم يُنقل، وأن تجد لدى الإخوان بقايا من هذا السلاح، ولكن ليس معنى ذلك أبدًا أن الإخوان المسلمين المؤمنين المجاهدين المحسنين قد أصبحوا خطرًا يهدد سلامة الآهلين في الداخل، وهم دعامتهم أو سلامة الجيوش في الخارج وهم زملاؤهم" (4).

 

كما كان يشغله ويُهمه أمر الإخوان المجاهدين، الذين كانوا ما زالوا في الميدان في فلسطين رغم حل الجماعة؛ حيث كان يخشى أن تؤثر أخبار الحل وما تبعها من سجن وتشريد وتعذيب في صفوف المجاهدين وأدائهم في الميدان؛ فوجَّه إليهم بيانًا جاء فيه: "أيها الإخوان لا يهمكم ما يجري في مصر، فإن مهمتكم هي مقاتلة اليهود وما دام في فلسطين يهودي واحد فإن مهمتكم لم تنته" (5).

 

كما جاء في آخر ما كتبه ونشرته جريدة (المصري) بعد وفاته في عددها الصادر في أول أكتوبر سنة 1949م في صفحتها الأولى، وقالت: "إن فضيلته أدلى إلينا بالحديث الخطير التالي مكتوبًا بخط يده، ووقع فضيلته على كل إجابته"، وتأكيدًا لصدق الجريدة نشرت صورة بالزنكوغراف للإجابة بخط فضيلته.

 

ويهمنا هنا من هذا الحديث ما جاء عن جهاد الإخوان في فلسطين؛ حيث كتب بخط يده: "لا تزال القوات تجاهد في مراكزها ببسالة وشجاعة وإيمان، وهي تحارب الآن تحت إشراف الجامعة العربية ولا يمكن الآن تحديد موقفها في المستقبل (6)، وإن كانت القاعدة العامة أن الإخوان المسلمين جميعًا قد عاهدوا الله على أن يظلوا مجاهدين في سبيله؛ حتى تتحرر فلسطين من عصابات الصهيونية المعتدية، وتعود إلى أهلها العرب" (7).

 

في كل ما كتب حسن البنا بيده وفي كل ما أُجري معه من أحاديث، وفي كل ما قاله لجلسائه وأصفيائه لم نجد فيه رجوعًا ولا تراجعًا ولا ندمًا؛ بل رأينا العكس من ذلك تمامًا، ففي تفنيده لمذكرة عبد الرحمن عمار وجدناه يؤكد أن الإسلام دين ودولة، وأن العمل بالسياسة من الدين، ورأيناه يخاطب شباب الإخوان في الميدان محرضًا على القتال حاثًا لهم على الثبات وعدم الالتفات لما يقع على إخوانهم في مصر.

 

وفي آخر ما كتبه بيده يقول: "القاعدة العامة أن الإخوان المسلمين جميعًا قد عاهدوا الله على أن يظلوا مجاهدين في سبيله حتى تتحرر فلسطين من عصابات الصهيونية المعتدية وتعود إلى أهلها العرب"، فأين هو الرجوع إلى قراءة المأثورات أو الأوراد؟.

 

ثم هذه العبارة "لو استقبلت من أمري.. الخ" كم مرة قالها؟ ولمن قالها؟ وفي أي سياق قالها؟ ولماذا لم يكتبها فيما كتب؟ لم يحكها عنه إلا الشيخ محمد الغزالي (رحمه الله)، والأستاذ فريد عبد الخالق (مد الله في عمره)، وهذا يؤكد تفسيرنا، فحينما يخلو من يستثمر دنو الأجل إلى نفسه، أو إلى من يحب يعبر عن الخوف والرهبة، ويتمنى أن يلقى الله غير مسئول "فمن نوقش الحساب عُذب" (8)، ورضي الله عن عائشة الصديقة بنت الصديق عندما قالت في مثل هذا المقام "يا ليتني كنت نسيًا منسيًا".

 

في ضوء هذا يجب أن نفهم عبارة الإمام الشهيد: "لو استقبلت من أمري ما استدبرت لرجعت بالإخوان إلى أيام قراءة المأثورات"، فلا يحل لأحد أن يسوقها مساق الدليل على ندم الإمام على ما كان، وليس فيما كان ما يجلب الندم، أو يدعو إلى الأسف.

