اعتاد الكتاب تخليد مآثر أساتذتهم وعلمائهم ومربيهم ومفكريهم؛ باستدعاء أفكارهم وأعمالهم وأدبياتهم من ذاكرة التاريخ وابتعاثها من جديد ليذكروا بها الأجيال اللاحقة، ويصلوا الماضي بالحاضر، وهذا بالطبع عمل جليل يعبِّر عن وفاء أصيل وتقدير جمٍّ لهؤلاء الأعلام، والإمام حسن البنا رحمه الله واحد من هؤلاء الأعلام الذين ينبغي أن تخلَّد مآثرهم وتدرس أعمالهم وأفكارهم وفاءً وتقديرًا.

 

حسن البنا.. ومشروع النهضة الإسلامية

ولقد ترك الإمام البنا ذخيرةً فكريةً نادرةً، لا تتسم بالغزارة بقدر ما تتسم بالشمول والعمق، ولا تتسم بالنظر المجرد بقدر ما تتسم بصلاحيتها للتطبيق والتنفيذ، وفطن رحمه الله إلى حاجة الأمة الإسلامية للفكر العملي الذي يبني أمةً ويشيِّد نهضةً، فعمد إلى استخلاص عناصر النهضة وبلورتها في مشروع نهضوي يمكن تحقيقه بسهولة ويسر على أرض الواقع، كما خلف الإمام البنا وراءه تراثًا فكريًّا جديرًا بالبحث والدراسة من خلال مقالاته المختلفة في الجرائد والمجلات، وبخاصةٍ مجلات "المنار، والنذير، والشهاب، والفتح، والإخوان المسلمين" وغيرها.

 

حسن البنا.. وتجارب السابقين

 تأثر الإمام البنا بأفكار من سبقه من العلماء والمفكرين، وأبرزهم الشيخ جمال الدين الأفغاني والإمام محمد عبده، واتصل بأئمة عصره ومفكريه أمثال الأستاذ محب الدين الخطيب والشيخ طنطاوي جوهري والإمام أبو زهرة، كما أفاد من منهج الأستاذ رشيد رضا في الإصلاح، وبخاصةٍ في مجلته الرائدة "المنار"، واطَّلع على أفكار الحركات والجمعيات المعاصرة وصاغ منهجًا تجديديًّا متميزًا لخَّص فيه الأفكار والمشاريع النهضوية التي سبقته وجمع فيه خلاصة ثمرات العقول والقرائح الإسلامية التي عالجت الشئون العربية والإسلامية والإنسانية على اختلافها.

 

لذلك أثَّر في الخطاب الديني التجديدي تأثيرًا ملحوظًا.. تقول الباحثة الألمانية إيفيزا لوبن: أثرت حركة الإخوان المسلمين ومؤسسها حسن البنا تأثيرات حاسمة في الخطاب الإسلامي، من خلال هذا التأثير الملحوظ في التطورات الاجتماعية والثقافية والأيديولوجية في العالم الإسلامي أجمع.

 

حسن البنا.. والشمولية الإسلامية

كما تميز الإمام البنا بميزة تجديدية فريدة؛ حيث أبرز قيمة إسلامية كبرى، وأحيا ركيزة إسلامية جليلة كانت قد توارت وحُجبت عن الساحة الإسلامية بفعل الجهل والتخلف في المجتمعات الإسلامية تارةً والغزو الفكري الذي حاول استئصال عرى الإسلام تارةً أخرى.

 

هذه القيمة الإسلامية الجليلة هي شمولية الإسلام وصلاحيته للتطبيق في كل زمان ومكان واعتباره منهجَ حياة متكاملاً.. يقول الأستاذ راشد الغنوشي: "لقد نجح حسن البنا في إبراز الشمولية للإسلام، وصياغتها في رسائل مبسطة وشعارات واضحة في متناول الجميع، مثل تعريف الإسلام بأنه دين ودولة ومصحف وسيف واقتصاد وأخلاق، كما بلور حقائق الإسلام الكبرى في صيغ دقيقة واضحة مستخلصة من أصولها من الكتاب والسنة متميزة عن الفروع والجزئيات متحررة من الجدليات المذهبية الكلامية؛ بما سمح لأجيال الحركة الإسلامية المعاصرة أن تتحدث عن إسلام شامل عن عقائد الإسلام وعن قضايا عامة مثل الحكومة الإسلامية والاقتصاد الإسلامي والفن الإسلامي والتربية الإسلامية".

 

حسن البنا.. والوسطية الإسلامية

كما نجح في تقديم تصوُّر دقيق وعميق وشامل عن الإسلام وواجبات المسلم ومنهاج الحياة في عشرين فقرةً سماها "الأصول العشرين" تعتبر أقرب الصيغ إلى الوفاء بمنهاج الوسطية الإسلامية التي لا تزال تضبط تصورات التيار الرئيس في الحركة الإسلامية المعاصرة.. وبالخصوص من خلال ما تعرضت له من شروح وتعميق وتأصيل على يد تلاميذ البنا وخلفائه، مثل الشيخ الغزالي وسيد سابق والقرضاوي وعودة وسيد قطب ومحمد قطب والسباعي وفتحي يكن وفيصل مولوي وأنور الجندي وتوفيق الواعي وتوفيق الشاوي وغيرهم.