 

الإخوان والعنف

هذا هو الموضوع الأهم، وهو مقصودنا في هذه الصفحات؛ ذلك أن اللفظ في هذه القضية لا ينقطع ولا يكاد يمر يوم حتى تكال هذه التهم للإخوان المسلمين، حتى صارت تساق مساق المُسلَّمات التي تثبت والبديهيات التي استقرَّت، ومن عجبٍ أنه باللجاجة والإلحاح والتكرار صار ذلك مُسلَّمًا عند العامة، بل للأسف عند كثيرٍ من الإخوان الذين وقعوا صرعى في هذا القصف الإعلامي وسقطوا ضحايا هذا التضليل المعلوماتي.

 

فها أنت ترى كثيرًا من كبار الإخوان وشيوخهم في كتاباتهم وفي أحاديثهم يرددون هذه الاتهامات بالموضوعية (10)، ونحن لا نرضى بالموضوعية بديلاً ولا نبغي عن المنهج العلمي حولاً، ولا نرفض النقد الذاتي بل نراه واجبًا دينيًّا، وحاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا (11)، ولكننا نطلب أمرين:

أحدهما التثبت من وقوع الحدث التاريخي موضوع التحليل والدراسة، وأنه وقع فعلاً بالقدر والحجم وعلى الهيئة التي وصل بها إلينا.

 

ثانيهما: قراءة الحدث قراءةً صحيحةً وتفسيره التفسير السليم؛ وذلك يستلزم ضرورة اتباع المنهج العلمي في قراءة التاريخ الذي يقوم على الإحاطة بالظروف والأحوال التي وقع فيها الحدث، ومن ثَمَّ معرفة البواعث التي دفعت إليه، وهذا يستدعي القدرة على تمثل الحالة الشعورية والنفسية لمَن قام به واستبطان عواطفهم والإحساس بانفعالاتهم، وبالجملة أو بتبسيط هذا المعنى يجب على مَن يتصدى لكتابة التاريخ وتحليله واستنباط قوانينه واستخراج عطائه وعبره.. يجب عليه أن يكون قادرًا على الوقوف في المركز من دائرة الحدث التاريخي، ووضع نفسه مكان كل واحدٍ من أبطاله، وهذا ما أجمله ابن خلدون في عبارته الرائعة التي نعيد ذكرها هنا: "عدم الذهول عن تبدل الأحوال في الأمم والأجيال بتبدل الأعصار ومرور الأيام"، وجعل ابن خلدون هذا من الغلط الخفي في التاريخ.

 

وقال "إنه الداء الدوي شديد الخفاء الذي لا يتفطن له إلا الآحاد من أهل الخليقة".

 

فليحذر هذا الداء مؤرخو هذا الزمان الذين صار كل همهم جلد الأسلاف وركلهم في كبرياء بغيض واستعلاء كريه باسم الموضوعية الموهومة والنقد الذاتي المغلوط.

 

التشكيلات العسكرية

كان للإخوان فرق من الجوالة، يلبسون القميص نصف كم، والبنطلون "الشورت"، وكلاهما من اللون "الكاكي"، ويضعون حول عنقهم المنديل بالطريقة المعروفة لدى الكشافة، ويحلون صدورهم بشارة الكشافة، وشعارها "كن مستعدًا"، وكانت تشكيلات الجوالة هذه تقوم برحلاتها الأسبوعية ومعسكراتها الصيفية في طول البلاد وعرضها، ويراها الناس في غدوها ورواحها حاملةً علمها، مرددةً نشيدها، يجري ذلك تحت سمع الدنيا وبصرها، كما كانت الجوالة تقوم على حراسة المظاهرات والاحتفالات الإخوانية وتنظيمها.

 

عاشت جوالة الإخوان ما عاشت لم تُسجَّل لها حادثة اعتداء واحدة، ولم يحدث من هذه التنظيمات شبه العسكرية- على كثرةِ عددها واتساع حركتها ونشاطها- لم يحدث منها أي احتكاك؛ لا بتنظيم ولا جماعة ولا بالمواطنين، كما حدث من غيرها، كما سنبين لاحقًا.

 

ومع كل هذه الاستقامة، وكل هذا الانضباط، نسمع الآن مَن يرفعون عقيرتهم في الفضائيات، ويطلقون ألسنتهم في المحافل والمجامع؛ يتهمون حسن البنا والإخوان بالاستقواء واستعراض العضلات، والتباهي بتشكيلاتهم العسكرية، وأنهم كانوا دولة داخل الدولة، إلى آخر هذا الهُراء، وهذه المفتريات.

 

وبضدها تتميز الأشياء:

تنظيمات الإخوان وتنظيمات غيرهم

لم يكن الإخوان وحدهم الذين يملكون هذه التنظيمات شبه العسكرية، بل كانت تشكيلات الإخوان أبعد ما تكون عن الشكل العسكري بزيها الذي وصفناه آنفًا.

 

القمصان الزرقاء:

كان لحزب الوفد تنظيم عسكري وأقول: "عسكري"، وأقصد معناها، وقد سُمي هذا التنظيم باسم "القمصان الزرقاء"، وكان لهم استعراض أسبوعي ويطوفون في الشوارع والميادين الرئيسية.

 

القمصان الخضراء:

وعلى نفس المنوال كان تشكيل القمصان الخضراء التابع لحزب مصر الفتاة، ومع أنهم كانوا أقل عددًا من القمصان الزرقاء إلا أنهم كانوا من عناصر ذات عقيدة اشتراكية وطنية، وأكثر تشددًا في وطنيتهم وسُموًّا في أهدافهم.

 

وكثيرًا ما كان أصحاب القمصان الزرقاء تعجبهم كثرتهم، وتلعب النشوة برءوسهم، فيفتعلون معارك ومصادمات مع أصحاب القمصان الخضراء من وقتٍ لآخر (12).

 

القمصان السوداء:

ولقد بلغ شيوع هذه التشكيلات شبه العسكرية ومسألة القمصان هذه أن الإيطاليين المقيمين في مصر كان لهم فرق تُسمَّى "القمصان السوداء"، وكان يستعرضها السفير الإيطالي علنًا في القاهرة، وهو يرتدي كل الشعارات الفاشية، ويرفع ذراعه بالتحية الرومانية تحت أنظار كبار الشخصيات المصرية الذين كان يظهر في عيونهم الإعجاب بهذه المناظر (13).

 

في فلسطين وفي السودان

ولم تكن التشكيلات شبه العسكرية هذه قاصرة على مصر؛ فقد عُرفت منها في فلسطين (النجادة) و(الفتوة)، وكان في السودان (شباب الأنصار) التابع لحزب الأمة، و(شباب الختمية) التابع للحزب الوطني الاتحادي.

 

مصدر هذه التشكيلات والتنظيمات

ويبدو أن هذه التشكيلات جاءتنا من أوروبا، وبخاصة من ألمانيا وإيطاليا، فقد كانت الأنباء تتوالى عن هذه التنظيمات التي كانت تُسمَّى "القمصان البنية" و"القمصان السوداء" تجوب شوارع برلين وروما والمدن الألمانية والإيطالية، وهي تُنشد الأناشيد الوطنية وتتقدمها الموسيقى العسكرية، وتأتينا الأنباء عن البعث الجديد لألمانيا التي كانت قد تحطَّمت تمامًا في الحرب العالمية الأولى، وترفع رأسها الآن، وتتوثب للانتقام من عدوها، فكان هذا داعيًا- على نحو ما- لاستلهام أساليبهم، فعدونا وعدوهم واحد.

 

 الصورة غير متاحة

 الإمام الشهيد حسن البنا

يعنينا من كل ما تقدَّم أن اتهام حسن البنا والإخوان باستحداث هذه التشكيلات العسكرية إرهابًا للآخرين واستعراضًا للعضلات اتهامٌ باطل ولا أصلَ له، فها أنت ترى أن هذه التشكيلات- عسكرية أو شبه عسكرية- كانت سمة العصر في الغرب وفي الشرق، في البلاد العربية، وفي مصر ولم يكن حسن البنا مبتدعًا أو منشئًا لها.

 

بل إن الواقع يؤكد أن حسن البنا نأى بالإخوان عن هذه الصورة العسكرية عندما اختار لهم القميص "نصف كم" و"الشورت"، وسجَّل تنظيمه ضمن جمعية الكشافة العالمية؛ ولذا لم يشملها قرار الحل حينما تدخلت السلطات لوضع حدٍّ لتجاوزات هذه التنظيمات، وأصدرت القرار الحاسم بحلها.