 

حسن البنا.. والمقاومة الإسلامية

 

كذلك استطاع الإمام البنا أن يحشد الجماهير المسلمة- على اختلاف ثقافاتها- في خندق واحد للدفاع عن الإسلام، فكريًّا من خلال مقاومة تيار التغريب والانحلال والتصدي لحملات التبشير والاستشراق، وعمليًّا من خلال المقاومة المسلحة ضد الإنجليز في مصر والاشتراك في الجهاد على أرض فلسطين ضد اليهود.

 

فهذه المظاهرات الإسلامية التي تغضب وتثور كلما انتهكت حرمات الإسلام ما هي إلا أثر من آثار الصحوة الإسلامية التي أحياها الإمام حسن البنا، وهذه الحركات الإسلامية التي تدافع عن المقدسات الإسلامية وترابط على الثغور الإسلامية ما هي إلا ترجمة عملية واستجابة منطقية لدعوة حسن البنا، وهؤلاء المفكرون الذين انتقلوا من معسكر التغريب إلى معسكر الإسلام يذودون عن حوضه؛ مدينون بالفضل لأفكار حسن البنا وتأثير جماعته وتلاميذه في الساحة الفكرية.

 

حسن البنا.. في التاريخ الحديث

لقد زخر التاريخ الحديث بالعديد من الأعلام، سواء في الفكر أو الأدب أو السياسة ممن تركوا بصمات واضحة في مسيرة الحياة المصرية الحديثة، كما حظي الكثير من هؤلاء القمم المصرية بالتكريم والتقدير في حياتهم أو في مماتهم، ونال بعضهم أحسن الجزاء على ما قدم، ولكن لا يزال حسن البنا هو أبرز رجل في التاريخ الحديث وليس التاريخ المصري فقط بل التاريخ العربي والإسلامي.

 

يقول روبير جاكسون في كتابه "الرجل القرآني": "زرت هذا الأسبوع رجلاً قد يصبح من أبرز الرجال في التاريخ المعاصر وقد يختفي اسمه إذا كانت الحوادث أكبر منه ذلك؛ هو الشيخ حسن البنا زعيم الإخوان".

 

وبالفعل لم يختفِ اسم حسن البنا ولم تكن الحوادث أكبر منه، بل كان أكبر من الحوادث وأجلَّ من المؤامرات، فقد سطَّر اسمه في التاريخ بأحرف من نور، وارتفع إلى مصاف المجددين والمجاهدين.

 

يقول الدكتور مصطفى السباعي: "حسبك أن تعلم مؤرخًا ما لن يستطيع أن يؤرخ لمصر الحديثة أو للقضية الفلسطينية أو للقضية العربية عامة أو لقضايا العالم الإسلامي؛ دون أن يترك فيه مكانًا لحسن البنا، ومهما اختلفت فيه آراء المؤرخين فلن يختلفوا فقط أنه أبرز الشخصيات المصرية أو العربية أثرًا في الحوادث التي ما زالت تتابع حتى الآن".

 

جيل قرآني فريد

كذلك بقي من الإمام البنا جيل فريد باقٍ مع الأيام، ينتشر في أصقاع الأرض، ويحمل معه نورًا جديدًا يسري في أوصال الدنيا.. لقد أدهش الإمام البنا الدوائر الفكرية والتخطيطية والتنموية بقدرته الفذة على تربية وإعداد جيل قرآني فريد، وتأليف جيل متناسق متناغم متنوع في الأفكار، متوحِّد في الشعور، كما يقول الشهيد سيد قطب بأنه استطاع تجميع تلك الأنماط من النفوس ومن العقليات ومن الأعمار ومن اللبنات كلها في بناء واحد كما تتجمع النغمات المختلفة في اللحن العبقري وطبعها كلها بطابع واحد، يعرفون به جميعًا، ودفعها كلها في اتجاه واحد على تباين المشاعر والإدراكات والأعمار والأوساط في ربع قرن من الزمان.

 

يقول الأستاذ أبو الحسن الندوي: "لقد أثر حسن البنا في ميول من اتصل به من المتعلمين والعاملين وفي أذواقهم وفي مناهج تفكيرهم وأساليب بيانهم ولغتهم وخطاباتهم تأثيرًا أبقى من السنين والأحداث، ولا يزال شعارًا وسمةً يعرفون بها على اختلاف المكان والزمان.. إنها آيةٌ من آيات الإبداع الإنساني المحوط بعناية الله تعالى!.

 

لقد استطاع حسن البنا أن يحوِّل الإسلام من مجرد قصص تقرأ وتاريخ يدرس؛ إلى حقائق ملموسة وقدرات عملية يراها الناس في المسجد في الشارع في البيت في الجامعة في البرلمان وشخصيات من لحم ودم يأكلون الطعام ويمشون في الأسواق.

 

وهكذا بقي حسن البنا فكرةً وتاريخًا وجهادًا وتضحيةً وجيلاً وأمةً، بقي حسن البنا كشجرة طيبة أصلها ثابت وفرعها في السماء تؤتي أكملها كل حين بإذن ربها.. فجزاه الله تعالى خير الجزاء وأجزل له المثوبة والعطاء وبارك في إخوانه وتلاميذه.

----- 

 أهم المصادر:

* "المشروع الإصلاحي للإمام حسن البنا" مركز الإعلام العربي.

* "الرجل القرآني" روبير جاكسون.

* "قالوا عن الإمام البنا" جمعة أمين عبد العزيز.