 

ومرةً أخرى نؤكد:

أن تشكيلات الإخوان هذه "الجوالة" لم يُعهد منها، ولم يُؤخذ عليها أي تجاوز، وإنما كانت مثالاً للالتزام الكامل بالأخلاق والآداب قبل الالتزام بالقانون.

 

ثانيًا: التنظيم السري أو الجهاز الخاص

لم يكن التنظيم السري رجسًا من عمل الشيطان، وليس هو المسئول عن النكبات التي أصابت الجماعة: من حلٍّ وإلغاءٍ لها، وسجن لقادتها، وتشريد لأعضائها، وقتل لمرشدها، وذبح لأبنائها، ووأدٍ لزهرة شبابها، كما يحاول بعض إخواننا الكبار تصوير ذلك.

 

إن هؤلاء العقلاء من كرامِ إخواننا يرون أن الجهاز الخاص بقتله النقراشي جرَّ على الإخوان كل الكوارث التي أحاطت بهم، ويظنون- لحسن نيتهم- أنه لو لم يقم الجهاز الخاص بهذا لما حدث للإخوان ما حدث، ولا كان ما كان.

 

ونحب أن نؤكد أن التنكيل بالإخوان المسلمين وتشريدهم وإقصائهم كان هدفًا مقصودًا من حكام الداخل وأعداء الخارج، سواء كانت هناك ذرائع أو لم تكن، وهذا- الآن- أمرٌ اتضحت معالمه، وظهرت أبعاده، ونُشر ما كان مطويًا من أسراره ووثائقه.

 

ولم يكن الإخوان بدعًا في إنشاء الجهاز الخاص، فقد كان العمل السري من طبيعة المرحلة، وخصائص ذلك الوقت، بل قل: إنه كان موضة العصر، فقد كان العمل السري هو الأسلوب المتبع في العالم كله، في الغرب والشرق، فقد كانت التنظيمات السرية هي عماد حركات التحرر والنضال في أوروبا ضد القوى التي أتاح لها الانتصار في الحرب العالمية الأولى أن تمزق ألمانيا ومن كان معها، وأن تجثم على صدرها.

 

وفي مصر منذ مطلع القرن العشرين كانت التنظيمات والتشكيلات السرية هي عماد النضال الوطني، وكان أبناء الزعماء والباشوات هم عماد هذه التنظيمات، فقد أُعدت دراسة أكاديمية بعنوان: "الحزب الوطني والنضال السري من 1907/ 1915م"، تحدثت عن التشكيلات السرية المتعددة للحزب الوطني، وأعمال العنف التي ارتكبتها والمساندة التي تلقتها، واحتفاءً بهذا النضال السري نشرت هذه الدراسة مؤسسة حكومية رسمية؛ هي الهيئة العامة للكتاب.

 

وكان لحزب الوفد جهازه السري، بل أجهزته، وجهازه الشهير بقيادة عبد الرحمن فهمي هو الذي كان وراء محاولة اغتيال رئيس الوزراء يوسف وهبة باشا.

 

وكان أحمد ماهر باشا رئيس الحزب السعدي، ومحمود فهمي النقراشي باشا الذي خلفه في رئاسة الحزب كانا من رجال الأجهزة السرية، ووقفا في قفصِ الاتهام في محكمة الجنايات.

 

وكان للقصر في عهد الملك فاروق أجهزته السرية الخاصة به، حتى في الفترة التي كان الملك فيها ملتصقًا بالشعب والنضال ضد الاحتلال، يقول عادل محمود ثابت (14) مصورًا حالة الغضب الشعبي المكتوم عقب حصار قصر عابدين بالدبابات، وفرض النحاس باشا رئيسًا للوزراء، يقول: "وفي المساء جاءني صديقي، وقال: لدي رسالة خاصة لك، لقد وقع الاختيار عليك كواحدٍ من قوات (التشكيل الجديد)، وسوف تُصرف لك الملابس الرسمية والأسلحة، وستعين في وظيفة مهمة، لا أستطيع أن أذكرها لك بالضبط، ولكن سيكون عليك على الأرجح أن تقتل أحد الوزراء الوفديين، إنه طبيعة الحال شرفٌ عظيم، ولن تستطيع أن ترفض" (15).

 

كان الملك حتى ذلك التاريخ أمل الشعب وعنوان النضال ضد الاحتلال؛ ولذا اعتبر حصار قصره وإهانته- في ذلك الوقت- إهانة للأمة كلها.

 

وقد تعاون الحزب السعدي حزب أحمد ماهر والنقراشي وإبراهيم عبد الهادي مع القصر وأجهزته بعدما انحرف فاروق، ووجد أن مصانعة الإنجليز والوقوف في وجه النضال الوطني أسلم له وأبقى على ملكه، في هذه المرحلة تعاون الحزب السعدي مع أجهزة القصر، وأشارت إليهم أصابع الاتهام في أبشع محاولة اغتيال شهدتها مصر، وهي نسف قصر النحاس باشا بسيارة مفخخة.

 

وتنظيم الضباط الأحرار الذي ما زال الجميع يتغنى به.. ألم يكن تنظيمًا سريًّا؟ ألم يكن تنظيم الضباط الأحرار يُنسق ويرتب مع الجهاز السري للإخوان؟.. ألم يكن عبد الناصر نفسه عضوًا في الجهاز السري للإخوان؟.. ألم يكن ضباط الجهاز السري للإخوان المسلمين هم وراء النجاح الذي حققته حركة الضباط الأحرار؟!.

 

والأعجب من كل هذا أن يُنشئ عبد الناصر الذي كان يسخر علنًا في خطبٍ مذاعة على الهواء من الإخوان ونظامهم السري ويتهمهم بالخيانة، عبد الناصر هذا يُنشئ الجهاز السري الطليعي داخل الاتحاد الاشتراكي ومنظمات الشباب، وكانت له خلاياه السرية ونشراته التي عليها أرقام كودية سرية، ومكتوب عليها التحذير الشديد بعدم إفشاء أسرارها أو أسماء أعضائها بصفة تهديدية، وكان لها تقاريرها السرية، وكان أعضاؤها يُنتقون بعناية (16).

 

 الصورة غير متاحة

محمد أنور السادات

وأعجب العجب أن الرئيس السادات عندما أنشأ الحزب الوطني حاول أن ينشئ داخله جهازًا سريًّا، وكلَّف الوزير منصور حسن بذلك، وقام فعلاً بتكوينه واختيار أعضائه، ولولا أن تسربت أنباؤه، وعارضه نائبه حسني مبارك لما توقف (17).

 

كانت التنظيمات السرية إذًا من طبيعة المرحلة، ومن روح العصر، ولم تكن عارًا وشنارًا كما هي الآن.

 

والآن: دعونا نتفق على أن العمل السري (الآن) لم يعد مقبولاً، ولا مستساغًا، بل يعتبر شيئًا كريهًا، ومسلكًا مستبشعًا، خارجًا عن روح العصر، وطبيعة المرحلة، نعم.. هو كذلك (الآن) باتفاق، كذلك نتفق أن الجهاز السري للإخوان وقع في أخطاء، نقول ذلك ونعلنها بصوت عالٍ يجب أن يُقال ذلك دون مواربة، ويجب أيضًا أن تدرس هذه الأخطاء، وتُستخرج منها العظات والدروس، ونرجو ألا يزايد علينا أحد من أدعياء الموضوعية والنقد الذاتي، فنحن لا نرضى بالموضوعية بديلاً.

 

أما أن يُعتبر الجهاز السري في ذاته خطأ، وأن أصل وجوده كان خللاً وخطلاً، فهذا- في الواقع- هو الخطأ، وبعباراتنا نحن نقول: إن الأحداث والأفكار يجب أن يُحكم عليها، إن أردنا حكمًا صائبًا، بمعايير ومقاييس الوقت الذي وقعت فيه، والزمان الذي كانت به، وليس بمقياس العصر والزمان الذي يكتب فيه الكاتب، وفي عبارة القاضي المؤرخ المستشار طارق البشري عن هذه القضية نقرأ قوله: "إن ما يُظن كونه هدفًا أو فكرًا أو موقفًا صائبًا في زمان الكاتب لا يقوم معيارًا تُقوَّم به تيارات مرحلة، لم ينطرح لديها هذا الهدف أو هذا الفكر أصلاً" (18).

 

وهذا كلام واضح مبين نرجو أن يقرأه الإخوان وغير الإخوان؛ لنتعلم كيف نقرأ أحداث الماضي، وكيف نفهم تاريخنا الحديث والقديم، وبأي الموازين نزن، وبأي المقاييس نقيس، ذلك أمر واجب لا من أجل الإخوان، ولكن من أجل الحقيقة والإنصاف؛ ولذا ندعو الإخوان- خاصةً- أن يكفوا عن جلد الذات باسم الموضوعية، ونحذرهم من الوقوع في هذا الخطأ المنهجي الخطير الذي يغفل عنه الغافلون.

 

ونقول بملء الفم ﴿هَاؤُمْ اقْرَءُوا كِتَابِيَهْ﴾ (الحاقة: من الآية 19).

 

وأما غير الإخوان فنقول لهم: تعالوا إلى كلمة سواء، أن ندرس تاريخ مصر الحديث، ننشر أوراقه بين أيدينا، ونضع أصابعنا على كل الأجهزة السرية لجميع الأحزاب والهيئات، ونزن أعمال كلٍّ منها؛ لنرى حجم ما كان منها في النضال الصحيح ضد أعداء الأمة، وما حدث من أخطاء استهدفت بعض المصريين بحجة أنهم من المتواطئين مع الأعداء، وعندها سنرى أن أهداها سبيلاً وأقومها طريقًا وأقلها أخطاءً هو الجهاز السري للإخوان المسلمين.

-----------

الحواشي:

1- ابن خلدون عبد الرحمن بن محمد، مقدمة ابن خلدون طبعة دار الشعب القاهرة بدون تاريخ عن طبعة لجنة البيان العربي، بتحقيق الأستاذ الدكتور علي عبد الواحد وافي ص 27- 28.

2- محمود عبد الحليم، الإخوان المسلمين 2/132.

3- اقرأ المذكرة كاملةً في كتاب الإخوان المسلمون، أحداث صنعت التاريخ 2/46-57.

4- السابق ص54 و55.

5- في قافلة الإخوان المسلمين، 269.

6- ينبئ هذا عن خوفه من اعتقالهم، وجلبهم من الميدان إلى السجون، وقد فعلوا ذلك حتى مع الجرحى الذين جاءوا من الميدان للعلاج، فقد أودعوا المعتقلات بدلاً من المستشفيات.

7- اقرأ الحديث كاملاً في كتاب الإخوان المسلمون، أحداث صنعت التاريخ 2/387- 391.

8- حديث متفق عليه رواه البخاري ومسلم عن عائشة.

9- لكن المؤسف أن نسمع ذلك من إخوة كرام عاشوا تلك المرحلة، وكانوا من شهودها وفي قلب أحبائها، ولم يكن هذا رأيهم يومها، بل كانوا من وسائل الدفع وأدوات الاندفاع فلماذا يتنصلون الآن، ويحاولون إلقاء المسئولية على غيرهم ليظهروا هم (الآن) في ثوب الحكمة.

10- اعتذر عن استخدام هذه اللفظة "الموضوعية"، فهي ليست في معجمنا الأصلي، وإنما هي أثر من آثار الترجمة، ولقد استخدمتها جريًا على العادة حيث صارت أقرب إلى الأفهام من مقابلها العربي الأصيل.

11- هو قول مأثور عن عمر بن الخطاب- رضي الله عنه-، رواه الترمذي في سننه، وذكره الألباني في السلسلة الصحيحة رقم 1541.

12- ملخص من المصدر السابق نفسه.

13- السابق 92 بتصرف.

14- عادل محمود ثابت، أحد الصحفيين الوطنيين، كان من المقربين إلى عبد الرحمن عزام باشا أول أمين للجامعة العربية، وكان مشهودًا له بصدق الوطنية والنضال.

15- فاروق الملك الذي غدر به الجميع: 124.

16- الدكتور محمود جامع، عرفت السادات، الطبعة الثالثة، القاهرة، المكتب المصري الحديث 1999م، ص 300.

17- السابق نفسه.

18- طارق البشري، المستشار المؤرخ، الحركة السياسية في مصر 1945/1953م، الطبعة الثانية، القاهرة، دار الشروق سنة 1983، ص 12 من المقدمة.